في عام 1919 كان المصريون جميعا علي قلب رجل واحد يهتفون للثورة ضد المحتل، وكان شيوخ الأزهر مثل رجال الكنيسة من أهم الداعين للثورة والمحرضين عليها باستثناء رجل واحد لم يكن لحسن الحظ مشهورا وقتها ولم يكن لحسن الحظ يملك من النفوذ والتأثير أثناء حياته نفس التأثير الذي يملكه حاليا بعد وفاته . كان الرجل هو الشيخ محمد حامد الفقي وكان عالما شابا من علماء الأزهر خالف زملاءه في ميولهم الوسطية؟ والوطنية واعتنق المذهب السلفي. وكانت الأفكار التي اعتنقها هي دافعه لأن يناصب الثورة العداء، وكان دافعه لإعلان العداء أن النساء المصريات ولأول مرة في التاريخ شاركن في الثورة، بل إنهن شاركن بعد أن خلعن البرقع التركي واكتفين بالحجاب، كان الرجل يقول إن (خروج الاحتلال لايكون بالمظاهرات التي تخرج فيها النساء متبرجات). وإذا كانت مشاركة النساء في الثورة هي سبب اعتراضه الأول فإن مشاركة الأقباط واتحادهم مع إخوانهم المسلمين كانت سبب اعتراضه الثاني، حيث كان الرجل -ينكر علي الثورة أن يكون شعارها الرئيسي الذي مات تحت رايته عشرات الشهداء هو الدين لله والوطن للجميع! وكان يفصل رأيه أكثر فيقول إن قادة الثورة ومحركيها يجب أن يتبعوا ويعلنوا عقيدة الولاء والبراء لله ورسوله، والفكرة تعني ببساطة إعلان الولاء للإسلام وإعلان البراءة من أصحاب الديانات الأخري حتي ولو كانوا شركاء في الوطن، وحتي لو كانوا يشاركون إخوانهم المسلمين الثورة علي المحتل البريطاني الذي يشارك الأقباط في الدين، ومن حسن الحظ أن صرخات العالم المتشدد ضاعت أدراج الرياح ولم تسمعها الآذان التي كانت مملوءة بهدير الثورة وبهتافها الأشهر (يحيا الهلال مع الصليب ). -- لكن حسن الحظ الذي لازم مصر في 1919 تحول إلي سوء حظ في 2010 حيث تحولت أفكار الرجل عن نقاب المرأة واحتقاره للوحدة الوطنية وللوطنية نفسها إلي حقائق تفرض نفسها علي المجتمع وتتحدي ثوابت وقيم الجماعة الوطنية المصرية، بل تخرج لسانها لسلطة الدولة التي وجهت كل طاقتها لضرب الذين حملوا السلاح لفرض هذه الأفكار، لكنها لم توجه عُشر طاقتها لمواجهة الأفكار نفسها، وعندما سقطت المدافع من أيدي الإرهابيين وبقيت الأفكار لم تعرف الدولة كيف تواجهها ولا بأية طريقة ولا أي جهة هي التي ستكون مسئولة عن هذه المواجهة . -- لسوء حظ مصر أن هذا العالم الشاب لم يتراجع عن أفكاره ولم يجرفه تيار الوطنية المصرية الذي انساق خلفه المصريون جميعا، بل إنه بعد خمس سنوات من ثورة 1919 وفي عام 1925 قام بوضع حجر الأساس للوجود السلفي في مصر وبمشاركة اثنين من زملائه هما عبد الرازق عفيفي ومحمد علي عبدالرحيم وآخرين، أسس الرجل جماعة أنصار السنة المحمدية التي كانت أول كيان تنظيمي للسلفيين في مصر، وأصدر مجلة تعبر عن أفكاره هي مجلة الهدي النبوي، لعله من الغريب أن الجماعة التي أسسها الرجل الذي ظل علي هامش الحياة في مصر حتي وفاته في الخمسينيات هي نفسها التي خرَّجت في السبعينيات والثمانينيات أسماء مثل محمد حسان وأبوإسحاق الحويني ومحمد حسين يعقوب، وهم كما نعرف جميعا أشهر من نار علي علم، وقد أتيحت لهم الظروف التي جعلت أتباعهم بالملايين وثرواتهم بالملايين، ولعل هذا هو السبب الذي جعل نفس أفكار الشيخ الفقي عن المرأة والنقاب والأقباط التي لم يستمع لها أحد في 1919 تجد الملايين الذين يمكن أن يقتنعوا بها ويطبقوها في 2010 . -- والحقيقة أن الجمعية التي أسسها الشيخ الفقي ظلت علي هامش الحياة في مصر سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها وطوال سنوات الخمسينيات والستينيات، حيث كان لدي المجتمع مشاريع وطنية وثقافية وفكرية