.. واعتبروا ياأولي الأحزاب! هل يمكن أن نري أحزاباً سياسية في الدولة الإسلامية؟!.. يقول أصحاب هذا السؤال لا إن هناك فريقاً كبيراً من الإسلاميين يري أن الإسلام إذا عاد لابد من إلغاء جميع الأحزاب الأخري وعدم السماح بحزب معارض.. وإذا كان لابد من حزب فليكن نظام الحزب الواحد وهو حزب الإسلام. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن الدولة الإسلامية طالما سمحت بحرية الرأي السياسي وطالما سمحت بالمعارضة داخل النظام فلا مبرر لوجود الأحزاب. وليس هذا بالرأي الجديد علي العالم. فقد نادي به الشيوعيون والاشتراكيون وطبقوه في بلادهم فماذا كانت النتيجة؟ لقد أصبح الحزب الحاكم مطلق السلطان.. لأنه ليس له منافس يعارضه ويكشف أخطاءه وأصبح الحاكم الذي يرأس هذا الحزب بالتالي دكتاتوراً لايرد له قول ولا يراجعه أحد. وقد حاولت بعض تلك الدول تنشيط المعارضة داخل الحزب الحاكم أو في مجلسها النيابي تحت اسم تجربة النقد الذاتي.. ففشلت التجربة لأن كل عضو داخل الحزب مضطر إلي مجاملة رئيسه أو زميله ولو علي حساب المصلحة العامة. وهكذا نري نظام الحزب الواحد لابد أن يصل في نهاية المطاف إلي الدكتاتورية المطلقة وإلي قتل الحريات. وأكبر دليل علي ذلك ما حدث في أوروبا الشرقية وفي الاتحاد السوفيتي نفسه. ولو أن الحكم الإسلامي دخل في تجربة مصادرة الأحزاب واكتفي بحزب إسلامي واحد هو الحزب الحاكم.. لتحول الأمر إلي عهود الخلافة المتأخرة كالخلافة العباسية والتركية التي كان الخلفاء فيها يعدمون خصومهم باسم الدين وينصبون لمعارضيهم المشانق والسجون بفتوي يستصدرونها ولا أحد يعارضهم. أما الادعاء بأن الدولة الإسلامية إذا سمحت بحرية الرأي وحرية المعارضة داخل نظام الحكم فإن ذلك يغني عن الأحزاب.. ونرد علي ذلك بالآتي: إن الحزب المنظم أقوي علي المعارضة من الجهد الفردي المبعثر وأقدر علي إيقاف الظلم وأكثر هيبة لدي الحاكم من الأفراد وهو أقدر علي سحب الثقة من الحكومة إذا تمادت وتجاهلت النصح والتحذير. والجهاز الحزبي في الدول المتقدمة له عادة مراجعه ولجانه العلمية والفنية، فهو أقدر من الأفراد علي دراسة المشاكل المعقدة وإبداء الرأي فيها.. بل إنه في بعض البلاد العريقة في الديمقراطية يقيم (حكومة الظل) بحيث يصبح كل وزير في الحكم له ظل في المعارضة يراقب أعماله ويكشف أخطاءه أولاً بأول. ويفسر لنا الشيخ عبدالرحمن الكواكبي المتوفي سنة 1903 هذه الحقيقة في كتابه أم القري فيقول: إن التخلص من الاستبداد السياسي لا يأتي إلا عن طريق يقظة لعقلية الأمة عن طريق الدين. ولكن تلك اليقظة لا تأتي إلا بعد مضي مدة من الزمن قد تكون أطول من عمر الإنسان الواحد.. لذلك يجب ربط جهاد الآباء بالأبناء في الجهاد السياسي عن طريق الجمعيات السياسية.. ثم يقول: إن الجمعيات المنتظمة يتسني لها الثبات علي مشروعها عمراً طويلاً حتي يتحقق وهذا هو سر ما ورد في الأثر من أن يد الله مع الجماعة وهو سر كون الجمعيات تقوم بالعظائم وتأتي بالعجب. ولاحظ هنا استعمال الشيخ الجليل والمفكر الإسلامي الكواكبي لكلمة الجمعيات بدلاً من الأحزاب لأن كلمة الحزب لم تكن معروفة علي عهده في العالمين الإسلامي والعربي. أما القول بأن الأحزاب قد تعارض لوجه المعارضة فتعطل المشروعات. فهذا التعطيل خير لا شر وفرصة للتأني والدراسة بدلاً من التسرع والارتجال.. ولم نسمع أن البلاد الديمقراطية التي فيها أحزاب معارضة قوية قد اشتكت من تعطيل المشروعات، بل الملاحظ أن هذه البلاد أكثر إنتاجاً من أي بلد دكتاتوري يحكمه نظام الحزب الواحد. والسؤال المهم الذي لابد أن يطرح نفسه في هذا المجال هو: أي الأحزاب تسمح به دولة الإسلام. هل تسمح مثلاً بحزب يعارض تطبيق الحكم الإسلامي؟ ونقول هنا إن الشرط الوحيد لقيام أي حزب معارض هو اعترافه أساساً بالحكم بالإسلام كمبدأ أساسي.. أما التفاصيل.. وأما وسيلة التطبيق فلهم أن يختلفوا فيها كما يشاءون.. فمنها المتشدد ومنها المتساهل ومنها الوسط. والهدف الحقيقي لهذا النوع أن يكون أحدها الذي خارج الحكم رقيباً علي الآخر الذي في الحكم.. يعينه إذا أصاب ويكشف أخطاءه إذا انحرف.. ويتوازن معه في الشدة أو التساهل في حل الأمور. وهذا النوع لايتعارض مع تعاليم الإسلام ولا مع التطبيق الإسلامي بل إنه أهم من ذلك يعتبر ضرورة لابد منها ولا غني عنها لتطبيق الإسلام وصيانة الحكم من الانحراف أو الشطط. ومن الملاحظ أن هذا النوع هو الموجود فعلاً وعملاً في جميع الدول الديمقراطية الناهضة المتحررة العريقة في ديمقراطيتها وخصوصاً بريطانيا وأمريكا. ففي هذه البلاد يوجد حزبان رئيسيان.. ومن الناحية العلمية وبصرف النظر عن اسم كل حزب منهما.. فإنهما لايختلفان عن بعضهما من حيث المبدأ ولا التنظيم. إلا أن أحدهما متشدد بعض الشيء والآخر متساهل بعض الشيء.. ولكن الهدف الحقيقي هو رقابة أحدهما علي الآخر.. وأن يتبادلا الحكم حتي تكون هناك في العمل السياسي وجوه جديدة تتيح الفرصة للدم الجديد ليأخذ حظه ومكانه من المسئولية. ومن المسلم به أن كل مبدأ في الدنيا له عند التطبيق ثلاثة فرق من الناس: متشدد ومتساهل ووسط. وهذا التقسيم يعتمد علي طبيعة البشر أنفسهم ولو كان هذا المبدأ واحداً. وفي الدول الغربية يكون هذا التقسيم غالباً إلي يمين ويسار ووسط، وفي البلاد الشيوعية يقسمون إلي يساري متطرف ووسط واشتراكي. ومن الممكن أن يكون بين المسلمين أيضاً من ينقسمون إلي هذه الفئات الثلاث دون أن يكون في ذلك مثار للفرقة ولا حزازات ولا عداوات. من الممكن أن توجد في ظل الحكم الإسلامي اتجاهات متشددة محافظة وأخري تميل إلي اليسر والتساهل وثالثة تميل إلي أواسط الأمور. وليس هذا بالجديد علي الإسلام.. فقد كان بين أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي مجلس الشوري المتساهل كأبي بكر والمتشدد كعمر. وكل فريق يبدي رأيه وكان الرسول يأخذ برأي الأغلبية. ولن يضر بالإسلام أبداً أن تكون هناك فئات من المسلمين تتراوح بين اليسر والشدة في الله. الشدة في الله حق.. واللين في الله حق. واختلاف المسلمين في الحق رحمة.. وهذا هو رسول الله يقول: إن الله ليلين قلوب أقوام فيه حتي تكون ألين من اللبن. وإن الله ليشدن قلوب أقوام فيه حتي تكون أشد من الحجارة. مثلك يا أبابكر مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم حيث يقول: فمن يتبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم. ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل نزل بالشدة والبأس والنقمة علي أعداء الله. ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال (رب لاتذر علي الأرض من الكافرين دياراً) نوح / 26 رواه ابن حنبل. فماذا يمنع أن تكون هناك أحزاب بهذه الاتجاهات في ظل الحكم الإسلامي والنظام الإسلامي. والخلاصة: لماذا نصر ونؤكد علي إيجاد المعارضة والأحزاب المختلفة في ظل الإسلام.. ونرد علي ذلك: إننا إذا أردنا حكماً إسلامياً ديمقراطياً عادلاً فلابد من وضع كل ما يمكننا أمامه من قيود وضمانات للحريات: لأن السلطات المطلقة، وخصوصاً إذا كانت سلطة دينية فإنها بطبيعتها تدفع الأكثر تديناً وحباً للخير إلي الانحراف والاستبداد ولو دون قصد منه ودون أن يدري أنه قد استبد أو ظلم.. بل وهو معتقد أنه ينفذ حكم الله. وأبسط دليل علي ذلك هو ما حدث للخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.. فقد كان رحمة الله عليه عفاً زاهداً في الدنيا شديد التمسك بأوامر الدين.. ومع ذلك.. فقد كان فيه نقطة ضعف نحو أقاربه يحابيهم بالمناصب ويتسامح نحو أخطائهم، وكان ذلك وحده كافياً لنشر الفساد والاستبداد في أرجاء الدولة وفي قيام الثورات عليه. ولايمكننا أن نتلافي الفتنة الكبري التي حدثت بداية من مقتل عثمان وانقسام المسلمين والقتال الدموي الذي حدث بينهم إلا بوجود أقصي قدر من الديمقراطية والنظام الحزبي والمعارضة المشروعة التي تبين الأخطاء وتكشفها قبل أن يستفحل أمرها وقبل أن تؤدي إلي انهيار الدولة وانقسامها وإلي سفك الدماء.