رغم كل المحاولات الإسرائيلية للتقليل من حجم الإعجاز المصرى الذى تحقق فى حرب 1973 فإن الأدلة على عظمة ما تحقق تظل عصية على الإخفاء وتبقى الأدلة شاهدة على ذلك مهما مر الزمن وتغيرت الأمور. بعد ما يزيد على أربعة عقود أفرج الجيش الإسرائيلى أخيرًا عن أشرطة قديمة تضم سجلاً نادرًا من المحادثات والاجتماعات السرية، التى دارت بين كبار القادة الإسرائيليين خلال حرب أكتوبر، وتفضح بجلاء طبيعة الحالة النفسية والذهنية التى كانت عليها قيادات دولة الاحتلال. أغلب هذه التسجيلات تمت فى مكتب رئيس الأركان حينها (ديفيد إليعازر)، والملقب باسم (دادو)، مع وزير الدفاع الإسرائيلى (موشيه دايان)، واللواء (يسرائيل طال)، والمعروف باسم (طاليك)، الذى عُين قائدًا لجبهة الجنوب، خلفًا ل(بارليف)، لكنه اصطدم مع (ديان) فى مسألة تجديد القتال مع المصريين فى حرب 1973 إضافة إلى كبار الجنرالات فى الأركان العامة الإسرائيلية. أوضحت تلك المحادثات، التى لم ينشر إلا بعض منها بالطبع، مدى الاهتزاز النفسى والارتباك والتردد فى اتخاذ القرارات، والخطط التى رسموها ثم باءت بالفشل، إضافة إلى محاولاتهم البائسة لحل أزمات القيادة الجنوبية (ناحية مصر)، ومعضلة وقف إطلاق النار، واليأس على الجبهة الشمالية.. فى السطور التالية ننشر نص الأحاديث التى دارت بين القيادات الإسرائيلية خلال فترة الحرب. يوم 7 أكتوبر، فى الساعة الثانية والنصف مساءًً. بعد بداية الهجوم المصرى - السورى، عاد موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق من جولة على كل الجبهات محاطا بالكآبة، وعليه وصى رئيس الأركان بالتخلى عن المعاقل، والأسلحة الثقيلة. وقال ديان: أنا متشائم، أولئك الذين قبض عليهم منا، وأولئك الذين انفجروا، سوف تندلع حرب هناك إلى أن يحصل استقرار فى هذا الخط. ويظهر خوف ديان من اتحاد الدول العربية: «سوف يدخل المغاربة والأردنيون الحرب. العالم العربى بأسره سيتحد قبل كل شىء، لذلك أقترح أن ننتقل إلى الأمريكيين، سنشترى الدبابات 100-200-300 التى يحظون بها فى أوروبا.. يجب أن نضع «شرم الشيخ» تحت أيدينا». 8 أكتوبر فى الساعة الثامنة ونصف صباحًا. فى مناخ يتأرجح بين اليأس والفرح عقد رئيس الأركان الإسرائيلى ديفيد إليعازر مع وزير الدفاع موشيه ديان وقادة آخرين اجتماعًا سريًا بينما كان القادة المصريون يتسابقون لمهاجمة فرقتين إسرائيليتين، الفرقة «162» بقيادة اللواء «أفراهام أدنان»، والفرقة «143» بقيادة اللواء «أرييل شارون». يقول إليعازر فى أحد التسجيلات متحدثًا إلى ديان والقادة:(سيهاجم أفراهام المنطقة الشمالية لقناة السويس ظهر اليوم بينما سيهاجم شارون المنطقة الجنوبية وإذا سارت بشكل جيد، سيدمرون القوات المعادية). ويضيف (وهذا يا سادة احتلال، والسيطرة على قناة السويس). وفى اليوم نفسه فى الساعة التاسعة والنصف مساءً، يشرح رئيس الأركان أحداث الصباح، وفقًا لفهمه، وفى اجتماع مع قادة آخرين: تحدث إليعازر بعصبية وتوتر بسبب تضارب التقارير التى تصله حول احتمالات الانتصار. والواقع الذى يؤكد الهزيمة حيث قال: (أنا أعيش تلك اللحظة على معلومات غير دقيقة !!)..