أذكر عندما كنت فى المدرسة الثانوية أن جميع الطلبة تقريبا كانوا يضجرون من الطقس اليومى الثابت الخاص بتحية العلم .. روتين مللناه بسرعة، خاصة أنه لم يكن يحمل - بالنسبة لعقولنا الصغيرة - أى معنى مفيد، ولم يكن مجرد ترديد: "تحيا جمهورية مصر العربية" ثلاث مرات كل صباح يزيد من رصيد انتمائنا للبلد بمقدار ذرة .. لهذا توصلنا إلى حل توافقى عجيب يرضى أساتذتنا ويجعلنا نمارس هذا الدور التمثيلى المرسوم بدون أن نشعر بالملل، فكنا نردد خلف الطالب المسكين أى تركيبة ملفقة من الحروف تصلح لأن تكون "تحيا جمهورية مصر العربية" لمن يسمعها وسط الضجيج! تذكرت عبث الصبية اللطيف هذا عندما وجدت أن ظاهرة الالتفاف حول العلم أهم ظواهر 2009 اللافتة، لأننى أظننا جميعا - من لوحوا بالأعلام ومن دهنوا بها وجوههم ومن رفعوها على شرفات منازلهم - لم نفهم المغزى الحقيقى لحمل العلم! فلاش باك فى الدقيقة السادسة من الوقت بدل الضائع يرفع "أحمد المحمدى" كرة مقوسة من الناحية اليمنى وسط سحب الدخان التى غطت استاد القاهرة .. الكرة تتخطى الدفاع الجزائرى المغيب لأنه خرج من جو المباراة تماما بعد هدف متعب القاتل الذى جعلهم سكارى وما هم بسكارى، لتجد "محمد بركات" المتقدم وحيداً من الناحية اليسرى .. يضع بركات باطن قدمه فى الكرة ويرسلها نحو المرمى لتنخلع قلوب الملايين. لو حدث السيناريو الموازى ودخلت هذه الكرة إلى المرمى لكان أهم حدث قومى فى العقد الأول من الألفية الثالثة .. كان الشعب المصرى سيتفجر عن بكرة أبيه فى صخب سيوقظ الموتى، وسيخرج الشيوخ يذرفون دموع الفرح فى الطرقات، ولرأينا العلم المصرى معلقاً على المدبغة والقهوة والمستوصف والمسجد والكنيسة .. وقتها سيمتنع اللصوص عن السرقة والقراصنة عن النهب، وربما يتوقف فيروس أنفلونزا الخنازير عن إصابة المزيد من الحالات حباً فى هذا الشعب الذى بلغ قمة السعادة البشرية. تمعن : بطن رجل "محمد بركات" خذلت شعباً بأكمله وأجهضت الحلم الوطنى المصرى. ستستمر هذه الجنة الشعورية أسبوعا بعد المباراة، وفيه سنعيد اكتشاف كم أن مصر بلد عظيم فعلاً، وأن المصرى لا يستسلم أبدا وهو قادر على صنع المعجزات إن أراد (هدفان فى الوقت الضائع ؟ .. روح أكتوبر) وسنشعر كلنا بالفخر لأننا أبناء هذه الحضارة التى تتجدد دائما عبر السنين. ثم ؟! لاشىء .. ماذا تريد أكثر من ذلك ؟! .. لقد فرحنا ورقصنا وشعرنا بنشوة الإنجاز وانتهى الأمر .. فى الأسبوع الثانى بعد أى بطولة سيعود كل شىء إلى سابق عهده، يستوى فى ذلك إن كنت قد حققت النصر أو تجرعت الهزيمة .. وهذه هى مشكلة الفوران العاطفى الذى لا جذور له على أرض الواقع، إنه يلتهب فى وقت قصير، لكنه يلتهم نفسه ويخبو سريعاً ولا يترك تأثيراً دائماً أو قاعدة ثابتة نبنى عليها أو نمطا سلوكيا مستمرا، ولهذا يجيد المصرى دائما فى (الأوقات الصعبة) لأنه يستطيع أن يحتشد بقوة هائلة فى وقت قصير كعدّائى المسافات القصيرة، بينما من الصعب عليه أن يحافظ على مستوى ثابت من الجدية والأداء لفترات طويلة. فى اليوم التالى مباشرة لمأساة أم درمان الحزينة لاحظت تناقصا مرعبا فى عدد الأعلام المعلقة فى الشارع .. من