لأذكر أن مجلة الوطن العربي نشرت في السبعينيات كلاماً قال فيه الأستاذ هيكل: إن الرئيس عبدالناصر مات مسمومًا، وإن هيكل تعمد أن يشد شعرة من رأس الزعيم الميت، ولما خرجت الشعرة بسهولة تيقن هيكل من أن - الرجل مات مسمومًا.. وقد سألت أحد كبار رجال الأمن القومي في مصر- بعد أن خرج من كل مناصبه طبعًا وهو الأستاذ أمين هويدي- رحمه الله- عن رأيه فيما قيل من أن «ناصر» مات مسمومًا فقال إن صحفيين معينين يحبون أن يتظاهروا بمعرفة أمور لا يمكن لهم أن يعرفوها وقد كان سؤالي وجواب هويدي يتصلان بهيكل وما نشر في الوطن العربي، وإن لم نصرح بذلك، لا أذكر الآن إن كان ما نشرته الوطن العربي حول هذا الموضوع حوارًا مع هيكل أم كلامًا منسوبًا إليه بشكل أو بآخر، فأنا لا أرتب أوراقًا ولا أدون إلا ما يحتاجه عمل اليوم الواحد، فلست صحفيًا ولا شاهدًا علي العصر، بل أنا مجرد عابر سبيل لكني واثق أن كثيرين غيري قرأوا ما قرأت، لأن ما نسب إلي هيكل كان مادة لمحاورات ومجادلات بين صحفيين وسياسيين ومثقفين كثيرين في تلك الأيام، وحاول البعض تفسير ما قيل من أن ناصر مات بالسم، فقالوا إن ملكا عربيًا كان أمامه كوب عصير ووضع الملك فيه سمًا ثم أخذ كوب العصير الذي كان أمام ناصر وأعطي ناصر الكأس المسمومة، وبعد ذلك ظهرت قصة أخصائي العلاج الطبيعي الدكتور علي العاطفي الذي قيل إنه كان يدلك جسد «ناصر» بمرهم مسموم بتكليف من إسرائيل، وأن مناحم بيجين كشف سره للرئيس السادات بعد معاهدة السلام كدليل علي حسن النوايا وسجن الرجل ومات بعد انتهاء مدة سجنه لتموت معه أي قصة كان يمكن أن يرويها، وفي الشهور القليلة الماضية نشرت صحيفة مصرية أن أحد أمراء الخليج كان يرافقه خبير أمريكي في السموم حين جلسوا يشربون العصير مع ناصر، وكل هذه تفريعات من الشجرة التي غرسها هيكل عندما قال في السبعينيات إن ناصر مات مسمومًا. ولهذا فيبدو غريبًا أن يأتي هيكل ليقول لنا اليوم إنه واثق أن الرئيس جمال عبدالناصر مات بمرضه ولم يمت بالسم، والأغرب أنه وهو يسعي لهذا التأكيد يكرر تفسيره غير المقنع لكلام رئيس وزراء الصين الأسبق شواين لاي الذي ساقه قبل سنوات طويلة تبريرًا لاعتقاده بأن «ناصر» مات مسمومًا، فعندما كان هيكل في مرحلة سابقة يروج لفكرة الاغتيال قال لنا إن شواين لاي سأله مستنكرًا: كيف تركتم ناصر يموت في هذه السن المبكرة؟ وهذا الكلام يمكن فهمه علي أن شواين لاي يلوم مساعدي الرئيس الراحل، ومنهم هيكل نفسه علي أنهم حمَّلوا الرجل فوق طاقته فمات قبل الأوان، وهذا ما فهمه رجل الشارع مثلي من كلام الرئيس السادات عندما صرخ في بعض مساعديه وهم يقدمون له التقارير المطولة والمليئة بالأرقام والمعلومات: عايزين تموتوني زي ما عملتم مع عبدالناصر؟ عايز تقارير موجزة، وهذا الكلام سمعته من الرجل الذي كان يحمل التقرير الإعلامي اليومي للسادات والذي عمل بعد ذلك مع مبارك، لكن هيكل يصر حتي وهو ينفي شبهة الموت الجنائي هذه المرة علي تفسير كلام شواين لاي تفسيرًا يمضي في اتجاه شبهة القتل، فماذا يريد أن يقول؟ الأرجح أنه يريد أن يبرئ السادات، ولكن ليس بأسلوب الصحفي المعني بنقل الحقائق أو المحقق الذي يريد أن يجلو الغموض ولكن بأسلوب الكاتب المسرحي الذي يلجأ إلي الإيحاء ويتعمد الغموض والتشويق، فهل يمكن أن نعرف الحقيقة يومًا ما؟ نعم.. سنعرف حقيقة ما جري لعبدالناصر بعد أن نعرف حقيقة من قتل إبراهيم باشا ومحمد علي باشا وعباس باشا أقوي ثلاثة رجال في تاريخ الأسرة العلوية، وقد خرجت من قراءة مذكرات نوبار باشا بما يشبه اليقين أن إبراهيم ومحمد علي ماتا غيلة، وأن نوبار يعرف من قتلهما ومن قتل عباس، بل إن نوبار حدد موعد موت إبراهيم باشا باليوم الواحد قبل أن يحدث زاعمًا أن منجمًا هو الذي أخبره بذلك، وهذا ما تكرر عندما حذر أحد المنجمين بطرس باشا غالي من الموت قبل اغتياله قبل محمد علي باشا. قبل محمد علي باشا في الزمن المملوكي كان القاتل يطيح برأس السلطان علنًا ثم يجلس علي عرش القتيل، وبعد تأسيس الدولة الحديثة أصبح القتل عملاً غامضًا، والقاتل يذوب في الظلال، وربما لم يعد المستفيد من الجريمة يدري بشيء مما جري، فقد جاءت مع الحداثة تدخلات أجنبية غير مسبوقة ولم يعد أحد يدري من القاتل بل وربما لا ندري من القتيل، بدليل أن أم خالد الإسلامبولي قالت إنه لم يعدم، باختصار ما لم تأتِ الحداثة مصحوبة بسيادة القانون فلن تكون إلا مملوكية جديدة وسيظل السحرة يلعبون بنا ولن نعرف أبدًا من القاتل ولا حتي من القتيل.