تصلنى معلومات أن «برن» لم ينجز مهمته كاملة، لأنه هوجم من الأمام، ما الذى يحدث لى؟. يوم 9 أكتوبر: يعد هذا يوما فارقا فى حياة إسرائيل، فيه حظوا بآخر نشوة قبل الوصول إلى هاوية اليأس، والاكتئاب. فذكر رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلى اللواء «بينى بيليد»، أن الجبهة المعادية (حسب وصفه)، ليس لها صواريخ أرض جو على كل الجبهات. دادو بصيغة فرحة: (قد لا يكون لديهم صواريخ، تبًّا، إنه يهاجم من فوق كلتا الجبهتين، وليس هناك صواريخ. نعم!! ثم أكد بصوت هامس للحضور (لا توجد صواريخ). ثم قال:(يا «يانوش» «وهو أفيجدور بن جال، قائد اللواء السابع من الفيلق المدرع»، دمر هجوم» (T-62) وهى دبابة قدمها (الاتحاد السوفيتي)، بالتعاون مع قائد الكتيبة «يوسى بن حنان»). فى الساعة السابعة والنصف مساءً من نفس اليوم دار حديث بين «ديان»، و«دادو» حول «شارون» الذى وصفاه بالكذاب، لأنه كان من المفترض أن يحتل المزرعة الصينية قبل أسبوع من المعارك الصعبة هناك. كما يظهر الحديث ضربة الرأس القوية، التى كانوا يعانون منها، من خلال عدم تذكرهم بعض الأحداث، بالإضافة الى مفاجأتهم بمعلومات غير صحيحة. دادو: (ما الذى قلته لشارون؟، قلت له نظم نفسك من الخلف، ربما ينجح فى الليل، هل قلت ذلك؟). ديان: (نعم أنا أتذكر، ربما من الضرورى أن نكون على استعداد فى الليل). دادو: (أريك، خالف النظام، ذهب إلى الأمام، ووصل إلى الماء). ديان:(هل هذه هى المزرعة الصينية؟). دادو: (نعم، أريك هنا على شاشة التليفزيون، لم يكن قد غزا المزرعة الصينية بعد. وقال إنه لم يغز ذلك. سألت (شموليك)عن سر ذهابه إلى هناك؟، فرد عليَّ بأنه ذهب هناك بعكس الأوامر. ديان: (ما الذى يريده هناك؟). دادو: (يريد أن ينجح). ديان: (أريد أن أفهم منطق أريك، كيف سينجح؟). وفى تسجيل آخر لنفس الاجتماع بدأ التوتر بين كبار ضباط الأركان العامة يصل لذروته نتيجة أفعال شارون. ودار الحوار كالتالي: ديان: (متى يريد أن يفعل كل هذا؟). دادو: (الليلة). ثم قاطعه ديان غاضبًا: (وماذا بعد، أنا لم أعد أتحدث عما سيفعله، لكن سؤالى حول المنطق الذى يسير به؟ ماذا بعد؟). دادو: (ثم سيتقدم إلى الأمام ليدمر الجيش المصرى، والقوات الجوية التابعة لنا، ستقدم له دعمًا كبيرًا، وعليه يمكن افتراض أن الجيش المصرى سينسحب إلى (القاهرة) لكنها مغامرة ومقامرة، إنها فكره مجنونة). ديان: (وما رد جونين على هذا؟). دادو: (قال لى، اسمع هذا هو الوضع. سألته بعض الأسئلة، ورد بإجابات غير مريحة، وبالفعل عندما اخترقت مجال شبكة شارون وجدته يكذب). ديان: (ليس من المستغرب أن أريك يكذب). دادو: (أليس هذا أمر مجاورًا للجنون؟). وعلق ديان ضاحكا: (بالتأكيد جنون، وهذا أمر لا يتماشى مع ظروف الحرب والجيش). وفى تسجيل ثالث لنفس الاجتماع، عرف وزير الدفاع، ورئيس الأركان، أن الوضع على الجبهة الجنوبية «مصر» يصرخ لتغيير الجنرالات الإسرائيليين، من بينهم (آريئيل شارون) الذى كان حينها قائد الفرقة المدرعة 143 وقائد الفرقة المدرعة 162 «أفراهام أدان»، والمحاربون القدامى من رتبة اللواء، مثل قائد لواء الجنوب «شموئيل جونين»، إلا أن الأخير رفض قبول الأمر مما وضعهم فى ورطة. ودارت المناقشة الدرامية حول «جونين» على الجبهة الجنوبية كالتالى: دَيان: (يجب أن يكون لدينا فى القيادة الجنوبية شخص ذو عقل إبداعى خلاق. دادو:(إذن يمكنك أن تضع حاييم بارليف). ديان: «حاييم بارليف هو جيد جدًّا». دادو: (نحن نبحث عن«رومل» آخر هنا، لذلك فهو الأفضل). ديان: (هو أفضل خيار، أفضل ألف مرة من يتسحاق (إسحق رابين). دادو:(يتسحاق، لن أرسله إلى أى حرب فى الوقت الحالى). دادو: (متحدثاً فى التليفون): (اعطنى حاييم بارليف، ستجده فى الحفره (قاعدة المراقبة التابعة لسلاح الجو). يوم 10 أكتوبر، التاسعة وأربعون دقيقة مساءً. أثار الظهور المفاجئ للقوات العراقية فى الشمال عند(الجولان) دهشة القادة الإسرائيليين، وأدى إلى عرقلة تقدم قوات الفرقة 210 الإسرائيلية إلى الأراضى السورية. ومن جانبه كان إليعازر يتحدث عن تفجير (القاهرة)، ولكن تجنب الكيان الصهيونى فكرة القصف العميق داخل مصر، خوفًا من الرد بهجوم مضاد بصواريخ (سكود) التى قدمها السوفييت إلى مصر فى الأشهر الأخيرة. كما ظهرت صعوبة أخرى بالنسبة لهم، أثناء المناورة بينهم، وهى محاولتهم أن يثبتوا للعرب، أن حالة الجيش الإسرائيلى جيدة، بينما المصريون يتقدمون فى المقابل أكثر، فى الوقت الذى يطلب فيه الجيش الإسرائيلى بالفعل من الأمريكيين أنهم فى أمس الحاجة إلى جسر جوي. دار الحوار بين رئيس الأركان الإسرائيلى، ويسرائيل طال، واللواء «رحبعام زئيفى»، الملقب باسم «غاندي» قائد المنطقة العسكرية المركزية الإسرائيلية، الذى انضم مرة أخرى إلى الجيش عندما اندلعت حرب 6 أكتوبر، بعدما كان تقاعد فى سبتمبر 1973 وهو صديق مقرب لرئيس الأركان، الذى عينه مساعدًا خاصًّا. دادو: «سنترك سوريا، ونتحرك ناحية مصر، ونضع فرقة أخرى، نقاتل مدة ثلاثة أو أربعة أيام أخرى، وسنفعل العديد من الأشياء. وكل ما قلته عما سنفعله فى سوريا، سننفذه فى (القاهرة) مصر، سنحاول كسرها). غاندى (رحبعام زئيفى): (ليس لديك قوة لذلك...). دادو: (فى هذا اليوم نحن مهددون، إن احتمال وقف إطلاق النار أقل بكثير مما هو عليه عندما نكون فى طريقنا إلى دمشق، مع جيش ينهار، وعليه نحن قلقون من الذهاب إلى دمشق). طال: «يسرائيل طال»: (لا أفهم، لنفرض أنك هزمت سوريا، كيف ستحل المشكلة فى مصر ؟). دادو: (وقف إطلاق النار من ناحيتهم، وعودتهم إلى الخطوط). طال: (ولماذا يجب على المصريين وقف إطلاق النار؟). دادو:(لأننا ندمر سوريا). طال:(وإن دمرت سوريا، فلماذا يوافق المصريون على وقف إطلاق النار؟ لماذا تتخلى مصر عن إنجازاتها من أجل سوريا؟). دادو:(إذا لم أقم بمهاجمة سوريا غدًا، ولم أطرد المصريين خارجًا، فإنهم سيشعرون ب.... (ثم توقف عن الحديث لحظات). وأضاف: (إذا هاجمت سوريا غدًا... هم لا يشعرون بأننى غير قادر على الوصول إليهم، ويضعون فى الحسبان أننى مازلت قادرًا على اتخاذ القرار. هنا المقامرة. كل ما علينا فعله الآن هو الدفاع عن أنفسنا أمام مصر). طال: (يجب أن نكون مستعدين خلال ال48 ساعة المقبلة، سيظن العرب أننا ندافع عن أنفسنا فقط). دادو:(إذن من الضرورى أن نهاجم غدًا). 