بين أزمة وأخرى، ما تلبث المنطقة التى ارتبط اسمها بصناعة الإرهاب، خلال عقود مضت أن تشهد أزمات جديدة «لاهثة» ربما عجز أبناؤها أنفسهم عن ملاحقتها!! قيدتهم الأزمات فتحولت بمرور الوقت إلى نكبات!! فبين ظهورهم استقرت خلايا العنف لسنوات.. وبين أيديهم نمت «العشوائيات». عندما أرادوا أن يتنفسوا الصعداء كان أن تلاعب عدد من رجالات النظام السابق وسماسرته بأرض المطار الواقعة فى زحام المنطقة، إمعانا فى الفساد والإفساد!! ولم يكد مليون و100 ألف نسمة يسكنون المنطقة - إمبابة - يرتبون أوراقهم، بعد أن سقط النظام الذى أدار لهم ظهره طوال سنوات خلت، إلا ووجدوا أنفسهم من جديد بين براثن «فتنة» تتحين الانقضاض على الوطن كاملا، إذا ما أتتها الفرصة!! «التوك توك» داخل شوارع إمبابة يتحرك باضطراب تستشعر معه أنك فى مهمة صعبة للعبور، وبائعو المخدرات والخارجون عن القانون أكثر من بائعى الخضروات والفاكهة! تنتشر فى إمبابة ظاهرة المساكن المشتركة حيث إن 17% من عائلات المنطقة تسكن غرفة واحدة تستخدم للنوم وطهى الطعام والاستحمام.. ومعظم هذه المساكن تخلو من المرافق إذ إن معظم سكانها نزحوا إليها من محافظات أخرى.. وتحديدا محافظات الوجه القبلى. مثلا شارع المشروع الذى يقترب كثيرا جدا من كنيسة مارمينا بشارع الأقصر التى شهدت الأحداث المؤسفة الأخيرة يمتلئ بالصعايدة الذين يعيشون داخل المنازل الصغيرة، ويتاجرون فى كل شىء تصل إليه أيديهم تقريبا!! وتنقسم المنطقة حديثا إلى عدة أحياء أهمها حى «المنيرة» الغربية والكيت كات.. وشارع المنيرة الرئيسى.. وهو الشارع الوحيد الذى نجا من إهمال النظام السابق تقريبا!! لكن عندما تسير داخل شوارع المنطقة الكثيرة والمتداخلة فأقرب إحساس سوف يراودك، هو أن شيئا ما سوف يحدث.. المشاجرات لا تنتهى معدل الجريمة فى زيادة.. وكأن المنظقة سقطت سهوا من حسابات الشرطة!! السلفيون فى المنطقة لهم باع كبير.. فإمبابة يطلق عليها دوما معقل السلفيين سواء كانوا معتدلين أو متطرفين.. إذ انتشر الفكر السلفى أواخر السبعينيات.. وأكثر سلفييها يتواجدون بشارع الوحدة وأرض المنطقة أو شارع الطيار فكرى وشارع الاعتماد. وفي شارع الطيار فكرى توجد جمعية أنصار السنة المحمدية التى تعتبر الجمعية السلفية الرئيسية بالمنطقة.. ومواقفها المعلنة تدعو لنبذ الفتنة الطائفية وحرق الكنائس. وحسبما قال لنا عبدالكريم حسن على رئيس الجمعية التى تأسست العام 1926 فإن الجماعة تعتمد على منهج وعقيدة أهل السنة والجماعة فى التلقى والاستدلال. ومن أشهر شيوخ السلفية الذين ولدوا بإمبابة ومارسوا الدعوة من مساجدها الشيخ محمد حسين يعقوب المولود بقرية المعتمدية. وأهم المساجد التى يرتادها السلفيون بالمنطقة: مسجد الإخلاص بشارع المشروع ومسجد أنصار السنة المحمدية التابع للجمعية ومسجد الهدى الذى خرجت منه أزمة غزوة الصناديق الشهيرة، ومسجد التوبة