كم يسعدنى أن اليوم هو آخر أيام شهر «يوليو».. وأننى سوف أعد له، فى المساء، كأس الوداع، وأضىء فى غرفته المتصببة عرقًا، شموع الرحيل. ليس بينى، وبين «يوليو»، أى خصام، أو عداء، أو حب من طرف واحد، أو غضب من شدة حرارته، وقسوة رطوبته. على العكس، فأنا أحب رقم 7 وأعتبره سرًا من أسرار الكون.. وهدية غامضة أرسلت إلينا ولسنا نعرف قدرها. فكيف إذن أكره الشهر «السابع».. أو حتى أسمح لنفسى بعتابه على شمسه الحارقة أو أتعجل رحيل نسائمه الخانقة؟! لكننى- رغم ذلك- سعيدة، بأن اليوم، هو الثوب الأخير الذى يرتديه «يوليو»، فى طريقه إلى بيته الأصلى. والسبب، أننى- ربما عكس غالبية الناس- أحب النهايات.. وأكره البدايات. أحب الشمس، حين تغرب.. لا حين تشرق.. أحب البحر عندما ينحسر بالجزر وليس حين يفيض بالمد، أحب الرشفة الأخيرة فى فنجان قهوتى الصباحية، أحب اللمسة الأخيرة بعد انتهائى من كتابة مقال، أو قصة، أو قصيدة. أعشق نهايات وقصص الحب.. وأنتظر بشغف رحيل الرجل، وليس قدومه، وحينما ألقى بجهاز ما فى سلة المهملات، لانتهاء عمره الافتراضى، تغمرنى لذة غامضة أكثر من لذة شرائه. ولست أدرى، لماذا أحس بذلك الكم الكبير من النكد، والغم، والارتباك، حين تمتلئ محفظتى بالنقود.. وحينما تودعنى أوراق البنكنوت، وترحل عنى، تجتاحنى فرحة، غريبة المذاق.. وأشعر بنوع نبيل من الهدوء النفسى، والسلام الداخلى، حينما أتخلص من الفلوس، وتعود محفظتى خالية، أحس بأننى أكثر «نفسى».. وأننى «أقرب» إلى طبيعتى، وشخصيتى، وأخلاقى.. وإذا جاءتنى بعض الفلوس، غير المتوقعة، لا أستريح، حتى أنفقها كلها، لأرجع إلى فطرتى المفقودة.. وحريتى المسلوبة، بسبب المال. «التخلص من الأشياء».. اكتشفت كم يريحنى.. يسعدنى.. يهدئنى.. يداوينى.. يعزينى، فى تلك المأساة العبثية، اسمها «الحياة». كم يزعجنى «الصباح»، بداية اليوم الجديد، ليس له معنى عندى، إلا بداية أخرى، للعبث.. وتكرار سئمته من فعل الأشياء.. ورؤية المشاهد نفسها، فى مسرحية الكون الهزلية.. والحيرة المفزعة، ماذا سأفعل منذ مجىء «الصباح» إلى أن يرحل؟ ينتهى وقت «الصباح»، ويرحل بعد أن أمرضنى، بالمزاج المتعكر.. والجسد الهمدان.. والحركة المعفرتة فى وجدانى. «وعندما يأتى المساء».. كما يشدو «عبدالوهاب».. و«نجوم الليل» «تنثر».. أشعر بالروقان.. والاطمئنان.. يهدأ توتر جسدى، وتنتظم دقات وجدانى.. وأنام ملء جفونى، لأن يومًا من أيام المسرحية الهزلية، قد رحل. كم يسعدنى، أن اليوم هو آخر أيام شهر «يوليو».. وأننى سوف أعد له فى المساء كأس الوداع وأضىء غرفته المتصببة عرقًا شموع الرحيل. وكما يسعدنى «التخلص من الأشياء».. ينطبق هذا أيضا على البشر. «التخلص من البشر».. كم يريحنى.. ويزيل قلقى.. ولأننى لست بقاتلة، فإننى لا أستطيع التحكم فى موت البشر ورحيلهم النهائى عن مسرح الكون. كل ما أستطيع أن أفعله أن أحدد مصيرى مع البشر ومصيرهم معى، وابتدعت المصير، الذى يعجبنى، ويريحنى، ويبقينى «كما أنا». «الابتعاد» عن البشر.. هذه هى الصيغة الوجودية، الوحيدة، التى تلغى وجود البشر، فى حياتى. «التخلص من البشر».. يجعلنى أكثر شعورًا بالأمان.. ويبقينى متألقة، سعيدة، مرتاحة. أوافق «سارتر»، حينما قال «الجحيم هو الآخرون»، وبالتالى، كان لابد لى أن أجد طريقًا أنا التى ترسم اتجاهاته للهروب من الجحيم، والفرار من نيرانه المتوحشة، المتحفزة، لإحراق كل شىء دون تمييز. أعيش أيام كل شهر، انتظارًا لتلك الفرحة النادرة، حين يأتى يومه الأخير.. يوم الرحيل. وتجىء الفرحة النادرة، اليوم.. آخر أيام شهر يوليو. والليلة، وعند غروب شمس الشهر السابع، سوف أعد له كأس الوداع، وأضىء غرفته المتصببة عرقًا، شموع الرحيل. وتناغمًا مع تكوينى الفكرى، والوجدانى، تكون سعادتى وفرحتى النادرة حين يهل مساء اليوم الذى يشهد مراسم رحيلى. أرحل عن عالم لا أنتمى إليه.. وعن مسرحية هزلية عبثية، لا تخجل من الإعادة، والتكرار، واستعطاف التصفيق.