هذا حديث عقل لا مجال فيه للعاطفة، وحديث واقع لا مجال فيه للشعارات، وحديث مصرى عن مصر ومصالحها لا اعتبار فيه لأى مصلحة أخرى إلا إذا لم تكن تتعارض مع مصلحة مصر، ومناسبة الحديث أنه إلى جوار الغضب المشروع، والمطلوب أيضا من الممارسات غير المسئولة التى تعرض لها الجمهور المصرى فى الخرطوم من قبل المشجعين الجزائريين تعالت أصوات تتحدث عن الكفر بالعروبة ونهاية عصر القومية العربية وأنه آن الأوان لكى ندير ظهورنا للعرب، إلى آخر أشكال التعبير عن الغضب المشروع والمبرر مما حدث. وكأن ما حدث حدث بسبب عروبة المشجعين الجزائريين وليس بسبب نقص عروبتهم، وكأن ما حدث حدث بسبب حماس الأجنحة التى حرضتهم فى السلطة الجزائرية للقومية العربية، وليس نقص حماسهم لهذه القومية والذى عبر عن نفسه بالتصعيد الجنونى لخلاف عادى يحدث مثله عشرات الخلافات بين مشجعى كرة القدم فى كل أنحاء العالم وقاراته ومدنه وحاراته أيضا، وإلى جانب الأصوات الغاضبة والمجروحة، مما حدث فى الجزائر والتى تركت ما هو فرعى سلوك حقير ومدبر لمشجعين جزائريين إلى ما هو عام الوجه العربى لمصر، إلى جانب هذه الأصوات الغاضبة كانت هناك أصوات أخرى حاولت أن تنتحل نفس الدرجة من الغضب وهى تخلط بين تحليل الأحداث الأخيرة لصالح المشجعين الجزائريين وبين دفاعها عن فكرة القومية العربية والعروبة من منطلق عاطفى واستجابة لأفكار تاريخية وعاطفية عامة من عينة أن العروبة هى قدر مصر وأن مصر هى الشقيقة الكبرى.. إلخ. هذه كلها حقائق تاريخية لكنها تصاغ بطريقة عاطفية توحى بأننا خسرنا ونخسر من وراء الفكرة العربية، ولكن علينا أن نستمر فيها لأسباب عاطفية وتاريخية ووجدانية غامضة، وفى الحقيقة أن هذا دفاع خاسر عن قضية عادلة، والحقيقة أيضا أن الشعور بالغضب والحنق والغيظ مما حدث فى الخرطوم لا يعنى أن نكره الجزائر أو الشعب الجزائرى كله أو حتى أن نتخذ موقف العداء من النظام الجزائرى بكامله لأنه يحتوى على أجنحة متعددة، وهناك مؤشرات أن هناك أجنحة غير راضية عما حدث، ولا يعنى أيضا أن ندير ظهورنا لفكرة العروبة أو لفكرة التعاون العربى الاقتصادى والسياسى والشعبى، ولعل لفظ التعاون العربى هو الأنسب والأفضل، حيث أصبحت القومية العربية مصطلحا تاريخيا أكثر منه مصطلحا واقعيا. والحقيقة أن الذين سعوا لإنكار الانتماء العربى لمصر غيرة منهم على الكرامة المصرية مخطئون، تماما كما أن الذين سعوا لإنكار شرعية الغضب المصرى لحساب فكرة القومية العربية هم أيضا مخطئون، وأنه إذا أردنا أن نحسم فكرة الانتماء العربى لمصر فإن علينا أن نحتكم لمعيار المصلحة - المصرية - والعربية أيضا من وراء فكرة القومية العربية، وهو معيار شريف ومحترم لا تقاس توجهات الأمم والشعوب إلا به، ولو احتكمنا إلى فكرة المصلحة سنجد أنه من مصلحة الجميع أن تحافظ مصر على فكرة القومية العربية والانتماء العربى وإلا فإننا سنكون مثل الذى زرع شجرة ورعاها وتحمل فى سبيل حمايتها الكثير وعندما أثمرت ثمارها فوجئ بأن بعض هذه الثمار غير صالح للأكل فترك الشجرة بما عليها وولى مدبرا، وفى ظنى وفهمى أيضا فإن القومية العربية ليست طريقة صوفية كان الرئيس المصرى جمال عبدالناصر شيخها الأكبر، ولكنها كانت حركة سياسية تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من المصالح لمصر