بالوحدة، ومسجد الجمعية الشرعية بالوحدة أيضا. وارتبط اسم إمبابة منذ ثمانينيات القرن الماضى بالعديد من أعمال العنف إذ كانت معقلا للعديد من التيارات الإرهابية، خاصة بمناطق المنيرة الغربية وعزبة الصعايدة. عم ملاك واحمد ابراهيم داخل الكنيسة وبدأ الأمر بفرار مجموعة كبيرة من العناصر الإرهابية من الوجه القبلى لتستقر بمنطقة إمبابة.. وساعدهم على ممارسة نشاطهم طبيعة مناطق إمبابة العشوائية التى يصعب اختراقها تماما إلا سيرا على الأقدام. ثم كان أن تنامت هذه الجماعات سريعا حتى جعلت من هذه المنطقة مكانا محظورا وساخنا يخشى الجميع الاقتراب منه.. ووصل الأمر إلى حد إعلان إمبابة دولة مستقلة عام 1992 تحت مسمى «جمهورية إمبابة الإسلامية». وتناولت وكالات الأنباء العالمية وقتها هذا الخبر بشكل واسع.. وانتشر وقتها اسم الشيخ جابر السلفى، أو جابر الطبال كما يعرفه الكثيرون.. وأطلق عليه الطبال نسبة إلى مهنة إذ كان يعمل طبالا ونجار مسلح. و«جابر الطبال» كان يعيش داخل أزقة عزبة الصعايدة بإمبابة.. كان شابا «فلاتى» كما يصفه أهالى إمبابة.. ويعمل خلف إحدى الراقصات بشارع الهرم ويعشق النساء كثيرا.. وذات ليلة تعرف على الإخوة بأحد المساجد وترك عمله كطبال ليصبح أميرا لإحدى الجماعات المتطرفة. واستطاع بالفعل السيطرة على إمبابة بأكملها هو وجماعته المتطرفة، وتنوعت جرائمه بين اضطهاد المسيحيين وقتل الأبرياء وسرقة المحلات وأموال الغير وإقامة الحد على الخارجين عن قواعده! وبعد أن أعلن الشيخ جابر قيام دولة إمبابة واعتبار نفسه حاكما لها وأرسل هذا الخبر لوكالات الأنباء العالمية - قررت وزارة الداخلية التعامل مع جابر ومع حى إمبابة الذى سجل أعلى معدل للجريمة فى مصر - وتم إعداد خطة تبدأ بحصار مداخل ومخارج إمبابة ثم المداهمة من الداخل: وانتهت الحملة بعد حصار استمر أسبوعين بالقبض على جابر وأعوانه.. وبحسب أحد أهالى المنطقة فإن الشرطة عندما ألقت القبض على جابر كان مختبئا بمنزل «واحدة ست»! جابر الطبال أدى فترة سجنة كاملة وخرج منذ فترة ويعيش الآن فى شارع الاعتماد بإمبابة ويعمل كهربائيا وابتعد تماما عن كل ممارساته السابقة ويطلقون عليه الآن اسم «جابر الشيال». متياس الياس ورغم انتهاء أسطورة جابر إلا أن التطرف لم يهجر إمبابة ولم يعد الأمر عبارة عن جماعات فقط.. بل طال الأفراد كذلك.. وهو ما دفع العديد من أهالى المنطقة إلى أن يتجنبوا التعامل معهم خوفا من رد الفعل.. إذ يكفرون كل من يرتكب فعلا يظنونه مخالفا لصحيح الدين. على الجانب الآخر ينتشر الكثير من الأقباط داخل أحياء إمبابة المختلفة إذ تعد المنطقة ثانى أكبر أحياء القاهرة الكبرى من حيث التواجد القبطى بعد منطقة شبرا إذ يبلغ تعدادهم نحو 200 ألف نسمة يتمركزون فى البصراوى وشارع الأقصر وشارع المشروع. ويوجد داخل إمبابة 14 كنيسة مختلفة منها: 10 كنائس تابعة للطائفة