لم يعرف المصريون شيئا عن المجمع العلمي المصري إلا عندما طالته النيران والمياه والحجارة لتفقد مصر جزءاً كبيراً من تاريخها وتراثها. فلم يكن يرتاده إلا نخبة قليلة من المفكرين والباحثين المصريين وأعداد هائلة من الأجانب «علماء وباحثين» ووزراء كانوا يأتون خصيصا منذ سنوات طويلة للنهل من تراث وعلم امتلأت به جدرانه وأروقته من وثائق وخرائط وكتب نادرة لا يوجد لها مثيل في العالم كله. ولهذا أدركت الأيدي العابثة والمخربة أن أكثر ما يؤلم الوطن ويحطم إرادة الأمة هو طمس تراثها ومحو تاريخها. انشغل الثوار بالاعتصام والمسيرات بينما اهتم الإخوان والسلفيون بمقاعد البرلمان ومقاعد الفضائيات.. ولم ينتبهوا إلي المخطط المحكم لإخماد ثورة مصر وإشعال الفتنة وإحداث الوقيعة بين الشعب والجيش لذلك لم يكن غريبا أن أسمع ما ردده الكثيرون بأنه قد صدرت الأوامر للبلطجية وأولاد الشوارع بإحراق المجمع العلمي كله لجهلهم ثم حرق مبني الطرق والكباري.. وسمع الشباب أصواتاً تنادي أثناء احتراقه «مش ده المجمع العلمي.. بما يعني أن النية كانت مبيتة لحرق المجمع العلمي كما كانت مبيتة للمتحف المصري.. والتي يمكن لا قدر الله أن تأتي لاحقا لمبان تراثية أخري ثم محاولة إشعال النار في مجلس الشعب. والدليل علي وجود مخطط لحرق المجمع العلمي المعلومات التي وصلت لإحدي القنوات الفضائية عن احتراق المجمع في منتصف ليل الجمعة قبل الماضي.. وسارع علي أثرها د. محمد عبدالرحمن الشرنوبي إلي المكان ليكتشف عدم احتراق المبني.. وناشد د. الشرنوبي الجيش من خلال القناة الفضائية حماية هذا المبني.. وللأسف لم تمر ساعات الليل حتي أشعل البلطجية النيران في مبني المجمع العلمي ووضحت في الصباح خيوط المؤامرة بمحاولة تدمير كل مؤسسات التراث في المنطقة. ولأن علاقتي المهنية بالقائمين علي المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية المصرية التي تقع خلف مبني الطرق والكباري داخل حرم مجلس الشوري تعود لسنوات طويلة فقد قمت بالاتصال بالدكتور الشرنوبي ليصرخ بصوت ينم عن الفجيعة والحسرة ولم أستطع وقت الحريق أن أتبين أي كلمة من كلماته.. ثم حدثت الدكتور صفي الدين أبوالعز رئيس الجمعية الجغرافية الذي كان يصرخ هو الآخر لخوفه أن تمتد النيران للجمعية، والتي لا تقل أهمية عن المجمع العلمي.. ولابد أن تكون مستهدفة هي الأخري ورد علي قائلا « ماحدش بيرد علي ومنعوني من دخول المنطقة.. ولا أعرف أحداً من مسئولي الجيش». لذلك قمت كمواطنة مصرية بالاتصال باللواء إسماعيل عتمان رئيس الشئون المعنوية بالقوات المسلحة عدة مرات ليرد علي نهاية مساء السبت ووجهت نداء بضرورة حماية الجمعية الجغرافية خاصة أنه تمت مناشدة الجيش من قبل لحماية المجمع العلمي، ولكنه انشغل بالمعارك مع المتظاهرين ! فاتصل علي الفور وأنا معه علي التليفون بقائد المنطقة العسكرية طالبا وضع حراسة مشددة حول الجمعية الجغرافية. الدكتور محمد الشرنوبي أكد ل«روزاليوسف» أنه شاهد بنفسه « أولادا وبنات» فوق 15 سنة مستمرين في أطراف المبني.. وعندما جاءت عربات المطافئ حاولوا منعهم من مد خراطيم المياه وكلما حاول رجال الإطفاء تقليل النيران من جهة اتجهوا لشباك آخر وفي أيديهم عصي خشبية مشتعلة كما اتضح في المشاهد المعروضة علي