وللدول العربية مجتمعة، ليس صحيحا الدعايات التى شاعت فى فترة القطيعة العربية مع مصر والتى كانت تقول إن مصر الستينيات كانت تؤثر مصلحة الدول العربية والحركات التحررية على مصلحتها، بل لعل العكس هو الصحيح، وقد كانت مصر متهمة دائما فى أدبيات بعض القوميين العرب - حزب البعث - كمثال بأنها تسعى لفرض ما أسموه الاحتلال المصرى تحت ستار القومية العربية، ولم يكن أى من الادعاءين صحيحا، بطبيعة الحال كانت هناك رغبة فى تجميع الدول العربية فى كيان سياسى واقتصادى يستطيع مواجهة الكيانات الكبرى، وكان من الطبيعى أن تنعقد القيادة لمصر فى وقت كانت فيه معظم الدول العربية لم تنل استقلالها بعد، وبعضها لم تكن قد ظهرت ككيانات سياسية مستقلة؛ الإمارات العربية مثلا. بعيدا عن أحاديث التاريخ فإننا لا نستطيع فى لحظة غضب أن نطالب بأن تمحو مصر وجهها العربى لاعتبارات متعددة تتعلق كلها ليس فقط بحقائق التاريخ والجغرافيا، ولكن أيضا بمصلحة مصر ومصلحة الدول العربية والأهم بأفكار ومعتقدات الذين يطالبون - فى لحظة غضب - بأن تمحو مصر وجهها العربى، ولعل أول هذه الاعتبارات أن أى دولة مهما كانت كبيرة لا تستطيع أن تعيش بمفردها فى عالم اليوم، وأنها لابد أن تمد خطوط التعاون لأقصى مدى مع الدول المجاورة لها فى الإقليم، وعندما نطالب بقطع كل الأواصر مع العروبة، فإن البديل النظرى الذى رفضته مصر دائما هو أن نمد حبال التعاون على آخرها مع دولة مثل إسرائيل؛ لأننا لا يمكن أن نبقى معزولين عن العرب وعن غير العرب، ولعل الجماهير الساخطة والغاضبة والتى تظاهرت فى الشوارع غضبا من الجلافة الجزائرية هى نفسها التى ستشتعل غضبا إذا ما لمحت أى بادرة تعاون ضئيلة مع إسرائيل التى كان المصريون ومازالوا يعتبرونها عدوا ومنافسا سياسيا وحضاريا لمصر ولدورها فى المنطقة، ولعل الحال نفسه ينطبق على قوى إقليمية مثل إيران وتركيا لا يسمح قدر مصر أن تدخل معها فى علاقة تعاون لا تتسم بالندية الكاملة أو يشوبها أى قدر من التبعية، ذلك أن هذا ليس قدر مصر ولا قيمتها، ولا يمكن أيضا أن نترك الغضب يعمينا عن قراءة معلومات واضحة وصريحة تقول إن رغبة قطرية فى طرد الاستثمارات المصرية وتقليص النفوذ المصرى فى الجزائر كانت وراء كل ما حدث وأن تمويلا قطريا كان وراء التصعيد الفج والمفضوح من جانب صحيفة الشروق الجزائرية تجاه مصر وأن هذا التقى مع رغبة فصيل واضح فى السلطة الجزائرية يرتبط بعلاقات واضحة مع هذه الأموال القطرية أو الأموال ذات الواجهة القطرية، نكون مخطئين ألف مرة لو حققنا لأعداء الدور المصرى ما يريدون وقلنا إننا كفرنا بالعروبة وسننكفئ داخل حدودنا تاركين الساحة خالية لإسرائيل تارة، ولإيران تارة، ولفرنسا تارة، ولرءوس الأموال المتخفية تحت العباءة القطرية تارة أخرى، ومن العبث أن نقصر فى فهم الظاهرة القطرية السياسية التى تحمل أوجها سياسية متعددة منها وجه جمال عبدالناصر الذى يعلق حكام قطر صوره على مكاتبهم ويقدمون أنفسهم على أنهم سائرون على طريقه إلى آخر أوجه الاحتيال السياسى الذى يجمع بين نقائض متعددة، نقول إن هذا عبث لأن جمال عبدالناصر مثله مثل سعد زغلول ومصطفى النحاس وأنور السادات هو ظاهرة مصرية وهو كان كبيرا بقدر ما كانت مصر كبيرة وليس العكس، ولا يليق أن ننسحب ونترك الساحة خالية لمن يريد أن