الأرثوذكسية و3 كنائس للطائفة الإنجيلية وكنيسة واحدة كاثوليكية.. ومن الكنائس التى تتبع الملة الأولى.. كنيسة العذراء بالوحدة التى أحرقت فى الأحداث الأخيرة. وبنيت هذه الكنيسة عام 1960 وصممها المهندس المعمارى ويصا واصف على طراز العمائر الكنسية القديمة مع تطوير الطابع المعمارى. شارع الأقصر من أكثر المناطق التى تشهد تحركا للأقباط داخل إمبابة.. وهو شارع طويل أقيمت المساكن والبيوت القديمة على جانبيه بشكل عشوائى.. وأكوام القمامة هى إحدى أهم العلامات المميزة لهذا الشارع.. الذى يبدأ من بشتيل وينتهى عند شارع البوهى قبل شارع زكى مطر.. ويتفرع عنه شارع المشروع الذي يبعد مسافة 6 كيلومترات عن العاصمة القاهرة.. وفى منتصف هذا الشارع تماما تقع كنيسة مارمينا. الوضع داخل شارع الأقصر الآن ومنذ عدة أيام ملتهب جدا.. فالجيش والشرطة العسكرية يطوقون مداخل ومخارج الشارع ويفرضون حظر التجوال من الساعة الثانية ظهرا ومن غير المسموح به دخول أى شخص للشارع.. ومن يريد شراء أى شىء يذهب إلى شارع المشروع فى غير ساعات الحظر. خطر العشوائيات العمارتان المجاورتان للكنيسة محترقتان تماما.. وإلى جوارهما التقينا «أبانوب».. وهو شاب مسيحى «18 عاما» كان أحد شهود العيان، إذ أصيب بجرح بسيط برأسه أثناء المعركة بسبب مرور إحدى الرصاصات بجانب رأسه الصغير. «أبانوب» الذى يسكن فى المنزل المواجه لكنيسة مارمينا حكى لنا أن مجموعة من الملتحين جاءوا إلى شارع الأقصر بصحبة أحد الشباب الذى يدعى وجود زوجته المسلمة داخل الكنيسة وقاموا باقتحام الكنيسة والاعتداء على من فيها.. وبدأ فجأة إطلاق النار من جميع الأطراف وتحول الأمر إلى معركة حامية الوطيس. أما محمد إبراهيم الذى يسكن بشارع المشروع القريب جدا من الكنيسة فقال لنا إن إطلاق النار بدأ من جانب الأقباط وتحديدا من فوق سطح منزل عادل لبيب أحد سكان المنطقة وصاحب أحد المقاهى المواجهة للكنيسة. ويؤكد محمد أن من جاءوا باحثين عن عبير داخل الكنيسة تعاملوا بكل احترام فى البداية وأثناء حديثهم مع حارس الكنيسة قالوا له «أرجوك إحنا عايزين نخلص الموضوع بهدوء» فرد عليه حارس الكنيسة قائلا: «إحنا بأة عايزين نولعها»! تتضارب الأقوال من شخص لآخر.. لكن لم يختلف أحد على قصة عبير وياسين، أو على وجود مجموعة من السلفيين داخل المعركة.. إلا أن البعض أشار بأصابع الاتهام ناحية أحد تجار السلاح الأقباط - يسكن بجوار الكنيسة - بأنه أول من بدأ بإطلاق النار، وأنه يمتلك العديد من الأسلحة والذخائر داخل مسكنه.. بينما يشير البعض الآخر إلى أن السلفيين جاءوا منذ البداية وهم مستعدون لهذه المعركة إلا أن النتيجة النهائية أن حالة الاحتقان أصبحت هى التى تتسيد الموقف، إذ إن المقاهى المجاورة لا هم لها إلا الحديث عن الأزمة.. وهى أحاديث لا تخلو من حين لآخر من وصلات تحريضية.. مسلمون ومسيحيون يترقبون غفوة من هنا