يثور تساؤل يطوف بخاطري من حين لآخر حول ما يمكن أن يحدث في "مصر" لو سلمنا بشكل كامل بإطلاق حرية المعتقد الديني دون تدخل من الدولة أسوة بمن فعلوا ذلك في الدول الأخري، علماً بأن الدستور المصري لا يعترف إلا بالأديان الإبراهيمية الثلاثة "الإسلام، والمسيحية، واليهودية" لذلك فإن الوثائق الرسمية لا يوجد فيها مكان لديانة رابعة مهما كانت، وهنا تبرز الإشكالية الحقيقية عند إطلاق حرية المعتقد الديني. ولازلت أتذكر من عملي مستشاراً للسفارة المصرية في "الهند" وإشرافي علي القسم القنصلي فيها أنه كان يأتيني أحياناً شاب مصري مسلم أو مسيحي ممن يتدربون في إدارة شركة "أوبروي" للفنادق ومعه فتاته الهندية التي يريد الارتباط بها، وهو يسعي إلي لإتمام إجراءات "عقد القران" وفقاً للقانون المصري ومن خلال وثيقة الزواج المصرية أو حتي التصديق علي وثيقة هندية، وكنا نصطدم دائماً بانتماء العروس للديانة "الهندوسية" وهي ديانة الأغلب الأعم من الهنود، فكنت أطلب من العروس الإفصاح عن اعتناقها لإحدي الديانات الإبراهيمية الثلاث حتي يمكن إتمام إجراءات الزواج وفقاً للقانون المصري والشريعة الإسلامية، وكانت دائماً مشكلة حساسة تبدو فيها مقارنة واضحة بين الديانات السماوية والديانات الأرضية، ومنذ ذلك الحين والمشكلة تلح علي تفكيري، فأنا ممن يؤمنون تماماً بحرية الإنسان في اختيار ما يريد بشرط ألا يمثل ما يفعله عدواناً علي غيره فرداً كان أو جماعة في ظل عالم يتجه نحو إعلاء قيمة الفرد وتوسيع دائرة حركته علي الرغم من الانتقاص المعاصر من خصوصيته في ظل أجهزة التنصت الحديثة و"كاميرات التصوير" وأدوات الرقابة علي حركة البشر، ويهمني لذلك أن أسجل الملاحظات التالية: أولاً: لقد تخلص جواز السفر المصري من إحدي نواقصه بإسقاط خانة الديانة منه وبقيت مشكلة بطاقات الهوية التي لاتزال تضم خانة للديانة، وبرغم الحكم القضائي الأخير الذي قدم حلاً مرحلياً لمشكلة "البهائيين" في مصر إلا أن المطالبة برفع خانة الديانة من بطاقة الهوية المصرية كانت ولاتزال موضوعاً للنقاش والحوار في ندوات المجلس القومي لحقوق الإنسان - الذي أتشرف بعضويته - وغيرها من اللقاءات والحوارات في هيئات وجمعيات المجتمع المدني المصري المختلفة، ولقد أدهشني أن الانقسام في الرأي ليس انقساماً دينياً، فهناك مسلمون مؤيدون لرفع خانة الديانة ومسلمون آخرون مطالبون ببقائها، ونفس الأمر بالنسبة للإخوة الأقباط فمنهم من يري ضرورة التخلص منها لأنها إحدي علامات التمييز في مجتمع يتجه نحو الحداثة والعصرنة بكل لوازمهما الأخلاقية والقانونية بينما يري فريق آخر منهم أن الإبقاء عليها ضروري حتي لا تضيع الشخصية القبطية في زحام الأغلبية المسلمة. ويجب أن نعترف هنا أنني استمعت إلي كثير من المسلمين أيضاً وهم يبدون قلقهم من رفع خانة الديانة من بطاقات الهوية، قائلين أن ذلك قد يؤدي إلي شيوع "الزواج المدني" وارتباط المسيحي بالمسلمة، وهي أمور ذات حساسية في الشريعة الإسلامية، كما أن الأمر لن يتوقف عند ذلك فلو استشهد ضابط في معركة أو أصيب مواطن في حادث طريق ولم نتمكن من التوصل إلي ذويه فبأي الطقوس تتم مراسم دفنه ونحن لا نعرف ديانته، ويرد عليهم البعض قائلاً بأن خانة الديانة سوف تبقي في "شهادة الميلاد" وعندئذ يتعين علي كل فرد أن يحمل "شهادة ميلاده" معه! ثانياً: إن مخاوف المؤسسة الدينية المسيحية والإسلامية متشابهة في هذا الشأن فحرية المعتقد لديهما تقف عند حدود معينة، فإذا كان في الأمر شبهة مساس بإحدي الشريعتين توقف الانفتاح القادم وغابت الأفكار التقدمية وغلبت النوازع الدينية، فالكل يخشي في حالة إطلاق حرية المعتقد الديني بشكل كامل أن يحدث ما يمكن تسميته بالفوضي الدينية، فنفاجأ مثلاً بشباب مصري يعتنق "البوذية"، أو "الهندوكية" جرياً وراء "تقاليع" فكرية ومحاولات للظهور ورغبة في الاختلاف، لذلك فإن تقييد اعتراف الدولة بالديانات بحيث يكون قاصراً علي الديانات السماوية الثلاث قد يبدو ضرورياً في هذه المرحلة من التطور الثقافي والتحول الاجتماعي في مصر. ثالثاً: إن المطالبة بالإطلاق الكامل لحرية المعتقد الديني واستقبال التحول من دين إلي آخر في سماحة وشفافية هي قضية شائكة حتي الآن وتحتاج إلي نظام تعليمي مختلف ونسق ثقافي جديد ومنظومة كاملة من القيم الاجتماعية والتقاليد الإنسانية التي لم يبلغها المجتمع المصري بعد، لذلك فإن إطلاق حرية المعتقد الديني باعتبارها تعبيراً عن مبدأ عصري براق إلا أنها لاتزال سبباً لاحتمال فتح باب قد لا ننجح في إغلاقه ذات يوم. .. خلاصة الأمر أنني مع الحرية المطلقة للمعتقد الديني ولكن تتقمصني مخاوف مرتبطة بالمجتمع المصري الحالي واحتمالات سوء الاستخدام علي نحو يخلق مشكلات طائفية جديدة خصوصاً في ظل الانقسام في الرأي تجاه هذه القضية شديدة الحساسية بالغة التعقيد.