بين يديك العدد رقم (4715) من روزاليوسف!! نعم 4715 عددًا من روزاليوسف هى التى ظهرت ووصلت إلى أيدى القراء فى مصر والعالم العربى، لكن هناك مئات الأعداد التى صودرت قبل أن تصل إلى القراء!! ولم يقتصر الأمر على المصادرات بل كانت هناك فترات قصرت أو طالت توقفت فيها المجلة عن الصدور بعد أن قررت حكومات ما قبل ثورة 23 يوليو سنة 1952 إسكات صوتها ولكنها فشلت فى ذلك!! ويكفى أن تعرف أنه فى السنتين الثالثة والرابعة من عمر روزاليوسف كان المفروض أن يصدر منها 104 أعداد لكن حكومة محمد محمود باشا صادرتها 62 مرة ولم تصدر سوى 42 عددًا فقط لا غير.. وتكرر نفس الأمر من مصادرات وإلغاء رخصة المجلة مؤقتًا أو نهائيًا فى زمن حكومة «إسماعيل صدقى باشا» - الذى ألغى دستور سنة 1923 - والحكومات التى تلتها بل قرر حزب الوفد تبرؤه منها وأنها لم تعد تعبر عنه عندما اختلفت «روزاليوسف معه» عام 1935 لتصدر جريدة روزاليوسف اليومية سنة 1935. لقد كانت السيدة «روزاليوسف» أول صحفية مصرية تدخل السجن - سجن مصر - وهاجمت الصحافة الأجنبية هذا القرار الذى لم يسبق له مثيل مما اضطر الحكومة إلى الإفراج عنها!! وكل من عرف السيدة «روزاليوسف» يقر ويشهد ويعترف لها بأنها «سيدة حرة مستقلة ذات سيادة» كانت امرأة لها شجاعة ألف رجل، هى السيدة اليتيمة التى أصبحت أمًا لكل الصحفيين، هى التى صنعت تاريخها ومجدها بيديها وعزيمتها وإدارتها وكبريائها وثورتها الدائمة من أجل الكمال، سواء على خشبة المسرح حتى أطلق عليها النقاد لقب «سارة برنار الشرق» و«ممثلة مصر الأولى»!! كانت ملء السمع والبصر والصحافة الفنية وعالم الفن، فما الذى يدفعها إلى إصدار مجلة، وتخوض تجربة جديدة لم يسبق أن خاضتها من قبل، ومن هنا تبدأ الحكاية حكاية صدفة وربما نزوة فنانة أيضًا!! كان الموسم المسرحى قد انتهى فى شهر أغسطس - نحن الآن فى سنة 1925 - وقد اعتادت «روزاليوسف» أن تمضى تلك الأمسيات فى مقهى اسمه «حلوانى كساب» مع أصدقائها من الصحفيين والأدباء والكتاب ومنهم «زكى طليمات» والصحفى «إبراهيم خليل» و«أحمد حسن» و«محمود عزمى»، وانهمك الجميع فى أحاديث الفن عامة والمسرح خاصة. ودخل أحد باعة الصحف وهو يصيح قائلًا «الحاوى» الحاوى بتاع الليلة!! وكان يقصد اسم المجلة التى كان يصدرها الأستاذ «حافظ نجيب» وتقول «روزاليوسف»: «ولم أشأ أن أكسف البائع فألقيت إليه بثمن النسخة وأخذت أقلب صفحات المجلة حتى وصلت إلى القسم الفنى لأطالع ما يكتب عن الفنانين والفنانات بالحق وبالباطل أيضًا، وكانت حملة النقاد على الفنانين بالغة القسوة، فلم يكن ما يكتب فى الصحف نقدًا مسرحيًا بل مهاجمات على طول الخط فإذا أعوز الكاتب ما يدلل به على صدق مهاجماته، لم يتورع عن اختلاق الأكاذيب وسردها على أنها حقائق وصل إلى معرفتها بجده وخبرته الصحفية. وطالعت «الحاوى» قليلاً فثارت نفسى لما