كنت أناقش مع الصديق حلمى النمنم تاريخ المشروع الصهيونى على أساس أن أقدم الوثائق القانونية المتعلقة بأطماع الصهيونية فى المنطقة وبالعلاقة الوثيقة بين هذه الأطماع وبين التصورات الغربية لأوضاع المنطقة هما فى حدود علمى الرسالتان اللتان وجههما حاكم مصر المملوكى على بك الكبير إلى القيادات التمويلية اليهودية فى المدن الألمانية فى القرن الثامن عشر، يتعهد فيهما بتفكيك الكيان السياسى العثمانى فى المنطقة وبالسماح بكيان سياسى يهودى فى فلسطين. وقد وردت إشارة إلى الرسالتين فى كتاب «نابليون والإسلام» الذى حرره هنرى لورانس وترجمه بشير السباعى. لكن حلمى النمنم صحح لى معلوماتى معتبراً الفرمان الذى أصدره السلطان سليم الأول، بمجرد أن آلت إليه السلطة فى مصر بانتصاره على نائب قنصوة الغورى وخليفته طومان باى بمنع اليهود من تملك الأرض وإنشاء المبانى فى شبه جزيرة سيناء هو أقدم دليل على صراع عربى/ عثمانى - صهيونى. لكنى كنت أحسب أن الفرمان التركى صدر ضد محاولة فردية من يهودى جاء من المغرب ضمن من زحفوا باتجاهنا من عرب ويهود بعد تضعضع القوة العربية فى الأندلس، وإن كنت قد تعجبت من صدور فرمان شاهانى ضد محاولة فردية. وقد كان هذا الفهم الخاطئ يعود إلى أن معلوماتى القليلة عن الموضوع جاءت من قراءتى لكتاب «اليهود فى مصر العثمانية» الذى حرره جاك لانداو ونشر بالعبرية فى 1988 قبل أن أقراه بالعربية بسنوات طويلة. حلمى النمنم أوضح لى أن المشكلة كانت تتعلق ببناء مستوطنة يهودية فى سيناء وأن قائد المشروع كان صهيونياً روسيا. ووفقاً لما قاله لى حلمى النمنم فإن أهل مصر اشتكوا لسلطان مصر المملوكى قنصوة الغورى ولما لم يتصرف بالحسم الواجب شكوا للسلطان سليم قبل أن تصبح بلادهم خاضعة له. لكنى لا أعرف أى مكانة تمتع بها المشروع الصهيونى فى أوروبا، وأى دعم رسمى لقيه الصهاينة من القوى الأوروبية قبل أن يتبنى السياسى البريطانى «بالمرستون» الصهيونية فى 1840 ويعتبره أداة مناسبة لمشروعات الهيمنة الغربية على منطقتنا، وهو التاريخ الذى يعتبره محمد حسنين هيكل وعبدالوهاب المسيرى تاريخ ميلاد الصهيونية السياسية، وهذا ينسجم مع فهم الاثنين لإسرائيل باعتبارها كيانا وظيفياً مهمته الفصل بين الجناحين الشرقى والغربى للعالم العربى. لكن إذا تذكرنا أن على بك الكبير كان مثل بعض باشوات فلسطين، وخاصة سيد عكا الجزار باشا، كان يدين بالولاء لروسيا القيصرية فسوف يكون ممكنا أن نعتبر أن الرسالتين اللتين وجههما على بك إلى الصهيونية العالمية قبل وعد بلفور بحوالى قرنين تعنيان أن الصهيونية كانت ناشطة فى روسياوألمانيا ومصر، بين النخب المالية والعسكرية السياسية وبعيداً عن الجماهير التى أذاقت اليهود فى روسيا مر العذاب حتى ثورة 1917 وفى ألمانيا حتى 1945. وقد وجدت خطابا للرئيس الأمريكى الثانى جون آدامز فى القرن الثامن عشر يظهر فيه تعاطفه مع حلم الصهيونية ب «العودة» إلى إسرائيل ولكن من منظور مسيحي يؤمل فى أن تكون هذه العودة سبباً فى تحول اليهود إلى المسيحية. وقد أصبحت هذه الخرافات التى روج لها سياسى أمريكى بهذا الحجم وفى مثل هذا التاريخ المبكر أساساً للترويج للمشروع الصهيونى باعتباره أداة مناسبة لكل تطلعات الغرب. فهل لا تزال إسرائيل مجرد أداة للمشروع الغربى فى منطقتنا أم أن العلاقات الوثيقة بين الغرب الأوروبى والأمريكى وبين النخب العربية جعله فى غير حاجة إلى وسيط؟ لا شك أن وجود مصالح لإسرائيل مع العرب تختلف عن مصالح الغرب معهم هو الذى يمكن أن يحدث تحولاً فى علاقات الغرب بإسرائيل وفى طبيعة الصراع العربى - الإسرائيلى، وهو الأمر الذى لم يحدث حتى اليوم، ولا يمكن أن يحدث وسط تحول إسرائيل إلى أمة من المستوطنين تقف وبعد اختفاء الدعوات اليهودية إلى تجاوز الصهيونية وفى ظل ساسة مثل بنيامين نتنياهو يعتبرون إسرائيل دولة أوروبية فى الشرق ومع غياب أى تصور للمستقبل يبدعه الفلسطينيون ويشركون فيه أهل الضفة وأهل غزة مع عرب إسرائيل مع فلسطينيى الشتات. اليهود يملكون مشروعاً سياسياً منذ خرجوا فى ذيل حلفائهم العرب من الأندلس، فى رأيى، ومن فجر التاريخ فى رأى حلمى النمنم. أما عرب فلسطين فأقوالهم وأفعالهم لا تشير إلى شىء من ذلك.