أوضحنا فى المقالتين السابقتين أننا لن نتمكن من بناء مستقبلنا حتى تتوافر لدينا منظومة أخلاقية تتمتع بالقوة والمرونة والقدرة على تجديد نفسها، وأن مشكلتنا تكمن فى أننا نعيش فى القرن الواحد والعشرين بأخلاق القرن الثانى عشر، حيث نجحت الإيديولوجية الوهابية فى فرض «تماهى لا معرفى» بين الدين والأخلاق، فأصبحت أوامر ونواهى الأديان لا أحكام العقل هى مصدر الأخلاق ومعيارها، مما شرحنا فساده بل وكارثيته. ولقد كان مقدرا أن نستكمل اليوم حديثنا حول مقتضيات بناء منظومة أخلاقية حديثة، لولا رسائل وصلتنا يحتج فيها أصحابها على دعوتنا للفصل بين الدين والأخلاق، على أساس أن الدين يمثل رادعا أخلاقيا يحمى الفرد والمجتمع من الكثير من الأمراض والآفات الأخلاقية مثل تعاطى المخدرات والمسكرات والسرقة والرشوة والإهمال والشذوذ الجنسى وزنى المحارم وغيرها، وأن صلاح المجتمع فى تنشئة الأجيال الجديدة على الوازع الدينى، والالتزام بتعاليم الأديان، والخوف من العقاب الإلهى، وليس على قواعد التربية المدنية الحديثة التى تعتمد على تقوية الوازع الذاتى «الضمير»، والثقة بقدرة العقل على إصدار الأحكام، واحترام الآخر، والتزام القانون. ورغم أن كل ما وصلنا من رسائل يخلو من أسس معرفية أو عقلية يمكن مناقشتها، ويدور معظمها حول مرسل الأقوال والحكم والمواعظ القديمة وبعض آيات من القرآن والإنجيل، إلا أننا سنلقى اليوم نظرة فيما إذا ما كان الوازع الدينى يمثل رادعا أخلاقيا يمنع الأفراد من ارتكاب الرذائل، بل ومن استمراء تكرارها، أم أن هذا محض ادعاء؟ إن للوازع الدينى أثره بلا جدال فى تهدئة النفس البشرية، وقبولها بما قسم لها، وطمأنتها إلى سبل الرزق، وإعطاء الناس أملا فى حياة أفضل بعد الموت، ولكنه لا ينعكس بهذه الإيجابية فيما يتعلق بسلوكيات الناس اليومية أو فى تنظيم وإدارة المجتمعات. فعلى حين نجد أن قواعد القانون المدنى الوضعى ومواده تنتصر لمبادئ الأخلاق والمثل العليا انتصارا حاسما، ولا تقبل فى ذلك مساومة أو شفاعة أو وساطة، وتطبق على مخالفيها عقوبات فورية رادعة، لا يمكن التهرب من أدائها أو إسقاطها مهما كانت منزلة الشخص أو إنجازاته، نجد أن اهتمام الأديان ينصب فى الأساس على جذب الناس إليها، وضمان ولائهم لها، وعبادة الله تحت راية هذا الدين دون ذلك، ويأتى اهتمامها بقواعد الأخلاق والقانون فى المرتبة الثانية. فالأديان تقرر عقوبات شديدة بل مرعبة للمذنبين تتدرج من عذاب القبر، والثعبان الأقرع، إلى صب المعادن المنصهرة فى آذانهم والحرق بالنار، وصولا إلى الخلود فى عذاب السعير، ولكن يعيبها كأداة ردع وزجر أنها: أولا: عقوبة مؤجلة، أى تطبق أساسا فى الحياة الأخرى، وقد تعجل فى الدنيا، ولكنها فى الحالتين ليست فورية. ثانيا: أنه يمكن التهرب منها وإسقاطها نهائيا بعشرات الوسائل، منها الصدقات والحسنات اللاتى يذهبن السيئات، والاستغفار، والتوبة، والصلاة وصوم رمضان فمن صامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، أو بالإكثار من العمرة، فالله يغفر ما بين العمرتين، أو بالحج الذى ينقى المسلم من الذنب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، أو بشفاعة الرسل والأئمة والأولياء، وأخيرا برحمة الله التى وسعت كل شىء فى الآخرة، فالله يغفر جميع الذنوب إلا أن يشرك به «قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» «الزمر 53»، ولا تتطلب المغفرة فى المسيحية كل هذا العناء، فالمسيحى يكفيه الإيمان بذبيحة المسيح الكفارية التى تغفر جميع خطايانا، منذ أول خطية، خطية آدم، إلى آخر خطية يرتكبها آخر إنسان على الأرض، بشرط أن يتوب ويطلب مغفرة دم يسوع المسيح المصلوب، وأن تشهد الكنيسة التى يتبعها على صحة إيمانه، يكفيه هذا الإيمان لكى يغفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر. لهذا فإن مرتكبى الذنوب والجرائم خاصة الكبرى منها كالقتل والسرقة والزنى يعلمون ولا شك بحرمتها دينيا، وبالعقاب الرهيب المنتظر، ومع ذلك يضعفون أمام شهواتهم ويأتونها لأنهم يأملون فى إمكانية التهرب من العقاب عن طريق أى من الوسائل الكثيرة السابقة. بعكس القانون الوضعى البشرى الذى ينزل بالمذنبين عقوبات فورية معجلة لا يمكن إسقاطها، ولا أمل فى التهرب من أدائها. والحق أن رحمة الله ومغفرته تفوق كل تصور، فنقرأ فى تفسير ابن كثير للآية السابقة من سورة الزمر أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا الرسول فقالوا إن الذى تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: «قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا» هكذا رواه مسلم. وجاء إلى النبى شيخ كبير يدعم على عصا له فقال : يا رسول الله إن لى غدرات وفجرات فهل يغفر لى ؟ فقال الرسول: ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : بلى وأشهد أنك رسول الله، فقال الرسول: قد غفر لك غدراتك وفجراتك «أخرجه أحمد». وفى تفسير القرطبى أن الآية قد نزلت فى وحشى قاتل حمزة، إذ جاء إلى الرسول وقال له: إنى أشركت بالله وقتلت النفس التى حرم الله وزنيت، هل يقبل الله منى توبة ؟ فصمت الرسول حتى نزلت «والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون» إلى آخر الآية..الفرقان 68 فتلاها عليه، فقال أرى شروطا، أنا فى جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» النساء 48. فدعا به فتلا عليه، فقال : فلعلى ممن لا يشاء، أنا فى جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت : «قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» فقال : نعم الآن لا أرى شرطا. فأسلم. وفى سعد السعود، لابن طاووس نقلا عن تفسير الكلبى : بعث وحشى وجماعة إلى النبى أنه ما يمنعنا من دينك إلا أننا سمعناك تقرأ فى كتابك أن من يدعو مع الله إلها آخر ويقتل النفس ويزنى يلق آثاما ويخلد فى العذاب، ونحن قد فعلنا ذلك كله فبعث إليهم بقوله تعالى: «إلا من تاب وآمن وعمل صالحا» فقالوا: نخاف ألا نعمل صالحا. فبعث إليهم: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» فقالوا: نخاف أن لا ندخل فى المشيئة. فبعث إليهم : «يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا» فجاءوا وأسلموا. كذلك نرى الكتاب المقدس ينسب لأنبياء الله أحقر الجرائم المخلة بالشرف والمروءة والضمير ثم يطلب منا تقديسهم والاقتداء بهم للفوز بالآخرة التى فازوا هم بها، مما يؤدى لاهتزاز معنى الأخلاق فى ذهنية المتدينين، ويخلق لديهم نوعا من ازدواجية المعايير، ويؤكد لهم إمكانية إسقاط العقوبات الإلهية، فإبراهيم أبو الأنبياء يطلب من زوجته سارة وكانت على جمال باهر أن تدعى أنها أخته، ويدع ملك البلاد يفتن بها ويضمها إلى حريمه فى سبيل منافع مادية، ويفعل ذلك مرتين فى مصر وفى أريحا بفلسطين، وهذا النبى لوط يسكر ويزنى ببنتيه، ورؤوبين ابن النبى يعقوب يزنى بامرأة أبيه، والنبى داود يتآمر على قتل جاره وقائد جيشه ليعاشر زوجته الفاتنة، إلى آخر ما نسبه الكتاب المقدس للأنبياء من موبقات. إذن فالنصوص الدينية قطعية الدلالة فى الكتب السماوية تؤكد أن مجرد الدخول فى هذا الدين أو ذاك أو التوبة النصوحة تغفران جميع الذنوب على الإطلاق، بما فى ذلك الجور على حقوق البشر وسفك دمائهم «القتل» وانتهاك أعراضهم «الزنى». وهذه دون شك أعظم نعم الله على عباده، فهى تحبب إليهم الإيمان، وتفتح لهم باب التوبة على مصراعيه مهما عظمت ذنوبهم وغدراتهم وفجراتهم، ولكنها فى نفس الوقت تضعف من أثر العقوبات الدينية، ولا تردع الناس على ارتكاب أفظع الجرائم. من ثم فالاعتماد على الوازع الدينى فى تنشئة الأفراد، وإصلاح المجتمع ومواجهة الآفات الاجتماعية أمر يحتاج إلى إعادة نظر، ويجب أن يقوم الإصلاح على مبادئ التربية الحديثة التى أخذت بها شعوب العالم المتقدم، من تقوية النزعة الإنسانية، وتنمية الوازع الذاتى، وتهذيب الوجدان البشرى عن طريق تعميق الإحساس بقيم الجمال والحب والخير، والتدريب المستمر على احترام الآخر، والتزام القانون، واستلهام أحكام العقل فى استحسان الأفعال أو استقباحها، فيستقيم حال الأفراد، وتنصلح أحوال المجتمعات، ثم يكون للأديان بعد ذلك أثرها فى الارتقاء بأتباعها فوق مستوى البشر إلى مصاف الأبرار والأطهار والقديسين. ولعل هذا المنهج وذلك الترتيب هو ما عناه نبى الإسلام «صلى الله عليه وسلم» فى قوله : خياركم فى الجاهلية، خياركم فى الإسلام إذا فقهوا.