بين نحو عشرة أعلام فى الشارع الذى أسكن فيه لم يبق غير الذى يرفرف فى شرفة منزلى .. وبدافع من عناد صبيانى حملت العلم الذى تيتم فجأة كوشاح على كتفى ونزلت به إلى العمل .. كان رأيى أن هذا هو الوقت الأنسب للتمسك بالرمز، فأنت لا تساند ابنك أو أباك إلا وهو فى المحنة، وفخرى ببلدى لا علاقة له بنتيجة مباراة .. علم عند الهزيمة إذن يساوى عشرةً عند النصر .. لكنى اصطدمت بنظرات الحزن والانكسار فى عيون كل من مررت بهم فى الشارع .. يرمقون قطعة القماش التى أضعها على كتفى بنظرات زائغة ثم يشيحون بوجوههم بعيدا ولسان حالهم يقول: "متقلبش علينا المواجع" .. وبعد فترة تسرب إلى داخلى شىء من الخجل .. وقلت لنفسى: لا داعى لأن تعذب هؤلاء المصريين برؤية علم بلدهم أكثر من ذلك! تمعن: كان الهدف من حمل العلم سابقا إذن هو جلب السعادة والفخر.. لكن عندما نخسر فلا داعى للوطنية! لا أرغب فى ترديد أكلاشيهات محفوظة مثل: "إن الإنسان المصرى لم يعد يستطيع إثبات نفسه فى أى مجال، لذلك أوكل إلى هؤلاء الأحد عشر رجلا مهمة تحقيق الإنجاز له وهو جالس لا يفعل شيئاً أصعب من مداعبة أزرار "الريموت" .. لكن الذى يلفت النظر هو هذا التناقض الصارخ بين فكرة حمل العلم (الرمز الذى مات الكثيرون من أجل أن تزدان به الضفة الشرقية للقناة) وبين تصرفاتنا اليومية التى نعتبرها طبيعية، والتى تكشف عن حقيقتنا بعيدا عن ماكياج الثمالة بالنصر .. فصديق لى تزوج حديثا، ظل يرقص طوال الليل وهو يهتف باسم مصر الحبيبة حتى جفت حنجرته، ثم عاد إلى شقة الزوجية فى القاهرةالجديدة سعيدا بالفكرة التى تعلمها مؤخراً واستطاع بها أن يسرق من عداد الكهرباء !.. هو يحب مصر جدا ولكنه يسرقها ولا يجد أى تناقض فى الأمرين .. بالمثل الموظف الحكومى الذى اشترى لكل طفلة من بناته الثلاث علما كبيرا كان فخوراً بما فعله، وكان منتمياً أفضل ما يكون الانتماء وهو يعود فى الصباح إلى المصلحة التى يعمل فيها 26 دقيقة يومياً .. إن الرجل يحب مصر، ومستعد لأن يفتح كرش من يتناولها بكلمة واحدة خاصة لو كان من بلد بعينه، لكنه لا يربط بين هذا الحب وبين إتقان العمل .. "أنت ليه عايز تدخل أبو قرش مع أبو قرشين"؟ حبنا للعلم المصرى هو حب من طرف واحد .. نحن نحبه (أو على الأقل نظن أننا نحبه) لأنه يمثل لنا رمزا، هو تكثيف للهرم والنيل وسيد درويش ونجيب محفوظ، لكنه لا يحبنا قطعاً لأننا لا نفعل شيئا يعزز هذا الحب .. نحن بالضبط كالعاشق الأنانى ينتظر من الطرف الآخر كل شىء ولا يريد أن يعطى شيئاً .. وعندما لا يأتيه هذا (الكل شىء) ينزعج ويغضب ويطوى العلم لأنه قد خذله .. هذا بعيد جداً عن علاقة الحب الصحية بين المواطن الأمريكى وعلمه الذى يسميه (راية النجوم الساطعة) .. هؤلاء قوم يحبون علمهم حتى صار له .. Nickname!! تجده معلقا هناك بشكل دائم فى أوقات لا علاقة لها بالأجندة الرياضية .. والكثير من الأمريكيين الفقراء الذين يعيشون فى عربات المقطورة يرفعون (راية النجوم الساطعة) هذه على المدخل لأنهم أدركوا أن الانتماء للوطن قضية مسلم بها لا تتوقف على أهداف تحرز فى الوقت الضائع! تمعن : دائما ما نشتكى من عدم وجود مشروع