مختلفة عن الأفكار المتخلفة التي ترددها الجماعة بل إن عام 1969 قد شهد إقدام السلطات علي إغلاق الجماعة ودمجها في جمعية سلفية أخري هي الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة المحمدية. لكن تقلبات السياسة في مصر سرعان ما عادت بالجماعة في عام 1972 أقوي مما كانت بكثير علي يد الشيخ رشاد الشافعي الذي لم يكن عالما بالأزهر الشريف مثل سابقيه، ولكنه كان مديرا لمديرية التموين بمحافظة الجيزة، وقد عادت الجماعة في عهده وعهد خلفائه لتبني العشرات من معاهد إعداد الدعاة من المستوصفات الخيرية والمستشفيات ويتفرع عنها مئات من الجمعيات الخيرية التي تقدم الإعانات المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن مئات المساجد والزوايا التي سيطر عليها دعاتها، وهو ما جعل السلفيين موجودين في كل شارع وكل حارة في مصر، ولا شك أن هذه الانتعاشة كانت مرتبطة بالتوجه المعلن الذي اتخذته الدولة وقتها بدعم التيار الديني في مواجهة التيارات الأخري التي تخيلت أنها أكثر خطرا، ولاشك أيضا أن هذا الوجود السلفي كان الحاضنة الأولي للذين اعتنقوا أفكار السلفية وأسسوا تنظيمي الجهاد والجماعة الإسلامية، والمعني أنهم عبروا خطوة صغيرة من السلفية (العلمية) التي تعبر عنها جماعة مثل أنصار السنة المحمدية إلي السلفية الجهادية التي اعتنقها آلاف الشباب في مصر وعبرت عن نفسها بتنظيمي الجهاد والجماعة الإسلامية ثم تنظيم القاعدة علي المستوي العالمي، إذا كانت (أنصار السنة) الجماعة تمثل أحد أجنحة الوجود السلفي في مصر من خلال ما يسمي بالسلفية العلمية، فقد شاء سير الأحداث في مصر أن يلعب اثنان من رؤسائها الدور الأكبر في تأسيس الجناح الثاني للسلفية في مصر وهو جناح (السلفية الحركية) أو مدرسة الإسكندرية، وهو تنظيم يختلف من حيث نظرته للعمل السياسي، لفكرة ضرورة وجود تنظيم يجمع السلفيين. -- وبحسب شهادة د.ياسر برهامي أحد قادة التيار السلفي في الإسكندرية فقد كان هذا التيار جزءا من كيان آخر أكبر داخل جامعة الإسكندرية هو الجماعة الإسلامية التي دعمتها الدولة في جامعات مصر المختلفة ضمن سياستها في دعم التيارات الدينية، وقد كانت الجماعة تضم طلابا مختلفين أصبح بعضهم من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، والبعض الآخر من قيادات الدعوة السلفية في الإسكندرية التي كانت نسخة أكثر تسييسا وتنظيما من السلفية في مصر رغم أن اثنين من قادة الجيل السلفي القديم (جيل أنصار السنة المحمدية) قد لعبا الدور الأكبر في استقطاب طلاب جامعة الإسكندرية الذين صاروا فيما بعد قادة الدعوة السلفية وكان الاثنان اللذان ينتميان إلي مدينة الإسكندرية هما الشيخ عبد الرازق عفيفي والشيخ محمد علي عبد الرحيم، وقد تولي كل منهما رئاسة جماعة أنصار السنة ولعب كلاهما دورا كبيرا في تثقيف قادة التيار السلفي في الإسكندرية الذين ظلوا يعملون في إطار الجماعة الإسلامية حتي عام 1976حين بدأت جماعة الإخوان المسلمين في استقطاب العديد من العناصر داخل الكيان العام الذي كان يسمي بالجماعة الإسلامية، وبحسب رواية ياسر برهامي فقد أدرك السلفيون ضرورة وجود تنظيم يعبر عنهم، وقد تركزت قيادة التيار السلفي في الإسكندرية في خمسة طلاب كانوا يدرسون الطب، وقد صاروا عبر سنوات الثمانينيات والتسعينيات قادة للتيار الذي استمر في الاتساع والتنامي. - وكان الخمسة هم محمد إسماعيل المقدم الذي يعرف حاليا بإمام أهل السنة في مصر، وهو بمثابة عالم التيار ومفتيه وقائده، وزامله في رحلته الطبيب أحمد فريد الذي عرف طريقه للاعتقال مبكرا عن زملائه حين رفض حلق لحيته تنفيذا لتعليمات