كُتب عن الممثلين وقلت لنفسى ترى إلى من يلجأ الفنان ليرد عنه حملات النقاد المغرضين؟! وإذ ذاك خطر لى خاطر هو: لماذا لا يكون للفنانين مجلة تنتصف لهم من خصومهم!! وتردد هذا السؤال فى مخيلتى برهة فلم يلبث أن جر إلى سؤال آخر هو لماذا لا أقوم أنا بإصدار هذه المجلة؟! وأعجبتنى الفكرة الأخيرة. وعندما طرحت السيدة «روزاليوسف» الفكرة على الأصدقاء قوبلت بالسخرية وكما تقول «تناولوها على أنها فكاهة وأمعنوا فى القفش والتنكيت»! ولكى تثبت لهم إنها جادة ولا تمزح طلبت من الأستاذ «إبراهيم خليل» - وكان يعمل فى جريدة البلاغ الوفدية - أن يحسب كم يتكلف إصدار ثلاثة آلاف نسخة من مجلة ملزمتين على ورق أنيق! وبسرعة قام بعمل التكلفة وقال: التكلفة أثنى عشر جنيهًا فإذا بيعت كلها كان ربحها خمسة جنيهات!! وراحت «روزاليوسف» تناجى نفسها وسط وجوم أصدقائها: خمسة جنيهات فى كل أسبوع أو عشرون جنيهًا فى كل شهر ربح جميل إذا أضيف إليه مرتبى وقدره سبعون جنيهًا شهريًا اجتمع لى تسعون جنيهًا ثروة طائلة ولا ريب!! ثم جاءت مرحلة اختيار اسم المجلة وتبارى كل واحد فى اختيار اسم، وتعددت الأسماء المقترحة مثل «الأمل»، الشمس،النجوم، الفن، واقترح «زكى طليمات» أن يكون اسم المجلة «الأدب العالى» مؤكدًا: نوم القراء على باب المطبعة فى انتظار صدور المجلة وذلك لتعطش القراء إلى الأدب العالى!! وبدأت سخرية الحاضرين من اقتراح «زكى طليمات» وحسمت روزاليوسف الأمر بقولها: ولماذا لا أسميها باسمى روزاليوسف؟! ورغم احتجاج أصدقائها فقد أصرت على رأيها، وقامت بملء استمارة لإصدار المجلة وذهبت إلى وزارة الداخلية وسلمت هذه الاستمارة، وبدأت فى نشر إعلانات فى الصحف عن قرب صدور المجلة، ومرت الأيام ولم يصدر ترخيص المجلة، فذهبت إلى المحافظة تستفسر عن تأخير صدور الترخيص، ومر أسبوع إلى أن صدر الترخيص بالفعل!!». وتقول «روزاليوسف»: «ورحت من فورى أعد العدة لإصدار العدد الأول فاجتمع الأصدقاء من جديد وأخذوا فى تبويب المجلة حسب نزعاتهم وميولهم، وأخيرًا استقر الرأى على إصدارها مجلة أدبية راقية ذات أسلوب عال ولم أعارض بالطبع وإن كنت لم أقتنع تمامًا ورأيت أن أعمل وفق الحكمة القائلة «أكبر منك بيوم يعرف أكتر منك بسنة!!». وكان أول من اتصلت به السيدة «روزاليوسف» هو الأستاذ «محمد التابعى» الذى كان لا يزال موظفًا فى مجلس النواب ويكتب مقالات نقد مسرحى بإمضاء «حندس» فى الأهرام. وفجأة وقعت مشكلة لم تخطر على بال «روزاليوسف»، فقد علم بأمر عزمها على إصدار مجلتها المدير المالى لمسرح رمسيس الذى أخبره أحد الخبثاء بأن الهدف من صدور المجلة هو هدم مسرح رمسيس وبطله الفنان الكبير «يوسف وهبى»، وحاول الرجل أن يقنعها بالتراجع عن الفكرة، وأخذ يذكر لها عشرات المجلات التى ظهرت واختفت بعد أن خسر أصحابها «الجلد والسقط» وأنه من العبث انتظار الربح من مجلة لا يزال مصيرها فى عالم الغيب»! وتقول «روزاليوسف»: «وأنتهى من هذا كله إلى وضعى بين أمرين إما أن أعدل عن إصدار المجلة أو أترك العمل - فى فرقة رمسيس - وكان ترك العمل معناه فقد مرتبى أعنى سبعين جنيهًا فى الشهر! ولكن إزاء هذا التحدى لم أتردد فى أن أقول له باسمة: «لقد اخترت إصدار المجلة يا عزيزى!! وسأنجح وستكون أنت أول المهنئين بنجاح المجلة!». فى ذلك الوقت كانت السيدة «روزاليوسف» تعيش فى شقة بمنزل يملكه أمير الشعراء «أحمد شوقى» بالطابق الرابع، فخصصت بعض غرف الشقة لتكون مقرًا للمجلة!! ثم جاءت مشكلة البحث عن اثنى عشر جنيهًا تكلفة العدد الأول وكان الحل فى طبع دفاتر اشتراكات بواقع ستين قرشًا فى العام، وتولت روزاليوسف ومحمد التابعى وإبراهيم خليل توزيع هذه الاشتراكات ولم يكن ذلك بالأمر السهل! وتقول السيدة «روزاليوسف»: «ولن أنسى ما جرى لى مع الدكتور «حسن شاهين» طبيب الحنجرة فقد عرضت عليه الاشتراك فى مجلتى فنظر إلى مستنكرًا وهو يقول: كيف أسمح بدخول مجلة مسرحية إلى منزلى، إنما أدفع الاشتراك وأكتفى بذلك!! وهنا ثارت كبريائى وأجبت بلهجة قاسية: إن هذه المجلة سوف تجبرك على احترامها فى يوم من الأيام وسوف تسعى أنت لخطب ودها!! ثم انصرفت غاضبة ورفضت أن أتناول منه مليما!!». وكانت السيدة أم كلثوم من أوائل الذين رحبوا بالفكرة واشترت دفترين بالفعل!! وبدأت حملة إعلانات على حوائط الشوارع تعلن «قريبًا روزاليوسف أدبية فنية!! كما تم توزيع هذه الإعلانات على المحال الكبرى وقام بها «التابعى» و«أحمد حسن»!! وبالطبع السيدة «روزاليوسف»!! ولم يتبق إلا صدور المجلة وتروى السيدة «روزاليوسف» قائلة: «كان قسم التحرير - محمد التابعى وزكى طليمات ومحمود عزمى - قد تباطأ فى مهمته واقترح زكى طليمات أن نستعين بمقالات من كبار الكتاب والصحفيين المعروفين لندخل فى روع الجمهور أن هؤلاء الكتاب فى هيئة تحرير المجلة تحقيقًا للرواج المنشود، فرحت أستجدى المقالات من كبار الكتاب كالأستاذ «المازنى» الذى ذهبت إليه أكثر من عشرين مرة لأحصل منه على مقال!! ومازلت أطارد كبار الكتاب فاجتمع فى العدد الأول مقالات بأقلام الأساتذة «المازنى» و«لطفى جمعة المحامى» و«محمد صلاح الدين المحامى»، و«أحمد رامى»، هذا عدا مقالات وأشعار الكتاب الآخرين الذين تبرعوا بالمساهمة فى التحرير. كان يتولى تصحيح المقالات الأستاذ «زكى طليمات» - وكما تقول «روزاليوسف» - كان يصححها على طريقة معلمى المدارس حين يصححون كراسات الطلبة، مما أثار غضب وثائرة عمال المطبعة وأزمعوا الإضراب عن طبعها، وبعد جهد جهيد تمكنت من إقناع العمال بالعودة إلى العمل فى المجلة، وأنزلت جام غضبى على «زكى طليمات» الذى لم يتعلم التصحيح ليرضى العمال!». وأخيرًا صدرت «روزاليوسف» فى أكتوبر 1925 وعن تلك اللحظة تقول «روزاليوسف»: «أردت أن أشهد مقدار إقبال الجمهور على