يحتل الماضى مكانا مهما فى عقولنا ونفوسنا، فهو - فى مداه القريب - ذاكرتنا الشخصية التى ترشد وتهدى خطانا فى طريق الحياة الممتد.. وهو - فى مداه البعيد - خزانة التاريخ وأسراره التى تطوى تاريخ أمة من الأمم، وليست هذه الذاكرة، أو ذلك الماضى القريب البعيد إلا حوادث فردية، أو جماعية عاشها أشخاص فى زمان بعينه، تحتمل الصواب أو الخطأ، أو قل إنها إن كانت صوابا أو خطأ، فإن ذلك يعود - فى الأغلب الأعم - إلى الظروف والمتغيرات التى حكمت هذا الزمان، والحق أن الزمان نفسه هو زمان لأنه يتغير ويتقلب. كما تتغير وتتقلب الطبيعة الأم منذ ملايين السنوات. أقول ذلك لأنه خرجت علينا هذه الأيام الكثير من الدعاوى التى تنادى بعودة الماضى تحت مسمى «السلفية»، وليست السلفية كذلك، لأنها تستقطب إلى دوائرها أبنية متراكمة من التعصب، فهى لا تتوقف حتى تجعل من القول والفعل تكرارا لأقوال وأفعال حدثت وقيلت فى زمان آخر، ولأننا لا نستطيع - بحكم ما نصبو إليه فى مصرنا الجديدة من حرية - أن نلقى صاحب رأى، أو عقيدة أو مذهب بالنفور والضيق، فعلينا أن نتساءل: لماذا لا نحب أن نكون سلفيين؟! أطلق الشيخ القرضاوى - وهو محق - على السلفيين اصطلاح «الظاهرية الجدد»، ولاشك أن الشيخ الجليل كان يقصد الإشارة إلى «الحرفية» التي تميز سلوك أصحاب هذا التيار، فهم يتبعون من القول ظاهره، ويقصون أثر الأسلاف بلا زيادة أو نقصان، حتى يصبح الخلف ظلالا مهتزة لمن سبقوهم، والمصيبة أن هذه «الحرفية» أو الأخذ بظواهر الأمور تريد أن تتوقف بنا، لا عند الدين الإسلامى الذى نحبه ونحترمه، إنما عند مرحلة معينة من مراحله، ودائرة محدودة من دوائره، تحمل ما تحمل من شوائب التفسير المتعصب للدين، وتدين بما تدين به من الولاء لعصور ذاقت الأمرين من توابع الفتن والمؤامرات السياسية، التى استطاع فيها الحاكم أن يؤلب الرعية بعضهم على بعض باسم الدين، ولأن أتباع الظاهرية الجدد لا يريدون أن يعرفوا إلا ظواهر الأمور دون بواطنها، ومن الأشياء رسومها دون جواهرها، فهم لا يعرفون سبيلا إلى تحقيق ما يؤمنون به إلا القوة، والحق أنه لا يتقدم رأى على رأى إلا بقوة الحوار والإقناع وحدهما، وأما فيما عدا ذلك فلا يمكن أن يكون له نصيب من عقل أو منطق. لهذا وذاك نرفض أن نكون سلفيين، ولا نرفض السلفية، والمعنى واضح ومفهوم فنحن نرفض أن يفرض صاحب رأى - أى رأى - إرادته بالقوة على الآخرين، ولا نرفض - فى الوقت نفسه - أن يكون بيننا من يدعو إلى هذا التيار أو ذاك، أو يروج لهذه الفكرة أو تلك، دون أن يمد يدا أو هراوة أو سلاحا لفرضه على غيره. فقد رأى السلفيون أن زيارة الأضرحة حرام، وهبوا هبة رجل واحد لهدمها رغم أنف المعارضين، ناسين أو متناسين أن للفتوى أصولا وقواعد وآدابا تراعى - قبل كل شىء - الظرف التاريخى الذى نحياه، أما الأدهى من ذلك فهو إصدار الأحكام السريعة المتعجلة، ومحاولة تنفيذها بالقوة، ولو ترك لكل صاحب رأى أو عقيدة أو تيار أن يصفى حساباته مع الآخر بالقوة لتحول العالم إلى حديقة حيوان. كتب : سمير مندى ناقد