في أربعينيات القرن الماضي وجدت القوي الدولية في مسألة التنوع «الديني» الذي ينعم به الشرق الأوسط، كارتا سياسيا يحقق أغراضها الاستعمارية في المنطقة.. ولعبت فرنسا علي هذا الوتر في لبنان وعززت طائفيته وغرزت في أهل الطائفة المارونية أنهم هم لبنان ولا أحد سواهم بعيدا عن التركيبة السكانية الحقيقية الموجودة هناك ومازالت تحتفظ بهذه الوشائج التي أصبحت مع مرور الزمن بابا سحريا للتدخل الفرنسي في مقدرات لبنان.. وفي السودان ظل المحتل الإنجليزي يقطع أي روابط بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي، ولم تكن مصر بعيدة يوما عن هذه الممارسة الاستعمارية الدنيئة من قبل القوي الدولية ولكن كان النسيج الوطني وصلابة الكنيسة المصرية والنخبة المصرية المسيحية والمسلمة صخرة تنكسر عليها جميع هذه المساعي ومن بينها رسالة صريحة تلقاها السياسي البارز مكرم عبيد من بريطانيا بأنها علي استعداد للتدخل لحماية الأقباط في مصر فكانت مقولته التاريخية بأننا «مسيحيون لله.. مسلمون لمصر». وفي 2011 تغير العالم وتغيرت خريطته السياسية واستبدلت مواقع القوي ولكن ظل اللعب علي وتر حماية الأقليات الدينية حاضرا بالنسبة للاعبين الدوليين.. احتلت أمريكا العراق في عام 2003 وظن وقتها مسيحيو العراق أن عهدا جديدا قد بدأ بعد عقود من الظلم علي يد صدام حسين ولكن واقع الحال يقول عكس ذلك.. كان مسيحيو العراق يشكلون قبل الغزو الأمريكي حوالي 5% من النسيج العراقي ويصل تعدادهم لحوالي 2 مليون.. أطيح بهم وتعرضوا لمآس إنسانية وانتهكت حرماتهم الدينية مثلهم مثل جميع أهل العراق لتصل نسبتهم الآن وفق معظم التقديرات إلي حوالي 2% فقط من سكان العراق أي أن بلاد الرافدين لم يعد بها سوي حوالي 800 ألف مسيحي. وبحسب مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فإن عدد طالبي اللجوء من المسيحيين إلي دول أخري تضاعف بعد حادث كنيسة سيدة النجاة نهاية العام الماضي وأن مسيحيي العراق يشهدون عملية نزوح بطيئة لكنها منتظمة ورغم دعوة الحكومة العراقية المسيحيين إلي البقاء في بلدهم فقد آثروا التوجه إلي ملاذات آمنة في دول أخري بعد أن فقدوها في وطنهم لكنهم مع ذلك لن يتخلوا عن حلم العودة إلي ديارهم وهم يرددون تراتيل المجد لله في العلا وعلي الأرض السلام وفي الناس المحبة. وظهر الكثير من التحليلات التي تؤكد وجود محاولات لإفراغ العراق في هذه المرحلة من الطائفة المسيحية داخل العراق بدفعهم إما إلي القتل أو إلي التهجير الداخلي أو الخارجي، وإن هناك تلاقيا في أغراض محلية ودولية لتحقيق ذلك ابتداء تحاول جذب المسيحيين إلي مناطقها حتي يتم إكثار النسبة المئوية للسكان فيها وهنالك تهجير إقليمي وهنالك تهجير دولي إذ قامت بعض الدول الأوروبية في استقطاب مسيحيي العراق نتيجة تعرضهم إلي هذه المأساة الكبيرة من قتل وتهديد وإبادة جماعية دفع المسيحيون ثمنها غاليا. ولعل هذا الوضع المأساوي لمسيحيي العراق كان حاضرا في ذهن البطريرك الماروني اللبناني «بشارة الراعي» قبل أيام عندما أطلق مقولة كان لها صداها الإقليمي.. وذلك عندما أقام وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه له أثناء زيارته لفرنسا عشاء عمل في الخارجية الفرنسية وحضره عدد من المسئولين والدبلوماسيين، الوزير الفرنسي سأل الراعي خلال المأدبة عن بديل نظام بشار الأسد في دمشق التي تشهد مظاهرات مستمرة منذ ستة أشهر.. الراعي أجاب إجابة «مسيحية» براجماتية بحتة وواضحة جدا «بأنه مع الديموقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه يفضل أحيانا السييء علي الأسوأ». وفي مصر وبعد تصاعد الأحداث ومن قبل ثورة يناير وتحديدا مع حادث كنيسة القديسين وتبعتها التطورات التي شهدتها الثمانية أشهر الأخيرة وكان ختامها أحداث ماسبيرو وفي هذه الأشهر اجتاحت حمي اللجوء الديني أقباط مصر.. والآن خرجت دعوات لطلب الحماية الدولية للأقباط وخاصة من قبل الولاياتالمتحدة هذه الدعوات أطلقها بعض النشطاء المسيحيين