تغيرت الأحوال فى أفريقيا كثيرا عن وقت النضال من أجل الاستقلال والكفاح ضد الاستعمار، ذهبت القيادات التاريخية التى عاصرت الدور المصرى الحيوى فى دعم المطالب الوطنية لدول القارة السمراء، تلك القيادات التى كانت القاهرة قبلتها فى السراء وفى الضراء. دار الزمن دورته الطبيعية .. بدأ نوع مختلف من العلاقات يطفو على سطح العلاقات المصرية ببعض الدول الأفريقية، تراجعت المشاعر الممتنة للدور المصرى، وبرزت جماعات سياسية محلية فى كل دولة، كما هو الحال عندنا، تبحث فى المسائل التى تجذب الانتباه إليها وتحشد حولها التأييد، وربما تسير وفق أجندات مرسومة بعناية لتحقيق توازنات دولية معينة. مسألة السيادة الوطنية واحدة من المسائل التى يروق لبعض الساسة التعامل عليها أحيانا بحق، وأحيانا أخرى من باب الاستسهال، ربما لكسب التعاطف، ربما لإخفاء أهداف أخرى، وربما لأسباب أخرى كثيرة ليس هذا أوان الخوض فيها. من باب السيادة الوطنية تسللت إلى أروقة المفاوضات حول إعادة تقسيم المياه فكرة إلغاء شرط الموافقة المصرية السودانية المسبقة على إنشاء أى مشروعات على منابع النهر فى دول المنبع، وهل تحتاج أثيوبيا إلى موافقة من الحكومة المصرية لتقيم مشروعا فى أراضيها، وهل تحتاج أوغندا إلى استخراج ترخيص من مصر والسودان لإقامة مشروع على أحد روافد النهر؟ تم تصوير الأمر على هذا النحو وتناولته وسائل إعلام فى تلك البلاد على تلك الصورة، رغم أن شرط التشاور حول مرفق مائى مشترك لا يخل بالسيادة لأنه ببساطة يطابق المعايير الدولية من ناحية، وتنظمه اتفاقات بين دول حوض النيل. أول اتفاق ينظم حصص المياه بين مصر ودول المنبع وقّع فى عام 1929 فى ظل الاستعمار البريطانى لهذه الدول، جرى تثبيت الاتفاق فى عام 1961 بإقرار قانون دولى ينص على اعتماد الاتفاقات المعقودة بين الدول خلال الحقبة الاستعمارية دون أى تغيير، هذا يعنى عدم المساس بقاعدة توزيع مياه النيل وأنها ملزمة تماماً مثل الالتزام بقاعدة عدم المساس بالحدود السياسية الموروثة عن الاستعمار بين الدول الأفريقية. جاءت بعد ذلك معاهدة فيينا لعام 1978 لتؤكد على هذا المبدأ بشكل مباشر وصريح، نظرا لوجود أنهار مشتركة بين أكثر من دولة فى أوروبا ذاتها. المثير للدهشة حقا هو الاتفاقيات الثنائية بين كل من أثيوبيا وأوغندا، الأول بين مصر وأوغندا فى عام 1991 والثانى بين مصر وأثيوبيا فى عام 1992 وكلاهما يؤكد على عدم المساس بحصة مصر من مياه النيل، مع ذلك فإن أوغندا وأثيوبيا ومعهما تنزانيا وبوروندى وقعت على اتفاق إعادة تقسيم مياه النيل وإلغاء الحقوق التاريخية والمكتسبة لدولتى المصب «مصر والسودان»، بينما اعتذرت كينيا ورواندا والكونغو الديمقراطية عن التوقيع وطلبت التأجيل. يشير هذا التطور إلى حدوث انشقاق بين دول الحوض حول الموقف من دول المصب، مما يفتح الطريق إلى مفاوضات جديدة، بالإضافة إلى أن مخالفة القانون الدولى بتجاهل حقوق مصر والسودان لن يحقق مصالح الدول التى أهدرت قاعدة الإجماع على أى نحو كان. هنا تستوقفنا حقائق أعتقد أنها على جانب كبير من الأهمية أولها أن معالجة الموضوع يجب أن تظل فى إطار فنى وآخر سياسى محترف، فلا مجال للهواة فى مثل تلك الموضوعات الحساسة، كما أنها لا تتسع للمزايدات حول كيفية الحفاظ على الحقوق المصرية خاصة فى موضوع الأمن المائى. هذا يعنى بصراحة أنه لا حاجة إلى تعبئة الرأى العام المحلى ضد الدول الأفريقية لأن ذلك يخلق حركة ونعرات مضادة فى تلك البلاد تجعل التفاهم حول المطالب المصرية أكثر صعوبة. ثانيا: يجب عدم التهوين من شأن المسألة، كما لا يجب أيضا التهويل فى خطورتها لتسبب ذعرا يستغله البعض استغلالا غير مسئول. ثالثا: البحث فى الأسباب الحقيقية التى أدت إلى انقلاب دول المنبع على دول المصب وإثارة الموضوع من زاوية السيادة والادعاء بملكية مورد طبيعى وتشبيه مياه النهر المتدفقة بالبترول فى باطن الأرض، وهو قياس فاسد لا يجوز الاحتكام إليه. تصحيح الأفكار يتطلب سعة الصدر وطول النفس، وشتان بين أن تكون دولة متحكمة فى مصدر طبيعى أو أن تكون مجرد مصدر له. سمعت أحد خبراء المياه الذين تكثف ظهورهم الإعلامى هذه الأيام يقول فى برنامج تليفزيونى إن أثيوبيا وحدها تتحكم فى 80% من مياه النيل، فى اليوم التالى لاحظت انزعاجا من هذا الكلام لدى بعض الناس الذين التقيتهم خلال نشاطى اليومى، مصدر الانزعاج كان كلمة «تتحكم». هنا نواجه خطأ فى استخدام الألفاظ يماثل تفسير إخواننا فى دول المنبع بأن حق الاعتراض على إنشاء المشروعات فى بلادهم ينتقص من السيادة الوطنية لبلادهم، كما أن حق الاعتراض فى جوهره يعنى التشاور حول ما يناسب مصالح ومنافع الجميع ولا يعنى مطلقا المساس بالسيادة الوطنية وحقها فى اتخاذ ما تشاء من قرارات، فإن أثيوبيا لا تتحكم فى مياه النهر ولا تستطيع اعتراض الفيضان فى موسمه كل عام، لكن الصحيح أن أثيوبيا هى مصدر الفيضان السنوى الناتج عن هطول الأمطار على هضبة الحبشة ومنها إلى النيل الأزرق بالسودان ليصل إلى مصر التى أقامت مفيض توشكى للمحافظة على السد العالى من مخاطر الفيضانات العالية. الصحيح أن أثيوبيا هى مصدر 80% من مياه النيل، لكنها لا تتحكم فى تلك المياه، كما أن من الحقائق الثابتة أن مايصل إلى مصر والسودان من مياه النهر لا يتعدى 4% من موارده. النزاع إذن على ماذا؟ هذا ما نريد حقا أن نعرفه!.