12 أكتوبر من الساعة السابعة حتى التاسعة والربع صباحًا. يبدو أن الكيان الصهيونى الذى أكد على استمرار مهمته، وعدم وقف إطلاق النار من جانبه، هو من اضطر إلى النداء بعملية الوقف. وفى هذا الحوار، ذكر أن قائد القوات الجوية الإسرائيلية، اللواء «بينى بيليد»، حاول أن يقول لرئيس الأركان، بأن يقنع رئيسة الوزراء الإسرائيلية «جولدا مائير»، بمطالبة وزير الخارجية الأمريكى «هنرى كيسنجر»، الذى صدم من منعطفات الأحداث، بأن يلجأ إلى البريطانيين ليتفاوضوا مع الرئيس المصرى «أنور السادات»، إلا أنه لم ينشر سوى صوت رئيس الأركان، وخطته الجديدة. دادو: (علينا أن نتخذ خطوات لفرض، أو التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وفى موعد لا يتجاوز يوم 14 من الشهر الجاري. كل يوم سيمر بعد 14 سنكون فى حالة أكثر خطورة.. (ثم توقف عن الكلام لحظات) وأضاف: (على مرتفعات الجولان، حققنا إنجازًا، فى حد ذاته نحو سوريا فقط، كان من شأنه أن يمنحنا أفضلية وقف لإطلاق النار، إذا كانت الحرب مع سوريا فقط. ثم أكمل:( إذا أردنا حقًا وقف إطلاق النار فى يوم 14 فإن الضغط على سوريا يجب أن يكون ملموسًا حتى يوم 14). كما أكد قائلاً: (لا يمككنا أن نصل ضد مصر إلى نفس الحد، الذى وصلنا فيه مع سوريا.نحن غير قادرين اليوم على عبور القناة، والتقدم نحو القاهرة، أو تدمير جميع القوات المصرية على الجانب الآخر من الخط، وبالتالى من الصعب إجبارهم على وقف إطلاق النار.. (وتوقف فترة أخرى). وأوضح: (أقصى حد من الممكن أن نصل له ضد مصر ليلتى 13و14). ثم أضاف: (وبقى الوقت الذى تحدثنا فيه عن سوريا، قلت إنه إذا لم يؤثر الضغط العسكرى العادى، فإن التحركات الدراماتيكية مثل قصف دمشق، وإلقاء القنابل تجاه القاهرة، سيكونان هما وسيلة الضغط الإضافى، لفرض وقف إطلاق النار فى 14 من الشهر، وأعتقد أنه ينبغى فرض وقف إطلاق النار). وأكمل مرتبكًا: (وضعنا يسير نحو الأسوأ، لأن ليس لدينا احتياطيات، فإذا حصلنا على 40 طائرة فانتوم، وحتى لو حصلنا على الدبابات لن يحدث تغيير جوهرى فى ميزان القوي. لذلك أعتقد أن وقف إطلاق النار يجب أن يفرض على 14 من الشهر). 12 أكتوبر، من الساعة الثانية عشرة، وخمس دقائق ظهرًا، حتى الواحدة وخمسة وخمسين دقيقة. استمرت المناقشة بمشاركة ديان حول التفاهم المتبادل المفترض بين ثلاثة عوامل، وهي: وقف إطلاق النار، والتعزيزات المصرية المطولة للقوات المدرعة على الجانب الشرقى من القناة، والشروط اللازمة لتوغل الجيش الإسرائيلى فى الضفة الغربية، ودار الحوار كالتالي: دادو: (موشيه، أريد أن أعرف مشكلتنا، لدينا فرصة لعبور القناة، وإقامة نقطة استيطانية معينة على الجانب الآخر، وسيحصل الجيش المصرى ضربة، لكنها لن تكون ضربة قاتلة، لتفكك الجيش المصرى، إلا أن مصر حينها ستطالب بوقف إطلاق النار...) ثم صمت. ويعود إليعازر بعد تفكير وتردد لينفى ثقته أن مصر ستطلب وقف إطلاق النار: (أعتقد أن مصر لن تطلب وقف إطلاق النار ونحن نحتاجه لبناء جيشنا، وتنظيم أنفسنا، وهذا لا يمكن القيام به فى ظروف القتال، ومحاولتنا تجنيد 400 ألف جندى احتياط للقتال. نحن بحاجة إلى إعادة إطلاق النار). ديان: (إذا كنت تريد حقًّا وقف إطلاق النار، أول شيء تحتاج إلى القيام به، فى هذه اللحظة، هو إعطاء أمر إلى القوات للمضى قدمًا أبعد قليلا نحو(دمشق). تقدم عدة كيلومترات أخرى). دادو: (هل لديك شبر إضافى هنا؟). دادو: (لدينا فرصة للوصول إلى هذا.. لدينا فرصة.. الليلة سيتم تبادل إطلاق النيران بمدافع «175 مم» إلى دمشق). ديان: (ثم هناك فرصة لوقف إطلاق النار، شريطة أن نكون مستعدين فى مصر لترك الوضع كما هو. دعونا نحاول وقفهم إطلاق النار، والشرط لذلك، هو أن توافق إسرائيل على أن الوضع الراهن كما هو عليه الآن).