القنوات التليفزيونية أيضا جاء إلي روزاليوسف أحد شباب الثورة اسمه «حمد إبراهيم»، وهو يحمل بعض الكتب المحترقة ومنها السليم كان يجمعها مع الشباب.. جاء ليروي لنا كيف أن الجيش قام بعد الحريق بمنع المتظاهرين من الاقتراب من المجمع العلمي وأتاح الطريق لبعض شباب الثورة ليحملوا ما يمكن إنقاذه من كتب التراث. ثم انضم إليهم مجموعة من الفنيين المتخصصين في ترميم الكتب من وزارة الثقافة وهيئة الآثار في محاولات بطولية داخل المبني المتفحم لإخراج أكبر عدد من الكتب.. فكانت بحق - ملحمة - انصهرت خلالها الصراعات الطائفية المزعومة عندما سارع المسيحيون في كنيسة قصر الدوبارة بمساعدة الشباب واستقبال عشرات الكتب والأوراق المحترقة داخل الكنيسة حتي تتسلمها لوريات وزارة الثقافة. « حمد إبراهيم» قال لنا إنه شارك مع المواطنين في نقل الكتب من خلال طوابير متصلة أحدها علي رصيف الجامعة الأمريكية والآخر حتي كنيسة قصر الدوبارة.. وأنه جمع وحده ما يزيد علي مائة كتاب.. أما المجموعة التي أتي بها إلي روزاليوسف فقد أصر علي أن يسلمها بنفسه إلي وزارة الثقافة، مشيرا إلي قيام البعض بالحصول علي أوراق وكتب من التراث دون أن يدري أهميتها وربما يلقيها بعد ذلك في القمامة. داخل الواقع الأليم في موقع المجمع عندما رافقت وزميلي المصور الدكتور محمد الشرنوبي.. وعندما حاولت القفز مع الشباب إلي داخل المبني حذرني د.الشرنوبي أن المبني كله يمكن أن يسقط في أي لحظة.. خاصة أنه لفت نظري إلي الكم الهائل من الحجارة التي يلقيها المتظاهرون علي المبني رغم علمهم بوجود شباب متطوع وموظفين فنيين يحاولون إنقاذ البقية من داخل المبني المتهدم ومع ذلك استمر المتظاهرون في إلقاء الحجارة تارة علي الجنود من أعلي الحاجز الخرساني علي بداية شارع الشيخ ريحان وتارة أخري علي المبني !! د. الشرنوبي اعترض من جانبه علي عدم قيام الجيش بوضع الحواجز الأسمنتية بعد المجمع العلمي من ناحية قصر العيني والشيخ ريحان.. فكان لابد أن يتم غلق هذا المكان والسماح فقط للمختصين والمتطوعين للدخول في تلك المنطقة لتأدية واجبهم.. لكن وجود المتظاهرين وبينهم المندسون من المخربين والبلطجية أخرَّ عمل وأداء هؤلاء الشرفاء. وأثناء حديثي مع المتطوعين فوجئت بفتاة يدل مظهرها علي علامات التشرد تحاول الدخول من خلال جزء مفتوح بين الحواجز الأسمنتية الفاصلة بين الجيش والمتظاهرين لافتعال مشاجرة وأزمة جديدة مع الجنود بإصرارها علي الدخول بين تلك الحواجز للاشتباك مع الجنود.. سألتها: داخلة ليه لم ترد.. ولم تتراجع إلا عندما هددناها بتسليمها للشرطة. وحول أكثر الكتب أهمية والتي تم إنقاذها قال د. الشرنوبي إنه تم إنقاذ «11» مجلداً من كتاب «وصف مصر» في حالة سليمة من جملة 18 جزءاً « مجلدا».. كما أنقذنا عشرات الكتب بحالة جيدة لكن لا أستطيع تمييزها حاليا. وأضاف إن بصيص الأمل يظهر دائما في أحلك الظروف بقيام الشيخ سلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة بالتبرع لإعادة بناء مبني المجمع وإهداء ما لديه من كتب تراثية وعلمية من كتاب «وصف مصر» أو المراجع المهمة. بعد إعادة بناء المجمع العلمي.. وللعلم الشيخ سلطان القاسمي هو عضو في مجلس إدارة المجمع العلمي وهو محب للعلوم والآداب والفنون وليس غريبا