الخدمة العسكرية التي التحق بها وهو طالب، وأحمد عبدالفتاح إدريس الذي كان أول (قيم) أو رئيس للتنظيم السلفي السكندري الذي تأسس عام 1980 فضلا عن سعيد عبدالعظيم وهو أيضا طبيب تحول إلي داعية وعالم وغلبت عليه الاهتمامات الشرعية، فضلا عن ياسر برهامي وهو طبيب أسنان يشرف علي الموقع الإلكتروني الذي يعبر عن التيار السلفي السكندري وهو صوت السلف، وعلي خلاف الموقف المعلن للسلفية العلمية التي ينتمي لها الدعاة الجماهيريون والشعبيون من السلف، يهتم سلفيو الإسكندرية بالسياسة، لكنهم يرفضون العمل بها انطلاقا من فكرة أن (الديمقراطية) نفسها فكرة غربية وكافرة، وأن العمل السياسي يقتضي منهم تقديم تنازلات شرعية ليسوا علي استعداد لتقديمها، فضلا عن رؤية تكتيكية تري أن خسائر العمل السياسي في المرحلة الحالية أكبر بكثير من أي مكاسب يمكنهم تحقيقها من ورائه، وهو نفس الموقف الذي يتخذونه من أشقائهم من أتباع السلفية الجهادية، فهم يتفقون معهم في المنطلقات الشرعية والرؤية الفكرية، لكنهم يرون أن إقدامهم علي العمل المسلح في هذا التوقيت ينطوي علي إهدار لدماء المسلمين، لذلك يجب التوقف عنه وهم يرونهم مخطئين في الاجتهاد، لكنهم بالتأكيد لايرونهم قتلة أو إرهابيين أو خارجين عن الدين، وتحتفي بعض المواقع السلفية المصرية بمقطع فيديو لأيمن الظواهري يوجه فيه التحية لسلفي الإسكندرية رغم (الخلاف). -والحقيقة أن هذا يقودنا للإشكالية الكبري في التعامل مع التيار السلفي الذي يشبه - مع بعض التحفظ - ورما حميدا مرشحا للتحول لورم خبيث في أية لحظة، ومع ذلك لا يمكن استئصاله جراحيا، حيث يشبه التيار السلفي العلني في مصر طيارا ماهرا يطير تحت مستوي الرادار، لذلك لا يمكن رصده ولا إطلاق النيران عليه رغم إدراك البعض أن وجود الطائرة المعادية تحت مستوي الرادار لا ينفي كونها مصدر خطر، حيث يؤمن التيار السلفي بأفكار هي في مجملها ضد فكرة الوطن والمواطنة بدءا من تحريم البرلمان والانتخابات وعمل المرأة ودورها السياسي، فضلا عن عدم إيمانه بأن الأقباط شركاء في الوطن أو أن لهم أية حقوق، فضلا عن أفكار تبدو لنا نحن كوميدية مثل تحريم خروج المرأة دون نقاب وتحريم كرة القدم وتحريم الغناء بأنواعه والرسم والتصوير بأنواعه أو حلق اللحية أو ارتداء البنطلون ! ولأسباب متعددة ومعقدة استطاع هذا التيار تحقيق شعبية كبيرة ونشر هذه الأفكار في الشارع، وكان مما ساعده علي ذلك أنه علي خلاف السلفية الجهادية لم يناصب السلطة السياسية العداء بشكل واضح، وهكذا فإن عدم الجهر بالعداء للسطة ووجود وجهة نظر تري أن النفوذ السلفي يحد من نفوذ الإخوان المسلمين الطامعين في السلطة قد أدي لنوع من أنواع الارتباك في مواجهة هذا التيار خاصة أن الدولة قد اعتادت أن تكون الأجهزة الأمنية هي ذراعها الوحيدة في مواجهة الحركات الإسلامية، في حين أن ما يطرحه السلفيون هو مشروع ثقافي معارض للمشروع الوطني أو للمشروع الذي ينبغي أن تتبناه الجماعة المصرية كسبيل للنهضة وللحاق بالعالم الذي يتقدم من حولنا، لكن سيطرة هذه الأفكار علي المجتمع وخروجها من الهامش إلي المتن سيجعل من هذه النهضة حلما مستحيلا، وهو ما يعني أن الأمر يحتاج إلي مواجهة عاقلة تتسلح بالعلم والعقل والثقافة دون الالتفات للحسابات قصيرة النظر أو دون النظر تحت الأقدام، ولعلها ليست مصادفة أننا لم ننشغل بشيء هذا العام قدر انشغالنا بملهاة النقاب وبكارثة الفتنة الطائفية، وهما الأمران اللذان رأي مؤسس السلفية في مصر عام 1919 أنهما يسيران عكس ما يريد، ولعله الآن ينام قرير العين بعد أن تكفل أتباعه وتلاميذه بتحقيق ما يريد وأكثر !!