رسمت وسائل الإعلام المختلفة صورة للمشهد العراقي وكأنه مجرد سلسلة لا تنتهي من التفجيرات الدموية والصراعات السياسية التي لا تتوقف.. وتجاهلت استعادة قدرة العراق الكاملة علي تصديرالنفط خلال السنوات الأربع القادمة ليحتل مكانه كثالث أكبر دولة نفطية في العالم.. وتجاهلت الانسحاب الأمريكي من العراق خلال أقل من عام.. ولم تتحدث كثيراً عن أدوار إيران وتركيا وسوريا والسعودية.. بل وإسرائيل في الشأن العراقي.. ولم تشرح لنا لماذا يعتبر نوري المالكي أن استمراره في منصب رئيس الوزراء قضية حياة أو موت. ولم تجب عن السؤال الأخطر.. لماذا حذر إياد علاوي زعيم القائمة العراقية- الكتلة السياسية الأهم في الانتخابات الأخيرة من حرب أهلية ستجتاح العراق وسيمتد أثرها إلي المنطقة والعالم كله. - حياة أو موت مضي نحو سبعة أسابيع علي إعلان نتائج الانتخابات العراقية، ولم يتم الاتفاق علي تشكيل الحكومة نتيجة للاختلاف حول اسم رئيس الحكومة.. والذي يتطلب تحديده الحصول علي 163 مقعدا في البرلمان من إجمالي 325 مقعدا.. والمشكلة أن أيا من الكتل السياسية الرئيسية لم يحصل علي هذا العدد من النواب المؤيدين.. إياد علاوي زعيم القائمة العراقية والذي يحظي بدعم سوري سعودي تركي وقبول أمريكي حصل علي 91 مقعدا.. ونوري المالكي زعيم تحالف دولة القانون والذي يحظي بدعم غيرمحدود من طهران حصل علي 89 مقعدا.. والائتلاف الوطني (شيعي) بزعامة عمار الحكيم حصل علي 70 مقعدا والقوي السياسية الكردية مجتمعة حصلت علي 57 مقعدا.. ولم تغير عملية إعادة الفرز للأصوات في محافظة بغداد من هذه النتيجة من هنا اختلطت التفجيرات الدموية بالمفاوضات السياسية.. وتوالت زيارات القادة العراقيين لعواصم الدول المجاورة.. وطالب إياد علاوي بتدخل دولي لوقف الالتفاف علي الديموقراطية ومبدأ التداول السلمي للسلطة وطالب بحقه في تشكيل الحكومة القادمة.. وهدد بإعلان العصيان المدني وحذر من حرب أهلية ستجتاح العراق.. وطهران تحاول التهدئة.. وفي المقابل اعتبر نوري المالكي أن استمراره في منصبه قضية حياة أو موت.. وفسر بعض الساسة العراقيين ذلك بأن منصب رئيس الوزراء وفقا للدستور العراقي الذي وضع في ظل الاحتلال قد أعطي خاصة في المادة رقم 78 منه رئيس الوزراء صلاحيات ضخمة وسلطات واسعة جعلته يعمل علي إبعاد خصومه السياسيين ويدعم حلفاءه بشكل كبير، وبالتالي إذا فقد منصبه سيصبح في مرمي انتقام الخصوم.. وتحدث أعوان المالكي بصراحة عن محاكمات تنتظرهم إذا تغيرت حكومته.. من هنا كان الاستقواء بالخارج.. وكانت زيارات القادة العراقيين لطهران والرياض ودمشق وأنقره وغيرها.. وكان الترحيب بهم في هذه العواصم التي تسعي لزيادة نفوذها في العراق.. وأدي كل هذا إلي مانشاهده اليوم علي الساحة العراقية من نزاعات سياسية وتفجيرات دموية والسبب الأهم في ذلك هو أن كل الأطراف العراقية والإقليمية والدولية ترتب أوضاعها لما بعد الانسحاب الأمريكي المنتظر في أغسطس القادم طمعا في الجائزة الكبري، وهي العوائد الضخمة للنفط العراقي. - الصدمة آخر تطورات الموقف داخل العراق وأغربها ما أعلن يوم الثلاثاء قبل الماضي من اندماج ائتلاف دولة القانون بقيادة نوري المالكي مع الائتلاف الوطني الذي يضم المكونات الشيعية الرئيسية في العراق.. وأكدت بعض المصادر العراقية أن هذا