من الخطأ، بل والخطر أن يتم التعامل مع قضايا الأسرة بالأسلوب الذى يتم التعامل به مع المطالب الفئوية التى وجد أصحابها فى نوافذ الحرية التى تفتحت مع ثورة الخامس والعشرين من يناير روح الشجاعة للتظاهر والخروج مطالبين بها، وإذا كان لأولئك الذين حرموا من نسيم الحرية ثلاثة عقود كوامل حق فى أن يمارسوا حريتهم للمطالبة بما حرمهم منه النظام الذى سقط برئيسه ورموزه، وجميع أركان الفساد والعفونة التى كان يعتمد عليها، إلا أن استعمال ذلك الحق يجب أن يتم برشد وعقل، وألا يخلط بين الصالح والطالح مما أنجز على أرض مصر بأموال شعبها وفكر المخلصين من أبنائها، ولأن أى ثورة عندما تقوم لا تستهدف كل ما أنجز. سوزان مبارك وإنما تستهدف الإجراءات الفاسدة التى تستذل الناس وتسومهم سوء العذاب وتستبيح كرامتهم وحرياتهم وخصوصيات حياتهم، أو تلك الأنظمة الظالمة التى تفرق بين الناس وتجعل أبناء الشعب الواحد فريقين، فريقا فى الجنة وفريقا فى السعير، أو فئتين، فئة تسكن القصور وتأكل لحوم الطاووس، وفئة تسكن العشوائيات وتذوق الذل والمهانة لتحصيل قوت يومها، وقوت من تعول من أبنائها وأهلها. وفى نظرنا إن ما تم من إصلاح تشريعى فى مجال الأسرة والطفولة لم يكن من ضمن المفاسد التى يجوز الخروج من بعض الأشخاص للمطالبة بتقويضها ورميها بأنها كانت من رواسب ما قبل الثورة ، بل كانت تلك الإصلاحات إنجازا تشريعيا لم تحققه جيهان السادات أو سوزان مبارك، بل حققه الشعب المصرى، ولا أبالغ إذا قلت إن تلك الإصلاحات التشريعية التى بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضى، ووضع لبناتها علم شامخ من طراز إمام لا يختلف عليه اثنان، وهو الإمام الأكبر المرحوم الشيخ جاد الحق على جاد الحق - طيب الله ثراه - حيث بدأت تلك الإصلاحات فى عهده، وكان متحمسا لها ليس لصالح الأم أو الصالح الأب، وإنما لصالح الطفل الذى أولت الشريعة الإسلامية الغراء حقه فى أن يحيا حياة أسرية صحيحة بكل اهتمام ورعاية، حتى جعلته حقا من حقوق الله تعالى التى يجب أن يتعاون الجميع لحمايتها ورعايتها والنهوض بها، شأنها فى ذلك كشأن أى حق يعجز صاحبه عن تحصيله، ويتعين على المجتمع أن يعينه فى الوصول إليه. لقد بنت شباب ثورة 25 يناير فى ظل تلك الإصلاحات الأسرية، ولولاها لما وجد البيئة التشريعية التى صنعت منه هذا النموذج المشرف للشباب حتى أصبح فخرا يحتذى ويذكر على مستوى العالم كله، فقد نشأ فى بيئة أسرية أثبتت الثورة أنها كانت أرضا طيبة لإنبات هذا الشباب المشرف وإثماره حتى أصبح مصدر أمل لأمته، ومنقذا لها من الاستعباد والذل بعد أن ظلت الأجيال التى عاشت قبله تتجرع كئوس الهوان من حكامها على مضض، ولا تملك أدنى قدر من الشجاعة لتقول للظالمين كفى، جاء هذا الشباب فغير ذلك الواقع المرير، وأعاد الحياة والأمل لأمته، ولولا ما شهدته الأسرة من إصلاحات تشريعية كفلت له أجواء السلام النفسى وأبعدته عن ذلك الصراع الوحشى المجافى للأخلاق الإسلامية، بل وللمعاملة الإنسانية المتحضرة، والذى يشعل