وتبنتها بعض مجموعات أقباط المهجر وظهرت صفحات علي موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» تحت عنوان «نعم لطلب الحماية الدولية لأقباط مصر».. عمليا حرصت السفارة الأمريكية في القاهرة علي نفي طلبها التدخل أو عرضها إرسال قوات كما تحدثت بعض التقارير الإعلامية وكان اللافت أنها نفت هذا الأمر في بيانين إعلاميين خلال 48 ساعة من أحداث ماسبيرو. وجرت مباحثات هاتفية بين وزير الخارجية محمد كامل عمرو ونظيرته الأمريكية هيلاري كلينتون التي أقدمت علي إجراء الاتصال لتقديم التعازي للشعب المصري.. وخلال هذا الاتصال أكد عمرو علي مجموعة من النقاط تقطع الطريق لأي تفكير أمريكي من أي نوع تمثلت في التأكيد علي، أولا: أن مثل تلك الأحداث لا تعبر بالمرة عن الترابط بين جميع أطياف الشعب المصري الذي أظهرته ثورة يناير بجلاء وقوة. والتشديد علي عزم الحكومة المصرية علي التعامل بجدية مع تلك الأحداث والتحقيق فيها بصورة وافية بما يظهر جميع خلفياتها ومسبباتها.. وإن ذلك من خلال قرار الحكومة بتشكيل لجنة قضائية لتقصي الحقائق من بدايتها. وإزاحة الستار عن الإجراءات التي تزمع الحكومة المصرية اتخاذها لضمان الحقوق الدينية لجميع المواطنين، وفي مقدمتها إصدار قانوني دور العبادة الموحد وتجريم التمييز. مصدر دبلوماسي مصري تحدث بلهجة حاسمة ل«روزاليوسف» قائلا: إن مصر لا تقبل أي محاولة من أي جانب قد تمثل تدخلا في الشئون المصرية وفيما يخص ملف الوحدة الوطنية وهو خط أحمر مصري معلن وصريح عندما تتحدث الولاياتالمتحدة عنه معنا يكون من باب الاستفسار في ضوء العلاقة الاستراتيجية بين القاهرةوواشنطن.. لأن الولاياتالمتحدة يعنيها استقرار الأوضاع في مصر لأنها تدرك أن مصر هي ركيزة الاستقرار في هذه المنطقة. وبعيدا عن الحديث السياسي والدبلوماسي الذي يؤكد أن الولاياتالمتحدة لا تعمل سوي لمصلحتها فإنه يجدر التذكير بدراسة خطيرة نشرتها صحيفة «جلاسكو هيرالد» الإسكتلندية في فبراير الماضي وكانت مجلة «روزاليوسف» أعادت نشرها في حينها وهي عبارة عن تقرير لأحد الباحثين المهتمين بشئون الشرق الأوسط ومصر والعرب عن خطة بعيدة المدي نسجت خيوطها داخل وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ووزارة الدفاع الأمريكية - البنتاجون - تهدف إلي حصار مصر ثم التهامها عسكريا، قال الباحث إن الولاياتالمتحدة بدأت تنفيذ المخطط منذ ثلاث سنوات من خلال سعيها لاحتلال إقليم دارفور غرب السودان دوليا وعسكريا من خلال نشر قوات أمريكية بريطانية مدعومة بقوات من الأممالمتحدة حليفة لواشنطن مشيرا إلي أن هذا المخطط يستهدف تحويل إقليم دارفور إلي قاعدة عسكرية أمريكية تنتشر بها صواريخ بعيدة ومتوسطة المدي موجهة ناحية مصر ودول الشمال الأفريقي ومنطقة الخليج وإيران. وإن الولاياتالمتحدة تهدف من ضغوطها الحالية علي المجتمع الدولي وخاصة الدول الحليفة لها مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا لتكثيف الضغوط علي الحكومة السودانية لنشر قوات دولية بالإقليم، علي أن يتم لاحقا نشر قوات تتخذ من الإقليم قاعدة عسكرية ويهدف المخطط الأمريكي أيضا عبر إثارة الفوضي في مناطق الحكم الذاتي في فلسطين والضغط علي محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، حتي يعلن أنه بحاجة لنشر قوات دولية بقطاع غزة الموازي للحدود المصرية بهدف حماية السلطة الشرعية من حركة حماس، بقاعدة عسكرية جديدة لتطويق الدولة المصرية التي يعتبرها الأمريكيون الدولة العربية التي يجب الحذر منها تحسبا لأي طارئ يحدث في العلاقات المصرية الأمريكية أو المصرية الإسرائيلية. أكد تقرير الصحيفة أن الولاياتالمتحدة حددت سبع سنوات لتنفيذ مخططها ينتهي عام 2015 مشيرا إلي أن واشنطن تسعي منذ فترة إلي افتعال أزمات سياسية ودينية وعرقية داخل مصر مما يؤدي إلي انقسام الشعب المصري ويجعل مصر عرضة لانتقاد المجتمع الدولي وفرض عقوبات عليها، ومن ثم التمهيد لاحتلالها عسكريا بعد التدخل في شئونها الداخلية.