الاندماج جاء نتيجة التوافق الأمريكي الإيراني والذي تم بوساطة كردية.. وفي وجود السفير الأمريكي السابق لدي العراق زلماي خليل زاده في إقليم كردستان.. ووجود ممثلي فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني.. بل وأعلن عن وضع برنامج الحكومة القادمة بمعرفة الشيخ همام حمودي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان المنتهية ولايته وأحمد الجلبي المقرب من كل من طهرانوواشنطن.. وعلي الرغم من الإعلان عن هذا الأندماج إلا أنه لم يتم حتي الآن الاتفاق علي اسم رئيس الحكومة القادمة مع أن طهران كانت قد استضافت ثلاث جولات لحوار شيعي شيعي تمهيداً لهذا الاتفاق.. وأعلنت بعدها أنها ستقف محايدة بين أربعة مرشحين لمنصب رئيس الوزراء من داخل الائتلافين (دولة القانون والوطني)، وهم إبراهيم الجعفري وعادل عبد المهدي وباقر جبر الزبيدي ونوري المالكي.. وقالت مصادر شيعية أن هناك اقتراحا لحل هذه المشكلة وهو الدفع بالمرشحين الأربعة لتصويت برلماني عام، ولكن المالكي يرفضه لأنه يقلل من فرص فوزه بمنصب رئيس الوزراء.. وربما رفض المالكي هذا الأقتراح نظراً الاعتراض التيار الصدري علي إعادة تنصيبه رئيساً للحكومة ورداً علي هذا الاتفاق الصدمة أعلن إياد علاوي (زعيم القائمة العراقية التي حصلت علي أعلي الأصوات في انتخابات 7 مارس) إن المجتمع الدولي خذلنا.. والعراق قد ينزلق إلي حرب أهلية بسبب محاولة بعض الأطراف تهميش مؤيدينا والمجتمع الدولي يكتفي بالفرجة.. وإذا لم تضمن واشنطن وحلفاؤها بناء واستمرار الديموقراطية الوليدة في العراق فإنه من الممكن أن يتجدد الصراع في هذا البلد وقد يتسع ليشمل المنطقة كلها ويمتد إلي العالم.. وقبل أن يستوعب علاوي وأعوانه هذه الصدمة.. وفي ظل هذا الجو المشحون بالتوتر اتخذ الأكراد موقفاً اتسم بالعقلانية الشديدة أوضحه سامي الأتروشي القيادي في التحالف الكردستاني قائلا.. تم الاتفاق علي تشكيل لجنة تفاوضية موحدة تمثل القوائم الكردية الفائزة في الانتخابات الأخيرة مهمتها الحوار مع الكتل الأخري.. والأكراد عموما ليس لديهم اعتراض علي أي شخصية مرشحة لمنصب رئيس الحكومة لكن لديهم ثوابت، ومن يلتزم بها نتحالف معه وهي الاعتراف بالمادة رقم 140 من الدستور والخاصة بالمناطق المتنازع عليها ووضع برنامج حكومي لتطبيقه، بالإضافة إلي حل مشكلة علاقة المركز بالإقليم.. وهكذا يفهم من الحوار مع الإخوة الأكراد أنهم يسعون بعقلانية إلي استثمار ما يملكون لتحقيق أكبر عائد لهم، فالأحزاب الكردية تملك 57 مقعدا لذلك وحدوا مواقفهم وأصبحوا رمانة الميزان التي ترجح من سيفوز بمنصب رئيس الوزراء القادم، لذلك تفاوضوا مع كل الأطراف العراقية والإقليمية الدولية وهدفهم واضح وهو الحصول علي أكبر قدر من المكاسب قبل أن يعلنوا موقفهم النهائي. - الهدف الأمريكي أغرب ما في هذا الأمر أن الولاياتالمتحدة بعد احتلالها للعراق سعت إلي بناء نظام سياسي جديد فيه يهدف صراحة إلي إحكام السيطرة الأمريكية علي ثروات العراق النفطية وتحويل العراق إلي حليف استراتيجي يمكن الاعتماد عليه في حماية المصالح الأمريكية في المنطقة.. ولكنها في نفس الوقت سمحت بتنامي النفوذ الإيراني في العراق، بالإضافة إلي نفوذ العديد من دول الجوار في هذا البلد.. والسبب في ذلك توضحه دراسة نشرتها مؤسسة أبحاث