أو هناك. ينتهى شارع الوحدة ذو الأغلبية السلفية والقريب جدا من كوبرى الساحل بكنيسة العذراء «مريم»، ورغم أن الوضع مستقر بالشارع إلا أن آثار الأحداث لا تزال بادية عليه. «روزاليوسف» رغم الحصار الأمنى استطاعت دخول الكنيسة وتصويرها وحضور قداس الاثنين الماضى.. وشاهدنا كيف التهمت ألسنة الحريق الكنيسة بأكملها ولم تترك شيئا سليما. التقينا بكاهن الكنيسة الأب «متياس إلياس» الذى قال لنا وهو يجلس بين بقايا الكتب والمخطوطات المحترقة: الإخوة السلفيون تواجدوا أمام كنيسة مارمينا بدعوى وجود أخت اسمها عبير كانت مسيحية ثم أسلمت داخل الكنيسة وبدأ الأمر يشتعل تدريجيا إلى أن حدث اقتحام الكنيسة بعد أن توافدت أعداد أخرى عليهم.. والإسلام لا يقول مثل هذه الأمور البشعة.. هؤلاء المتطرفون يخربون البلد. عم «ملاك» حارس الكنيسة حكى لنا الأمر هو الآخر قائلا: اللى دخلوا علينا كانوا 3 شيوخ ومعاهم12 تتراوح أعمارهم بين سن 15 و25 سنة اختبأت منهم فى أوضة جانبية.. ولما عرفوا مكانى دخلوا ومسكونى وحطوا المطواة على رقبتى وسألونى «فين السلاح اللى معاك»! قلت لهم: مفيش سلاح يا بنى ولو معانا مكنتوش دخلتوا.. قام ضربنى وخد الموبايل و1800 جنيه ورخص العربية وسابلى البطاقة. والعيال دى شكلهم حرامية ومن غير ذقون. وقعدوا يضربوا فيا لحد ما واحد من الشيوخ قالهم «سيبوه ده راجل كبير» فتركونى ونهبوا كل شىء السجاجيد والتليفونات وكل شىء.. وفجأة ظهر كريم ابن عم عبدالله.. وقال لهم: «محدش يقرب من عم ملاك ده ساكن فى حتتى واللى هيقرب له هاقتله» ثم أخذنى.. وخرج على الموتوسيكل الخاص به. وتحدثوا جميعهم عما فعله الشاب المسلم «كريم عبدالله» وإنقاذه لعم ملاك حارس الكنيسة مما يدل على عمق العلاقة بين المسلمين والأقباط فى الشارع وأن من فعلوا ذلك ليسوا من إمبابة ويريدون نشر الفتنة الطائفية بها إذ إن أول شخص ذهب ليطفئ الكنيسة كان مسلما. أحمد إبراهيم صاحب محل الموبايلات المواجه للكنيسة وجه حديثه لنا: والله كنا نطفئ الكنيسة جميعا.. مسلمين ومسيحيين.. ولا يوجد بينا مثل هذا الكلام.. هناك شىء غامض بالفعل. وعقب «ريمون» أحد أبناء الحى: يجب الفصل بين شارع الأقصر وشارع الوحدة.. من أحرقوا الكنيسة جاءوا من شارع الأقصر.. لم يتمكنوا من إحراق الكنيسة الموجودة هناك فأتوا لإحراق كنيسة العذراء لأن المسيحيين هنا أقل عددا.. فليس بيننا هنا مثل هذه التفرقة ويوميا منذ هذه الأحداث يقيم أهالى إمبابة العديد من المظاهرات رفضا لما حدث ورفضا لإشعال الفتنة بين أهالى إمبابة بشكل خاص وبين المصريين جميعا بشكل عام. لكن.. يبقى أن إمبابة التى لم تأخذ حيزا من الاهتمام فى عهد النظام السابق تحولت إلى بؤرة مهيأة للإجرام والجهل والمستوى المعيشى المنخفض، وآن الأوان لكى ترى جانبا من الاهتمام من قبل الدولة والنظام المقبل.. فهل سنشهد نهاية لهذا الأمر.. نتمنى ذلك.