نار هو زوج أحمق انفصل عن زوجته، ويريد أن يصفى حساباته معها من خلال الأولاد ليحرق قلبها ويثأر منها، وقد لا يعنيه الولد فى قليل أو كثير، وربما يدفع عشرات الألوف للمحامين حتى لا يحصل ولده على حقه فى النفقة التى أوجبها الشارع له، ثم يتباكى على حرمانه من رؤية ولده، أو زوجة قاسية أعماها الصراع مع طليقها عن مراعاة حقوق الله فى الصغير الذى إن اقتضت مصلحته أن يعيش مع أمه، فإنه لا يجوز أن يشطب اسم والده من حياته وهو حى، فإن التكوين التربوى الصحيح يقتضى أن يعيش مع أمه ولا يمحى أبوه من ذاكرته، وفى نفس الوقت الذى يجب إبعاده فيه عن لهيب الصراع الذى قد يحتدم أو يكون محتدما بينهما أقول : الشيخ جاد الحق لولا ذلك الإصلاح التشريعى الذى تعامل مع تلك القضية الشائكة بشعرة معاوية، لما وصل هذا الشباب إلى بر الأمان، ولما استطاع أن يصنع تلك الثورة الرائدة التى أطاحت بأخطر ديكتاتور فى عصرنا وقوضت فسادا تراكم على امتداد عقود، وحققت ما نعيشه من إعجاز تاريخى لم يسبق له وجود. أقرر ذلك، وأنا أشعر بالأسى لتلك الزمرة من الذين لم يتورعوا عن فعل ما يندى له الجبين من تهديد بالقتل والضرب، وسباب مقذع بأوقح الألفاظ لمن يعلمون أن له رأيا يخالف ما يرمون إليه من تقويض ما تم إصلاحه فى مجال الأسرة والقوانين التى تقوم عليها تلك الإصلاحات، ليأخذوا الأطفال من أمهاتهم وليفرضوا ما يرونه لهدم ما تم إنجازه فى هذا المجال. وحتى يخلقوا جوا صناعيا عاما يوهم الناس بأنهم كثرة، وأنهم طلاب حق وجدوا فى الثورة متنفسا للحصول على مطالبهم، ولم يتورع أحد هؤلاء من الاتصال بضحاياه عبر شرائح هاتفية يلاحقهم بأقذع السباب الذى يتورع عنه أعتى المجرمين، ويخجل منه أكبر الشياطين، ثم يغلق الخط، فإذا ما طلبت الرقم الموجود لا تجد من يرد عليك سوى ذلك التسجيل الذى يقول : إن هذا الرقم مرفوع من الخدمة كما جندوا بعض السفهاء الذين خضعوا لابتزازهم، ومنهم سيدة يحسبون أنها على فقه، والفقه منها براء، لقد دخلت على العلم الشرعى من نوافذه لا من أبوابه ثم وجدت بعض الفضائيات فى تكوينها غرابة ، وفى تفكيرها عوج فاحتوتها وصنعت منها نجما، فاغترت المسكينة وظنت نفسها طاووسا، وليس لها فى العلم رصيد يسمح، وأخطر ما يواجه الإصلاحات الأسرية فى أيامنا تلك، هى تلك الفئة ممن يريدون أن يخطفوا الأبناء من الأمهات، ليس بالفقه أو بالشرع أو بالحق، بل بالقوة والبلطجة، إنهم قلة قليلة لكن لديهم من الجرأة ما يكدر صفو البحث المتأنى لقضية تستحق من الكافة أن يخلصوا لها، وأن يتعاملوا معها بحياد وموضوعية، وللحق، فإن مجمل من يطالبون بالإصلاح أو التغيير ليسوا على تلك الشاكلة، ولكن الكثيرين منهم عقلاء يظنون أن ثمة عيبا قد حدث، وأن هناك خللا قد حصل، وأنه يتعين بحث الأمر من جديد بغية التثبت مما يبدونه من أقوال وما يثيرونه من ادعاءات، ونحن مع هؤلاء، ومع غيرهم فى الوصول إلى رأى فقهى سديد فى تلك القضية الشائكة التى يصعب أن يرضى الجميع برأى واحد فى كل قضاياها. وهو ما سنواصله فى الأسبوع القادم بإذن الله.؟ أولا : سن الحضانة : من المعلوم أن قضية سن الحضانة، كانت - ولا تزال- من القضايا التى استحوذت على اهتمام الفقهاء فى المذاهب الأربعة وغيرها وبين قدامى الفقهاء والمحدثين، ومجمل ما قالوه مؤيدا بالأدلة التى يستند إليها أصحاب كل قول ثلاثة أقوال: «1» القول الأول يرى أن سن الحضانة يبدأ بسن التمييز، أى السابعة فما فوقها. «2» والقول الثانى يرى أن سن الحضانة منتهاه بلوغ الفتى والفتاة. «3» القول الثالث لا يحدد سنا معينة، وإنما يجعل نهاية سن الحضانة مرهونا بمصلحة الصغير وما تقتضيه تلك المصلحة، دون التقيد بسن معينة، فقد يستغنى المحضون عن أمه وهو دون العاشرة، وقد لا يستغنى عنها وهو دون العشرين، وأدلة كل قول مبسوطة فى كتب الفقه، كما أن أقوال كل رأى منسوبة للقائلين بها من قدامى الفقهاء فى المذاهب الأربعة وغيرها. ومن خلال دراسة هذه المسألة دراسة فقهية متأنية ومستفيضة ولم يكن الدافع فيها سوى وجه الله ومصلحة الأطفال والأسرة والمجتمع استبان لى أن الرأى الثانى هو الراجح، وذلك لقوة أدلته وكثرة أدلته وكثرة القائلين به من الفقهاء الأربعة وغيرهم. وقد اتفق القائلون بهذا الرأى وغيرهم على أن البلوغ يبدأ بظهور العلامات الطبيعية للبلوغ فى الفتى والفتاة، وهى فى الفتى : الاحتلام والإحبال، وظهور شعر اللحية والعانة، وفى الفتاة : الحيض والاحتلام، وهى علامات جسدية يعرفها الناس ويحكمون ببلوغ من تظهر فيه ويحكمون عليه بأنه قد بلغ مبلغ الرجال أو بلغت مبلغ النساء، ونظرا لأن تلك العلامات يختلف ظهورها فى أصحابها بحسب البيئة، وظروف المكان والمعيشة، اقتضى التطبيق التشريعى الصحيح للأحكام الشرعية المختلفة فى المجال العام أو الخاص توحيد المعيار الذى تطبق عليه الأحكام بالنسبة للمكلفين جميعا عند بلوغ سن معينة يدل على وجود البلوغ. ومن أجل هذا التوحد فى تطبيق الأحكام التكليفية عند بلوغ سن محددة، اتجه الفقهاء إلى ترجمة البلوغ بالتقدى الحسابى، وباستقراء أقوالهم فى السنة التى توافق بلوغ الصبى نجد أن أقوالهم قد اختلفت تصاعديا فى تقدير هذه السن ليبدأ أقل تلك الأقوال عن «15» سنة، ثم يتصاعد فى بعض الأقوال ليكون «17» سنة للفتى والفتاة، وفى قول «17» للفتى، و«18» للفتاة، «20» سنة، «22» سنة،«24» سنة، وتمسك الإمام داود الظاهرى بالعلامات الطبيعية للبلوغ، فقال : لا أحكم ببلوغ الصغير ما لم تظهر فيه العلامات الطبيعية حتى ولو بلغ أربعين سنة، وليس مراده بذلك أن سن البلوغ التى ترتبط بها الحضانة أربعون سنة، ولكنه يفترض ذلك عند عدم ظهور علامات البلوغ الطبيعية، وذلك جريا على مذهبه فى الاستنباط وهو التمسك بظواهر الأدلة التى تفيد ذلك، ومنها ما فعله النبى - صلى الله عليه وسلم - مع من جاءه يريد الجهاد فلم يجزه حتى استيقن من ظهور إحدى علامات البلوغ فى بدنه. وقد ترجح الرأى الفقهى القائل بأقل ذلك التقدير وهو بلوغ الصغير «15» سنة، وتم التعديل التشريعى على وفقه، وكان لذلك الاختيار - فضلا عن أنه أقل تقدير قال به