الدفاع الوطني الأمريكي - RAND - تحت عنوان «الانسحاب من العراق.. البدائل والمخاطر»، أوضحت الدراسة أن إيران والسعودية وسوريا وتركيا أطراف تلعب أدوارا متزايدة فيما يتعلق بقدرتها علي التأثير سلبا أو إيجابا في الانسحاب الأمريكي من العراق.. وأنه علي الرغم من أن إسرائيل ليست فاعلا رئيسيا فيما يتعلق بالانسحاب الأمريكي إلا أن تحركاتها الإقليمية وتأثير الانسحاب علي دور إيرانالإقليمي يؤثران علي المصالح الأمريكية بمعناها الواسع.. وتوقعت الدراسة أن تواجه منطقة الشرق الأوسط عددا من التحديات في أعقاب الانسحاب الأمريكي من العراق..حددت الدراسة هدف واشنطن مما يجري في العراق وحوله خصوصا بعد الانتخابات الأخيرة، وهو تشكيل حكومة عراقية موالية لها، وقادرة علي تحمل أعباء الانسحاب الأمريكي دون تفريط في المصالح الحيوية الأمريكية. ومثل هذه الدراسة تفسر لنا الكثير من المواقف المتعارضة أو الغامضة التي تتناقلها وسائل الإعلام المختلفة التي تزيد المشهد العراقي تعقيدا.. ففي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن إيران هي من سيملأ الفراغ في العراق بعد الانسحاب الأمريكي.. وأنه يؤيد اجتثاث البعث، كان منوشهر متكي وزير الخارجية الإيراني علي اتصال بنوري المالكي لرأب الصدع الشيعي ومعالجة تراجع النفوذ الإيراني في العراق وتهدئة المواقف.. وفي الوقت الذي اتهم فيه الجنرال راي أوديرنو قائد القوات الأمريكية في العراق إيران بالتدخل في الانتخابات العراقية وتمويل بعض الأحزاب الموالية لها.. وكشف دور رجل المخابرات الإيراني قاسم سليماني في دعم نفوذ طهران في العراق.. ردت طهران باتهام السعودية بتمويل حملة إياد علاوي ودعمه إعلاميا وسياسيا.. وانتقدت دمشق التي استضافت مؤتمرا لقوي المقاومة العراقية حضره بعض قيادات البعث.. وفي الوقت الذي اتفقت فيه سوريا والسعودية وتركيا علي الحد من النفوذ الإيراني في العراق ودعم التيارات الوطنية والقومية فيه كانت طهران تمارس أغرب ألاعيبها وهو العمل علي بناء توافق مذهل مع واشنطن لترتيب الأوضاع في العراق، وتساءلت صحفها عن مصير المال السياسي الذي تدفق من بعض دول الخليج لدعم مرشحين في الانتخابات العراقية. - توافق مذهل جاءت الانتخابات الأخيرة بنتائج غاية في الغرابة، حيث لم تستطع القوي الوطنية العراقية تهميش النفوذ الأمريكي أو الإيراني في العراق.. ولكن حدث العكس فقد استطاعت القوي العراقية الحليفة لإيران أن تحقق في الإجمال أفضل النتائج في الانتخابات، وكانت في نفس الوقت مرتبطة بشكل أو بآخر بالنفوذ الأمريكي وحريصة علي أن ترثه بعد انسحاب القوات الأمريكية وأن تكون الوكيل المعتمد لواشنطن في العراق.. ولذلك كانت هذه القوي العراقية حريصة علي بناء توافق مذهل أمريكي إيراني في العراق ؛ لأن هذا التوافق هو وحده القادر علي تأمين استمرار النفوذ الأمريكي في العراق بعد انسحاب قواتها من هناك وضمان استقرار هذا البلد، ولكن مشكلة هذه القوي العراقية تكمن في عمق الخلافات الأمريكيةالإيرانية خاصة فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني.. ولكن هذا لم يمنع سعي كل من طهرانوواشنطن لدعم هذه القوي العراقية وتأهيلها لتولي حكم العراق في المرحلة القادمة. ومازالت التفاصيل كثيرة.. ومازلنا في انتظار تشكيل الحكومة القادمة في بغداد.