خلال ساعات قليلة توحد وطن كامل حول مشاعر الحزن والإهانة فوَحدته وكأنها أُعلنت المشاعر الرسمية للبلاد.. توقفنا للحظات لنسأل أنفسنا "كل ذلك من أجل لعبة الكرة؟".. لكن سرعان ما ذاب تساؤلنا أمام سيل من المشاعر الجارفة كانت أقوى من أى تساؤل يبحث عن إجابة منطقية.. مشاعر جارفة لا نقول وليدة إنما هى مشاعر أعيد اكتشافها.. كانت كامنة داخلنا ففجرها الموقف.. تخلصت وطنيتنا فى لمح البصر من التشوهات التى أصابتها على أيدى دعاة كراهية الوطن على مدار سنوات.. أزيلت كما تزال مساحيق التجميل أو لنقل مساحيق التقبيح إن جاز التعبير.. وكنا نظنها تشوهات راسخة تحتاج إلى جلسات علاج مكثفة غير مضمونة.. هكذا قال لنا الخبراء. حزننا كان من نوع خاص.. حزن أضاف إليه توحدنا نكهة السعادة.. أو لنقل الدفء.. كما كان شعورنا بالإهانة نابعا من كرامة شامخة لم يستوعبها الآخرون فقالوا "يهولون".. مشاعر الهزيمة استدعت كل انتصاراتنا فأدركنا قدرنا.. كنا نعرف قدرنا لكننا فجأة أدركناه وكأنه كان تائها داخل كل منا وعندما احتجنا إليه وجدناه. كنت واحدة ممن سافروا إلى السودان.. كنت شاهدة على الحدث الحزين الذى جر فى أهدابه سلسلة من الأمور المؤسفة.. قبل أن أسافر قال لى أخى "ستحكين لأبنائك أنك شاهدت المباراة التى أهلتنا لدخول كأس العالم للمرة الثالثة".. فقد اعتقدنا ونحن نقطع تذاكر الطيران أننا نقطع تذاكر حضور حفل الفوز مما ضاعف من كمد الهزيمة. قالوا لم يصب منكم أحد.. فلماذا كل هذا الضجيج المزعج؟ ربما بالفعل لم يصب أحد إصابة فادحة ولم تكن هناك حالات حرجة إلا أن ما شاهدناه كان أمرا منظما بلا شك.. إرهابا منظما تنظيما محكما مشددا.. فامتزج داخلنا حزن الهزيمة والخوف من مصير مجهول تحت رحمة خناجر جزائرية فى شوارع مظلمة مقطوعة.. لم نعرف أنها كانت للرعب والتهويش.. قالوا.. "تنفسون عن مشاعر الهزيمة.. فحسب" وفى حقيقة الأمر فإن مشاعرنا لا تعرف جدارا عازلا يفصلها عن بعضها فانفجرت أمواج الحزن الغاضبة المحملة بحب الوطن.. قالوا: "لم يحدث لكم ما يستحق وصف الإهانة".. فعذرناهم لأنهم زاروا بلادنا وتغزلوا فى حبها ووقعوا فى غرام فنانينا لكن أحدهم لم يذق طعم أن يكون مصريا.. فإن الشروع فى الإهانة فى حد ذاته كان جرحا كبيرا لكل مصرى. قالوا: "الإعلام المصرى كان تحريضيا وفجر مشاعر الغضب والكراهية لدى المصريين"، لكن فى حقيقة الأمر فإن الإعلام المصرى لم يفعل أى شىء غير أنه عبر عن مشاعر الشعب ونقلها بحذافيرها دون أى تهويل.. صحيح أنه افتقر إلى أى رؤية واضحة المعالم وقدم عملا غير مكتمل لم يعرف أن يوظف حالة مصرية نادرة التكرار اجتمعت فيها كل الاتجاهات على قلب رجل واحد منحين كل حساباتهم الخاصة إلا أننا ننفى عنه - أى الإعلام -تهمة التهويل أو التهييج.. فلماذا يحتاج المصريون إلى عامل تهييج خارجى بعد أن يتعرض نجلا رئيس بلدهم إلى إيماءات فظة التبجح تتوعدهما بالذبح كما أكد الأستاذ علاء مبارك؟ انتهى المشهد وآثاره لازالت موجودة.. حطام علاقة بين شعبين مغلفة ببضعة تصريحات دبلوماسية.. من السطحية أن نعتبر أن ذلك كله حدث بسبب موقف عابر.. فالموقف كان عابرا.. ربما.. لكن المأساة كانت فيما كشفه ذلك الموقف العابر.. فكما كانت مشاعر وطنيتنا ليست وليدة الموقف إنما مشاعر أعيد اكتشافها كذلك مشاعر الكراهية والحقد التى لوح لنا بها من كنا ندعوهم أشقاءنا، لم تكن وليدة الموقف إنما كانت كاشفة لغل أصيل فى نفوسهم.. وكما ضاعف توقعنا للفوز من حزن الهزيمة كذلك ضاعف حسن ظننا فى أشقائنا العرب من هول حزننا على اكتشاف كل هذه الكراهية التى يحملونها لنا. أكثر لحظات غضبك عادة ما تكون أكثر لحظات صدقك.. لذلك السبب لم يكن موقفا عابرا إنما كان موقفا كاشفا للنفوس.. إنكار للجميل ووابل من الاتهامات تشكك فى عروبتنا وتتهمنا بالعمالة وبالتخلى عن القضية الفلسطينية.. هكذا تقف الشقيقة الكبرى فى عيونهم. قيل لنا أن على الكبار الترفع عن توافه الأمور.. ونسينا أو ربما تجاهلنا أن نسأل هؤلاء عن تعريفهم للترفع؟ هل هو السكوت على خدش كرامة وطننا؟ أم أنه التماس الأعذار لدولة تعانى من مشاكل نفسية أصابتها عبر تاريخها الحديث؟ من يمكنه أن يترفع عن مشاعر الحزن؟ منذ أيام نشرت الصحف الجزائرية استغاثة المناضلة الجزائرية جميلة بو حريد التى كرمناها فى واحدة من روائع السينما المصرية توجهها إلى الرئيس بوتفليقة تطالبه بالإنفاق عليها لمعاناتها من الفقر والإهمال وسوء صحتها. هكذا جاءت الصفعة الأولى من قلب بلدهم.. وستتوالى الصفعات الكاشفة للحقائق.. فترفعنا لا يعنى التنازل عن حق وكرامة وطننا ولا إنكار مشاعر حزن تجمعنا حولها، فملأت وجداننا إنما ترفعنا يعنى الانتظار حتى تكشف الحقائق عن نفسها.. ليعرف كل واحد مكانه ومكانته.. المسألة مسألة وقت. ربما كان حادث قطارى العياط مرشحا ليكون أكثر حدث حزنا فى عام 2009 إلا أننا أجمعنا على اختيار حادث أم درمان.. فصحيح أن حادث العياط نجم عنه 18 قتيلا وتسبب فى مشهد لم نشهده منذ زمن بعيد وهو استقالة وزير النقل.. رجل الأعمال المهندس محمد لطفى منصور.. إلا أن حادث أم درمان قد نجم عنه وفاة مئات المعانى التى كانت تستحوذ على ثقتنا وانتحار عشرات الشعارات التى كنا نصدقها.. حادث قطارى العياط ألقى فى قلوبنا مشاعر حزن وتعاطف ولدت لدينا مشاعر سلبية تجاه بلدنا.. إلا أن حادث أم درمان ولد لدينا مشاعر حزن محبة لوطنها متعاطفة معه إلى أقصى حد.