عدد كبير من الفقهاء - اعتبارات فرضها الواقع، وأظهرتها مستجدات العصر، ومنها أمران: أولهما : استصحاب الأصل، وهو يقضى بإبقاء ما كان على ما كان فى ظل ظروف اجتماعية وعامة تستوجب تحقيق الاستقرار النفسى للصغير، وذلك بإبقائه فى حضن أمه أو حضانتها حتى يقوى عوده، ويقدر على تحمل الصدمات الاجتماعية والحياتية التى كان يتحملها من هم أدنى منه سنا فيما مضى، وليرتوى كثيرا من دفء أمه فينشأ هادئ النفس سليم التكوين ثانيهما : أن قسوة الحياة قد فرضت على الآباء أعباء جساما فى سبيل تحصيل لقمة العيش والانشغال بسببها خارج البيت وقتا طويلا فى معظم الأيام، ولو تم فصل الطفل عن أمه سريعا فى ظل ذلك الانشغال الكثير بهموم الحياة ولقمة العيش، فإن حظ الطفل سيكون هو الإهمال والضياع، فلن يجد أبوه وقتا يتعهده فيه بالرعاية أو الاهتمام بحياته أو تعليمه أو دروسه أو غير ذلك مما يتعلق بشئونه، وأن تركه لزوجته وهى غير أمه، فلن يشعر معها بالراحة، ولن يحظى منها بالرضا أو الاهتمام، وسيكون مآله للضياع. ومن الملاحظ أن اهتمام الأم بطفلها فى الشئون التعليمية والرياضية والاجتماعية وغيرها أكبر كثيرا من اهتمام الأب، ولهذا كان بقاؤه معها أطول فترة ممكنة بما يتفق مع مصلحة الصغير ، وهى الأصل الذى يدور حوله الكلام ولا يجوز أن يتعداه لغيره، فليس الأمر مما يتعلق بمصلحة الأم، كما أنه ليس مما يتعلق بمصلحة الأب، ولهذين الاعتبارين وغيرهما رؤى ترجيح القول الذى ذهب بأن أقل سن الحضانة هو سن البلوغ وأقله «15» سنة، وتم تغيير القانون السابق من «10» سنين للفتى، «12» سنة للفتاة وفقا لهذا التقدير وبناء على هذا الترجيح، ووفقا لتلك الاعتبارات. ومن البديهى : أن حضانة الأم لطفلها - إجمالا - تقوم على أدلة معتبرة فى الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة وآثار الصحابة بما يجعل المراء فيها جدالا باطلا والنقاش حول حق الولد - وليس حق الأم - فيها نقاشا عقيما ,. ثانيا : الحضانة والرؤية والاستضافة. وحضانة الأم لطفلها لا تمنع حق الولد فى رؤية أبيه، أقول : حق الولد وليس حق الأب، لأن المدار على مصلحة الصغير وحقه، وليس على حق يقتنصه الأب من الأم أو تمنعه الأم عن الأب. وحق الرؤية فى نظرنا يتيح للصغير أن يرى والده رؤية هادئة يلمس فيها حنانه ويجد فيه القدوة بما يفعله الصغير مع أولاده حين يصبح أبا، وهى ليست رؤية بصرية، يذهب فيها الأب إلى ولده ويملأ عينيه بالنظر إليه، ولكنها رؤية تعنى العطف والحنان والحرص على حقوق الصغير وحاجاته وعلى رأسها النفقة التى قررها الشارع له. وفى نظرنا - أيضا - أن حق الرؤية، ومداره على مصلحة الصغير - لا يقتصر على رؤية الأب وحده، بل يتعدى الأب رؤية الجدين، بل وذوى عصوبته وأرحامه دون أن يقتصر على الأب، حقه أن يرى أقاربه حتى الدرجة الثالثة وهم الإخوة والأخوات والأخوال والخالات والأعمام والعمات، ومن باب أولى الأجداد والجدات، ويجب أن يشمل هؤلاء جميعا حكم قضائى واحد، ولا يقتصر الأمر على الأب وحده، أو الجد يحكم