عنه نبل مقاصده وحبه الشديد لمصر.. فهو أيضا الذي قام منذ سنوات بإنشاء مبني جديد للجمعية التاريخية المصرية في مدينة نصر بعد أن كانت مقرا صغيرا بشقة في وسط البلد. إن ما فعله الشيخ سلطان القاسمي ليس غريبا عندما نعلم أن الشيخ زايد حاكم الإمارات -رحمه الله - قد ساهم بتمويل للحفاظ علي مبني المجمع العلمي وما كان يضمه من تراث بعد زلزال 1992. آخر التطورات حتي كتابة هذا التحقيق هو البيان الذي أعلنه المجلس العسكري عن عزم القوات المسلحة ترميم مبني المجمع العلمي من خلال شركة المقاولون العرب.. د. محمد الشرنوبي قال إن شركة المقاولون ستبدأ عملها يوم الأحد «غدا» بعد أن تهدأ الأحوال وتنفض مسيرات ومليونيات الجمعة.. ونأمل أن تقوم الشركة بمحاولة صلب الجدران خاصة أن ماسورة مياه كبري أسفل المبني مكسورة وتندفع منها المياه مما يصعب عملية جمع البقية من التراث المحترق. مطلوب إخلاء المكان لدخول المعدات ويقول المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس إدارة شركة المقاولون العرب إن مجلس الوزراء أوكل لنا سريعا اللحاق بتأمين الجمعية الجغرافية المصرية بسد جميع المنافذ الخشبية سواء كانت نوافذ أو أبواباً بألواح من الصاج لمنع وصول أي قذائف نارية لأن محتويات الجمعية الجغرافية المصرية أهم كثيراً من محتويات المجمع العلمي الذي بدأنا العمل فيه يوم الأربعاء الماضي بمعاينة المبني ومن تلك المعاينة اتضح أن حالة المجمع تتشابه كثيراً بالنسبة لحريق مجلس الشوري وأن جميع المباني في هذا المجمع من نفس الطراز الإنشائي والمعماري لذلك سنسير بنفس أسلوب الإصلاح والحمد لله تمت إعادة مبني مجلس الشوري كما كان. ويشير المهندس إبراهيم محلب إلي أننا بدأنا بالفعل رفع المخلفات مع المختصين الذين مازالوا يخرجون بقايا الكتب المحترقة وسوف يتم كشف أساسات المبني والتي أري من خبرتنا السابقة في مجلس الشوري أنها سليمة وسيتم بداية هذا الأسبوع بدء العمل بوضع شدات ثم محاولة وصقل الحوائط التي لم تسقط بحوائط خرسانية تتخللها شبكة حديدية هذه الحوائط لن تكون سميكة ثم سيتم تركيب كمر حديد فوق الحوائط، وأؤكد أنه سوف يعود المبني لحالته الأصلية لكن المشكلة أكبر من مجلس الشوري لاحتراق كتب التراث النادرة لكن المشكلة في ضرورة إخلاء المكان لأن الشركة سوف تقوم بإدخال معدات هائلة لذلك تم التنسيق مع القوات المسلحة لفتح مساحة كبيرة أمام المجمع العلمي تسع المعدات. ولمن لا يعلم من المصريين الذين أحرقوا المجمع العلمي الذي أنشئ عام 1798 وأن أول رئيس له كان العالم « مونج» الذي مازالت حتي الآن توجد حارة تحمل اسمه « حارة مونج» متواجدة بالقرب من مكان المجمع العلمي عند بداية إنشائه في الناصرية بالسيدة زينب.. وأن نابليون بونابرت بكل عظمته كان نائب رئيس المجمع العلمي أي يعمل تحت رئاسة «مونج».. وكان العالم « فورييه» الذي كتب مقدمة كتاب وصف مصر أمين عام المجمع العلمي. لم يعرف المصريون الذين أحرقوا المجمع العلمي أن عظماء التاريخ من العلماء والمفكرين والقادة تولوا رئاسته منهم «أوجست ميريت باشا»، «جاستون ماسبيرد»، «يوسف آرتين باشا»، «نوبار باشا»، «إسماعيل سري باشا»، «علي إبراهيم باشا» و«الدكتور طه حسين». أما الرئيس الحالي فهو الدكتور محمود حافظ رائد علم الحشرات ورئيس المجمع اللغوي أيضا، وهو يرقد حاليا في غيبوبة، قبل حريق المجمع العلمي وقد أشارت السيدة قرينته إلي أنها تحمد ربها أن زوجها لا يعلم ولا يدري بما حدث للمجمع وإلا مات كمدا. نعم انتهي أمر المجمع العلمي وفقدنا تراثاً لا يوجد مثله في أعرق دول العالم.. لكن لمزيد من جلد الذات ووخز الضمير لابد أن يعرف المصريون ما الذي أحرقوه بالضبط. أما قائمة الكتب المحروقة فتضم : ∎ ديوان مؤرخي الحروب الصليبية، من المؤرخين اليونانيين والغربيين والشرقيين باللغة اللاتينية والفرنسية القديمة. ∎ نصوص ومخطوطات وأقوال شهود عيان عن الحرب الصليبية بالإضافة إلي أحكام المحكمة العليا وقوانين وقواعد بيت المقدس ومجموعة أحكام القضاء الخاصة بالقرن 13 في مملكة بيت المقدس وقبرص ∎ الكتاب المقدس « العهد القديم والعهد الجديد» منذ 1759 وهو ترجمة فرنسية للترجمة اللاتينية. ∎ مجموعة اللوحات الخاصة برحلات الوجه القبلي والبحري لعلماء الحملة الفرنسية. ∎ «60» خريطة تم رسمها عام 1776 أي قبل الحملة الفرنسية وتم جمعها من النمسا والدنمارك وبولندا وروسيا. ∎ «أطلس ليبسوس» وكان هو أحد أعضاء مجلس إدارة المجمع العلمي.. ويضم الأطلس 12 مجلدا ويتضمن صور جداريات ومعابد وبرديات ومسلات وتماثيل وخرائط لمصر والنوبة ∎ عشرات المراجع التاريخية القديمة المتعلقة بالفنون والجغرافيا والآثار وتاريخ الفن المصري وتاريخ الرسم الزخرفي في فرنسا.. وفن النحت والعمارة وجداريات يونانية ولوحات لتماثيل فريدة للإمبراطورية الرومانية. ∎ «موسوعة الفن للجميع» بثلاث لغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية ويعود تاريخها إلي 1877 وتتناول الفنون التطبيقية والمعمارية وكتالوجات ومصانع السيدات.. وفنون صياغة الذهب وأواني المائدة.. وروائع الفن المصري اليوناني الروماني القديم.. روائع عمارة الكنائس في القرن الحادي عشر وما قبله، ولوحات فنون المسرح في القرن 19. ∎ مجموعة لوحات حفر قناة السويس «وصف اللوحات والأعمال» ∎ دراسات في مجال العلوم العسكرية والفن العسكري والرسم الطبوغرافي. ∎ أطلس الصناعات العسكرية ويعود تاريخه إلي 1762. ∎ مجموعة تصميمات السفن والقاطرات والكباري والسدود. ∎ الأطلس الجغرافي العالمي ويرجع تاريخه إلي 1827. ∎ أطلس تاريخي دولي يرجع إلي 1847. ∎ لوحات عمارة جامع السلطان حسن 1849 الذي أصر الرئيس الأمريكي أن يزوره منذ عامين ∎ العمارة العربية في آثار مصر 1839 ∎ وصف مدافن طيبة 1813. ∎ مخطوطات ليوناردو دافنشي من 6 أجزاء 1840. ∎ مجموعة أعمال فولتير 42 جزءاً . ∎ المعجم العالمي 1776 ويتناول كل شيء عن شعوب الشرق سواء التاريخي أو العادات والمذاهب والسيرة الذاتية للقديسين والفنانين. ∎ مذكرات نابليون بونابرت في منفاه بسانت هيلانة 1847 كما أملاها بنفسه عن الحملات الخاصة بمصر وسوريا. ∎ كتاب « فريد» في علم الفراسة 5 مجلدات باللغة الإنجليزية ويعود تاريخه إلي 1820. ∎ رحلات النوبة العليا والدنيا. ∎ لوحات كاملة لمعبد رمسيس في الكرنك. ∎ وأخيرا كتاب وصف مصر الفرنسي.
محاولات المختصين مستمرة رغم التظاهر أمام المجمع البحث مهمة صعبة وسط الركام حمد إبراهيم يعرض الكتاب والورق المحترق د. الشرنوبى يعترض على وجود الحاجز الخرسانى قبل المجمع