قومى يجمعنا تحت رايته، رغم أن الحلم الأمريكى نفسه هو النجاح الشخصى! لا أظن أن التفاف المصريين حول العلم هو ظاهرة يختص بها عام2009 .. فهذا ما تكرر حرفيا عقب بطولتى 2006 و2008 فى ديجافو ثلاثى نادر الحدوث .. وأظنه حدث فى 1989 عقب مباراة الجزائر وفى 1990 عقب مباراة هولندا .. بل إنه مرشح للتكرار من جديد فى 2010 لو وفق الله فريق الكرة فى أنجولا .. وهو شىء بائس جدا لو لاحظتم ما أقصده .. فوطنيتنا الآن وحبنا للبلد وخروجنا سعداء فى الشوارع بأعلام مصر أصبح مرهوناً بفريق رياضى محدد، إن انتصر خرجت الأعلام من مكامنها وطلينا بها وجوهنا وغنينا: "يا حبيبتى يا مصر"، ولو خسر فوطنيتنا تتراجع فى ترتيب الأولويات .. لماذا لم نحمل الأعلام ونجوب الشوارع عندما حصل يوسف زيدان على جائزة البوكر الأدبية المرموقة وقبله بهاء طاهر؟! .. لماذا لم نحمل الأعلام ونجوب الشوارع عندما فاز فتحى عبد الوهاب بجائزة التمثيل من مهرجان القاهرة السينمائى ؟ .. لماذا لم نحمل الأعلام ونجوب الشوارع عندما حكم على هشام طلعت مصطفى بالإعدام وهو رجل السياسة والمال القوى الذى ظن الكثيرون أنه فوق القضاء ؟! .. هل سنحمل الأعلام ونجوب الشوارع عندما نبنى أول مفاعل نووى مصرى ؟ .. أتمنى! لكن ولأننا شعب ذو ذاكرة ضعيفة ولا نملك ثقافة تراكم الخبرات التى تميز التفكير العلمى فستعود علينا نفس الوجوه لتسأل نفس الأسئلة وهى ترتدى نفس البدل: "كيف نحافظ على هذه الروح؟" و "كيف نستثمر ما حدث؟" و"كيف يصبح الانتماء لمصر هو القاعدة وليس الاستثناء؟". بالتأكيد أسئلة كهذه لن يجيب عنها برنامج تليفزيونى مدته ساعتان (بخلاف الفواصل الإعلانية) .. ولو كان من الممكن للإنسان أن يتعلم الانتماء الصحيح بمجرد قراءة موضوع فى مجلة لبيع هذا العدد بسعر اليورانيوم المخصب .. لكن إذا كنا نبحث حقا عن طريقة لإبقاء هذه الجذوة الوطنية مشتعلة دوما فى الصدور فالطريق طويل وما أعسره! .. ويبدأ بأن يتعلم أبناء هذا البلد تاريخهم الحقيقى، وليس أن فرعونا ما بنى هرما ما فى أسرة تاريخية ما لكى يسهل لنا الحصول على العملة الصعبة عندما يأتى السياح لزيارته، وأن يتعلم المجتمع (كباره قبل صغاره) قيمة العمل الشاق المرهق، ويتخلى عن حلم الثروة السهلة التى ستأتيه بمجرد أن يتصل برقم هاتف معين أو يوفق إلى فتح العلبة الصحيحة قبل أن ينتصر عليه (البونك) .. وأن نفهم أن الوطنية الصحيحة ليست أن نسب الجزائريين على صفحات الإنترنت ونعايرهم بمساعدات الماضى، ثم نضع صورا لكوبرى استانلى أو حديقة الأزهر فى جروب على الفيس بوك بعنوان مثل: هذه هى مصر الرائعة، كدليل يخرس أفواه الأعادى على تطور مصر الحضارى الذى لا يدحض، بينما نحن فى الواقع لا نساهم فى هذا التطور المزعوم بأى شىء يذكر. فكرة غريبة خطرت ببالى قررت أن أنهى بها الموضوع: ماذا لو كان لمنتخب كرة القدم المصرى علم خاص به (يحمل صورة أبوتريكة ورفاقه مثلا على خلفية خضراء) هل كان الناس سيحملون علم مصر بهذه الكثافة، أم أن نسبة الأحمر والأبيض والأسود كانت ستتضاءل؟! .. بتبسيط أكثر: هل كان هؤلاء السعداء الراقصون فى الشوارع ينتمون لمصر أم ينتمون لمنتخب مصر؟!