خاص به كما يحدث الآن. والأصل فى حق الرؤية أن يتم تنفيذه رضاء، وهذا ما يجب أن يكون شرعا، إذ إن ذلك التنفيذ الرضائى يعد من أهم تطبيقات الطلاق الجميل أو السراح الجميل أو التفريق بإحسان كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك فى أكثر من آية، ولاشك - فى نظرنا - أن التعاون بالأدب والأخلاق من أجل أن ينشأ الصغير نشأة طيبة يعد أمرا مطلوبا شرعا، وهو أدنى ما يكفر به الزوجان عن خطئهما حينما عجزا عن تحمل بعضهما واستمرار الحياة الزوجية بينهما من أجل تربية هذا الصغير الذى يعد من أول ضحايا حمقهما، وإذا كانا قد أفقداه حقه فى أن يعيش بين أبوين فى بيت، فلا أقل من أن يشعرانه بأنه يعيش بين أبوين وإن كان ليسا فى بيت، وحين يتحقق الرضا لا تكون ثمة مشكلة فى استضافة الأب لولده أو سفره به، مادام أن الأم راضية والثقة موجودة، والإيمان بالله يظلل الجميع. أما فى حال الاختلاف وعدم التراضى : فهنا تثور مشكلة الرؤية والاستضافة، لأن الاختلاف بين الزوجين سوف يجر الموضوع للقضاء، وحتى يصادف حكم القاضى موضعه الصحيح يجب أن يستند على عدد من الأصول الفقهية التى تنزل حكمه هذا المنزل، ومن تلك الأصول ما يلى : «1» التزام الأصل : والأصل الشرعى يقضى أن الحضانة للأم بالأدلة الشرعية الصحيحة، وإن حق الرؤية استثناء عليها ليس لمصلحة الأب، وإنما لمصلحة الصغير، والقواعد الفقهية تقضى بأن الاستثناء يقدر بقدره، ولا يتوسع فيه، وعليه لن يكون للاستضافة مع هذا الأصل مدخل، وإن كان هذا الأصل لن يمنع جميع أقارب الصغير حتى الدرجة الثالثة من رؤيته لهم على نجوم نحو ما سلفا. «2» التزام مصلحة الصغير وهذه المصلحة تقضى بأنه لا يجوز أن يزج به فى أتون الخلاف المستعر بين أمه وأبيه - مادام أنهما فى حالة عدم تراضٍ بشأن أمر يتعلق به - ولو أتيح للأب أن ينفرد به فى ظل ذلك الشغب الدائم بينهما لأصيبت نفسية الصغير بجرح قل أن يبرأ منه، وسيعانى تمزقا نفسيا يفقده الثقة بأمه التى يعيش فى حضنها من جراء ما يسمعه أو سيسمعه من أبيه الذى انفصل عنها، وفى أبيه بسبب ما يسمعه من ردود أمه على تلك الاتهامات الظالمة، ولن تلام إذا ما ردت على إساءاته نحوها أمام صغيرها مثل ما أساء إليها أو أكثر. وسيكون الصغير هو ضحية الخلاف، وذلك مما ينافى مصلحته، وهذا يجعل من فكرة الاستضافة أمرا متعذر الحصول ولا يسوغ أن يتضمنه حكم القاضى ، ومن ثم يقتصر الأمر على تحديد الزمان والمكان مع ما يتفق ومصلحة الصغير. «3» إن إسناد الحضانة للأم مقرر لمصلحة الصغير وهى أمينة على تلك المصلحة، بحكم ما أولاه الشارع لها والضغط عليها بما يدفعها للتفريط فى مصلحة الصغير والزج به فى أتون الخلاف المستعر مع زوجها، ينافى تلك الأمانة، ومن المقرر شرعا أن كل من يؤتمن على أمر يجب إعانته عليه، ولا يجوز حمله على خيانته، والإلزام القضائى بالاستضافة يناقض هذا المعنى ولهذا يتعين أن يكون الأمر برضاها ووفقا لما تراه موافقا لمصلحة صغيرها. ثالثا : الولاية التعليمية : مما هو مقرر أن التعليم