في عيد ميلاده ال84 يمكن لمبارك أن يرسم نهاية تخفف مهانة السقوط.. فقط أن يلتزم بالعهد الذي قطعه علي نفسه يوم أن حلف اليمين الدستورية كرئيس للجمهورية، قبل أن يبدأ رحلته الطويلة في تجريف البلاد والعباد.. التزام مبارك علي خلفية الكرم المصري الحاتمي والمرض العاطفي الطاغي يمكن اعتباره هدية مقبولة.. «لا عصمة لا حد من سيف القانون الذي لا يفرق بين غني وفقير، أو قريب وبعيد».. هكذا قال الرئيس، ولم يستثن نفسه أو عائلته.. فلماذا عندما حانت لحظة تسديد الفواتير يتداعي بصورة مخيبة تتناقض مع كبرياء الجندية، ومسئولية الراعي الأول والأوحد.. لماذا لا يتذكر تحذيره القاطع «أقول لكل اللاعبين بالنار أن الشعب لن يرحم أحدا». هل يفعلها مبارك، هل يستغل ميلاده ال84 ويعلن انتصاره لوعد التنصيب.. الشعب ينتظر منه دليلا واحدا يؤكد صدق اعترافه «لم أشعر بلذة أي منصب.. لكنني أحسست بمسئولياته.. لا تهاون في التصدي للمنحرفين مهما كانت مراكزهم، ولم يستثن منصب رئيس الجمهورية أو شفاعته لزوجته وأولاده من هذا التصدي؟ عبور جديد لمصر ينافس عبور خط بارليف، اليوم تتجاوز مصر محنة الفراغ السياسي الاجباري نتيجة اغتيال السادات إلي المستقبل الذي أشرق حالا مع طلة الرئيس مبارك بحسب ماكينة التهليل المبتذل.. أغلبية مطلقة بايعت بطل أكتوبر، الذي لا يطمع في منصب أو جاه أو سلطان لكنه ضحي ووافق رأفة بالمصريين الذين يعيشون الفزع خوفا من ضياع الاستقرار.. د. محمد عبدالرحمن بيصار شيخ الأزهر قال: اختيار مبارك معاهدة علي المبادئ السامية، ومبايعة علي الأهداف النبيلة، ورد مبارك: صدر الأمر من الشعب وعلينا أن نطيع.. قرار الشعب بتكليفي بالمسئولية هو أمر أقسمت علي طاعته. ثم عاهدنا مبارك: أن أضع يدي في أيدي من أيدوني ومن حجبوا عني التأييد إلي حين.. أهدافنا القومية الكبري.. تحقيق الرخاء وزيادة الدخل ورفع مستوي المعيشة لجميع المواطنين.. وقبل أن تصبح كلمة «مواطنين» مستفزة تترجم إحساسا صادما بالاحتقار، واصل الرئيس: مسئوليتنا جميعا.. لا فرق بين كبير وصغير.. مسلم ومسيحي.. مؤيد ومعارض.. جدية وطهارة.. لا هزل ولا تضليل.. لا استخفاف بعقول الجماهير.. لا تناقض بين القول والفعل.. لا فساد ولا إتجار بقوت الشعب. -- مبارك يقدم نفسه باعتباره الرجل الذي أرسلته المقادير كضمان للاستقرار والأمان، وليس صاحب حلم في إنجاز جديد يسجله له المصريون.. الأكيد أنه لم يكن مهموما أو مشغولا بذلك، وكان شجاعا في مواجهة محررة مجلة نيوزويك التي ربما لم تستوعب رغم مرور كل هذه السنين هذه المواجهة علي أساس أن أي مواطن في بلد لابد أنه تخيل نفسه رأس الدولة لحظة أن تستعصي الأماني والمتطلبات. - سألته: ماهو الإنجاز الذي تود أن يسجله لك التاريخ أنك حققته لبلادك؟ - أجاب: هذا سؤال سابق لأوانه. - لابد أنك تفكر في شيء ما تود أن تحققه لبلادك؟ - في الوقت الراهن ليس لدي شيء جديد أود إنجازه - ولكن حلم واحد.. مجرد حلم؟ - كل ما أحلم به الآن، حلم به السادات.. وهو أن أجعل بلادي خضراء.. أن أوفر مسكنا وطعاما لجميع الناس.. ليس لدي وقت للتفكير في أمور جديدة. الرجل اختصر مهمته في تنفيذ أحلام السادات ويبني طهارته علي محاربة الفساد الذي خلفه السادات.. وهو الآن ينتقل من لا النافية إلي لا الناهية: - لن ألتزم بوعد لا أستطيع تنفيذه. - لن أخفي حقيقة علي الجماهير. - لن أتهاون في أي تسيب أو انحراف. - لن نتراجع في سياسة الانفتاح الاقتصادي - لن نهتم الآن إلا بمشروعات الإسكان الشعبي والغذاء والكساء والدواء. بالطبع.. الكلمات التي افتتح بها الرئيس حكمه تنتمي لكوميديا الفارسية التي تنتزع الضحكات من التنكيت علي عاهات الفقر والجهل والعواطف الطائشة، عند قراءتها بعد نهاية حكمه الطويل جدا خاصة أن فعله يتناقض تماما مع كلامه، كأنه يتعامل مع «أمة ضحكت من جهلها الأمم».. كما أن البحث في أرشيف لحظة التنصيب يهدف بالأساس إلي اكتشاف وعد لمبارك قابل للتنفيذ، من قبيل الاستثناء الذي يؤكد قاعدة التناقض الحاد بين كلام مبارك وفعله التي انطلق منها إلي رحلة التجريف العظيم.. وكان قد رحل الطلبات المستعجلة إلي نقاش بيزنطي مفتوح، مثل البحث عن الأسلوب الأمثل لترشيد الاستهلاك، إيجاد الحل الجذري لمشكلة الإسكان، ضمان وصول الدعم لمستحقيه، القضاء علي الإسراف والبذخ في الإنفاق العام والخاص، تعويض النقص في العمالة المدربة، ودعم القطاع العام وتعزيزه. -- هذا الاستثناء يحققه فقط محاكمة مبارك، هي فرصته الأخيرة أن يوفق بين كلامه ومواقفه، وينقذ صورته من تشوهات السقوط إلي حد كبير.. الوقت مناسب، مصر الآن ينطبق عليها ما قاله لحظة التنصيب، ليست مجتمع الأقلية المتميزة أو مجتمع الصفوة المختارة أو مجتمع الديكتاتورية والطبقية أو الطائفية.. الطريق مفتوح وممهد لأن يضرب المثل والقدوة - حسب قوله - في تحمل نتيجة أفعاله، ولا يبتز العواطف الساذجة بالشيخوخة والمرض أو ببطولة الضربة الجوية التي تكاد تفقد بريقها، أو أنه كان ضحية لخيانة رجاله ورعونة ابنه وطمع زوجته، أو بالتنصل المخل من تبعات سياساته وإلقاء اللوم علي وزرائه ومرءوسيه الذين لم يكونوا أكثر من منفذين لأوامره العليا. محاكمة مبارك هي أجمل هدية يمكن أن نقدمها إليه في عيد ميلاده ال84 فليس أقرب إلي قلبه وعقله من إصرار الجماهير الغفيرة علي تحقيق وصاياه والتزاماته ووعوده التي قطعها علي نفسه عند المبتدأ.. وأكثر الوعود التي قطعها كان محاربة الفساد والضرب بيد من حديد علي يد من يعبث بقوت الشعب مهما كان، وزيرا أو غفيرا، قريبا أو بعيدا، كبيرا أو صغيرا.. هو عبث ولن يتعامل معه أحد بيد من حديد وإنما بميزان العدالة.. وهديته لنا أن يتقبل مصيره بروح الضربة الجوية، وكرامة الراعي. الذي يفترض فيه الأمانة والإحساس بمسئولية الرعية.