الشراء، فامتطيت عربة ورحت أتجول بها هنا وهناك وكلما رأيت بائعًا استوقفت العربة لأرى كيف ينادى على «روزاليوسف» وكيف يبتاعها الجمهور، وكنت كلما رأيت واحدًا يشترى المجلة غمرنى السرور وهممت أن أترجل من العربة لألحق بالمشترى لأشكره على هذه العاطفة الشريفة التى حملته على شراء المجلة ودفع قرش صاغ دون أن يساوم البائع لتخفيض ثمنها على الأقل! أما الذين كانوا يمرون بالبائع ولا يتناولون المجلة فقد أثاروا حنقى حتى لقد اعتزمت أكثر من مرة أن أمسك بخناقهم وأمعن فى بهدلتهم لعدم تقديرهم ما تحتويه المجلة من آيات «الأدب العالى» وكانت النتيجة سارة جدًا». وصدر العدد الثانى شبيهًا بالأول فى مواده التى تمت إلى الأدب العالى بأوثق الصلات!! ولكنى فوجئت مفاجأة لم تكن فى حسابى ولا حساب أحد زملائى فقد هبط عدد النسخ المباعة هبوطًا يوجب الأسف، وبدأ الهبوط التدريجى ابتداء من العدد الثانى، فلم نكد نصل إلى العدد السابع حتى كان المباع منه لا يزيد على خمسمائة نسخة لا غير!! ومعنى هذا أن المجلة قد قضى عليها ولم يبق إلا أن نترحم على ما بذلناه من جهد ومال». ودعوت لعقد مؤتمر خطير لتقرير مصير المجلة فلم يعد ما يباع منها يفى بثمن المشاوير اللازمة من وإلى المطبعة، وكنت قد عنيت بسؤال طائفة من القراء عن ملاحظاتهم على مواضيع المجلة فأدهشنى أن تكون الآراء مجمعة على الشكوى من «الأدب العالى» والمواضيع الثقافية وغيرها، فرحت أسخط على ذلك الأدب العالى ومن يناصرونه، ورأيت أن الأستاذ «التابعى» يشاطرنى هذا الرأى!! ويقول إن الجمهور يريد غذاء يهضمه وخير الغذاء هو الفكاهة التى تشيع فى المواضيع والأخبار والأنباء الطريفة التى تبعث بالابتسام على الشفاه!! ووافقنا جميعًا على هذه الآراء، وإذا بوحى جديد يهبط على «محمود عزمى» قائلًا: إحنا مش طلعنا لغاية دلوقتى سبعة أعداد.. كفاية كده ونخلى سنة المجلة سبعة أعداد والسنة الجاية نطلع زيهم!! ورفضت مناقشة هذا الاقتراح ولم يكن ممكنا أن أسلم بتوقف المجلة مهما كانت الظروف والصعاب، وقد ثرت ثورة عنيفة واقترح الأستاذ التابعى أن نباعد بين الأدب العالى وبين المجلة بعد أن خرب «الأدب العالى» بيوتنا ونشف ريقنا وورانا المر!! واجتمعنا لقلب نظام المجلة، وأقبل الجمهور على المجلة وارتفع رقم التوزيع حتى وصلنا إلى تسعة آلاف نسخة ولم تتجاوز المجلة عددها الثلاثين. وبدأت المجلة تثير اهتمام أبناء الطبقة الراقية المثقفة وتتغلغل فى قصورهم وتتداولها أيدى فتيانهم وفتياتهم» وفى أحد الأيام حمل إلى كبير من المتصلين بالزعيم أن الباشا «سعد زغلول» صرح بأن المجلة دمها خفيف وأن الكلام اللى بتقوله صحيح». وهنا تملكنى زهو لم أفق منه. وسرعان ما أصبحت «روزاليوسف» مجلة سياسية لتخوض مئات المعارك الصحفية والسياسية تنادى بالحرية والديمقراطية ومحاربة الاستبداد فى كل زمان ومكان. عاشت روزاليوسف