يعتبر من أهم حقوق الصغير على والديه، لأن مدار الحضانة التى هى للأم، والولاية التى هى للأب، على مصلحة الصغير، والتعليم يعتبر من أهم مصالحه، بل هو الأساس فى تكوينه تكوينا عقليا صحيحا. وليس المقصود بالتعليم نوعه أو مستواه، ولكن المقصود به ما يلائم استيعاب الصغير ويتفق مع قدراته العقلية التى وهبها الله له، ومن المعلوم أن عطاء الله فى الذكاء والقدرات العقلية مختلف، ويتفاوت من إنسان لآخر، ولذلك كان معيار الحق فيه معيارا ذاتيا ينبع من ذات الصغير- وليس من رغبة أمه فى التفاخر باسم المدرسة التى يلتحق بها، ولا برغبة الأب فى توفير نقوده وإلحاقه فى مدرسة لا تساعده على استثمار مواهبه أو قدراته العقلية. ولما كان التعليم من حقوق التربية كان مداره على قدرة الأب المادية، مثله فى ذلك كمثل النفقة التى يقدرها عليه القاضى بحسب قدرته المادية ضيقا وسعة. كما يقول الله تعالى : «لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها سيجعل الله بعد عسرا يسرا»، وبالبناء على ذلك يكون حق التعليم مبنيا على اعتبارين هما : «1» القدرة العقلية والذهنية للصغير، ومدى ما يتمتع به من مستوى الذكاء الذى يؤهله لمستوى معين من الاهتمام التعليمى به. «2» قدرة الأب على أن يهيئ لولده المستوى التعليمى اللائق بمستواه، والمناسب لدخله المادى وقد اختلف الناس - وفقا لما أظهرته الوقائع - فى التطبيق الصحيح لهذين الاعتبارين ، فبعض الأمهات يرون أن من حق ولدهن مستوى فائقا من التعليم، ليس لأنه يلائم مستواه العقلى أو قدرة أبيه المادية، ولكن لأن اسم المدرسة يمثل مظهرا اجتماعيا أصبح موضع فخر فى المنتديات العامة، والملتقيات الاجتماعية التى تثير شهية النساء فى التقليد والتفاخر بمستوى التعليم الذى ينخرط فيه أولادهن أو المدرسة التى يتعلمون فيها، وبعض الآباء لا يعيرون حاجة أبنائهم اهتماما ويبخلون بالإنفاق عليهم فى التعليم كيدا لأمهاتهم أو بخلًا عليهم أو التفاتا عنهم إلى أبنائه من الزوجة الثانية التى تعيش معه وتفرض عليه أن يحابيهم على حساب أولاد الضرة الكريهة المطلقة. وهذه المشكلة حلها فى ساحة القضاء عند الاختلاف حولها، فهو الذى يملك القدرة على أن يلائم بين الاعتبارات المختلفة لتفريد وبيان حدود حق الصغير فى التعليم وفقا لكل حالة حسب ظروفها ومقتضاياتها. ولهذا كان من الخطأ الفادح أن ينتقل الأمر من ساحة القضاء إلى التشريع وإلزام القاضى بقانون الولاية التعليمية الذى صدر منذ عامين وجعلها للأم دون أن يكون للأب تدخل فيها أو سلطان عليها، وهى مخالفة تشريعية لا أتفق فى الرأى مع من يرون ضرورة تغييرها وإلغاء قانون الولاية التعليمية للأم، ليكون أمرها بالتراضى بين الوالدين، فإن اشتجرا فيها يرفع أمرها للقاضى ليحكم فيها وفقا للمعايير التى تمت الإشارة إليها، ذلك ما أراه، أعلنه بكل صدق وإخلاص وموضوعية، ولا أبتغى أجرا إلا من الله سبحانه ولن أخاف فى الله لومة اللائمين ولا تهديد المعتدين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.