يبيع للعرب بضاعتنا نحن وليس بضاعة أحد غيرنا، وفوق كل هذه الاعتبارات هناك اعتبارات المصلحة والقدر المشترك، وهذه حقيقة أدركتها مصر وليست شعارات علينا أن نعلقها فوق رءوسنا دون أن نعيها، هذا القدر المشترك والمصالح المشتركة هى التى دفعت مصر فى بداية الثمانينيات لأن تمد يد العون العسكرى المباشر للعراق فى حربها مع إيران رغم أن النظام العراقى هو الذى قاد حرب المقاطعة العربية ضد مصر قبلها بشهور قليلة، ذلك أن البديل كان سيئا جدا ولم يكن من مصلحة مصر أن تسقط بغداد تحت جحافل الثورة الإيرانية، المصلحة المشتركة أيضا هى التى جعلت 4 ملايين مصرى يدخلون العراق طوال سنوات الثمانينيات ويعملون فى ظروف أكثر من مناسبة ولولا حماقة غزو الكويت لسارت الأمور فى مسارات أفضل للجميع، وليس صحيحا أن العرب يكرهوننا على الإطلاق، ولكن الصحيح أن هناك دولا وشعوبا وضعت مع مصر فى محكات تاريخية منذ بداية الدولة المصرية الحديثة، وهى محكات تركت آثارا يتم تجاوز بعضها بدرجات متفاوتة، ولعل الوضع المتميز الذى يحظى به المصريون فى دولة مثل الإمارات العربية المتحدة هو نتاج لمساعدات ومواقف تاريخية متتالية من مصر حظيت بالعرفان والتقدير، حديث المصلحة أيضا لا يجعلنا نغفل أن لدينا 3 ملايين مصرى يساهمون فى بناء دول عربية مختلفة، ويساهمون فى الاقتصاد الوطنى بتحويلات قيمتها 4 مليارات دولار سنويا، وهو مبلغ لا يستهان به، وطوال سنوات السبعينيات والثمانينيات كانت تحويلات المصريين العاملين فى الخارج هى المصدر الثانى للدخل بعد قناة السويس وببساطة كنا نفيد ونعلم ونبنى، وكنا أيضا نستفيد. حديث المصلحة يقول أيضا إن 60٪ من الصادرات المصرية تذهب للدول العربية، وأن الميزان التجارى بين مصر وأغلب الدول العربية يميل لصالح مصر، وقد فوجئنا مثلا أنه رغم هزال التعاون الاقتصادى بين مصر ودولة عربية مثل تونس الذى تبلغ قيمته 340 مليون دولار فقط سنويا، فإننا نصدر لهم ما قيمته 300 مليون دولار، نستورد منهم ب 40 مليون دولار فقط وهى مبالغ قابلة لأن تتضاعف عشرات المرات، وسيكون ذلك فى صالح مصر وتونس، وليس مصر فقط، نفس الأمر ينطبق على المغرب التي نصدر لها بما قيمته 440 مليون دولار تقريبا ونستورد منها ب 60 مليون دولار فقط! وأيضا الفرص قابلة للزيادة. الأهم من هذا كله أن المنطقة العربية الآن بفعل عوامل مختلفة أصبحت بمثابة سوق واعدة للاستثمار وأن دولا ظلت لسنوات طويلة مغلقة مثل السودان وسوريا والجزائر أصبحت الآن مفتوحة أمام الاقتصاد الحر الذى فرض القدر على مصر أن تكون رائدة فيه كما كانت رائدة فى الثورة وفى القومية العربية وفى أشياء أخرى كثيرة، وكل هذه البلدان التى ذكرتها لمصر فيها ما يمكن تسميته ب رأس المال الرمزى ولها من سوابق العلاقات والتاريخ المشترك ما يجعلها مفضلة على غيرها لاعتبارات كثيرة تاريخية وسياسية وأمنية، وليس من المعقول والحال كذلك أن نترك الآخرين يشعلون النار تحت أقدامنا، ونحن مشغولون بغضبنا، وليس من المعقول أيضا أن نترك البعض منا يلوش على غير هدى فنسىء للسودان وللجزائر هذه المرة، ولغيرهما من الدول العربية فى مرات قادمة لأننا بذلك نهدر ما زرعناه طوال سنوات طويلة ماضية، وعندما آن أوان حصاده أشعلنا فيه النار، أو تركنا الآخرين يشعلون فيه النار ونحن منشغلون بالغضب!