لم أصدق أن العم على سالم غادر دنيانا مثل غيره من هؤلاء النبهاء النجباء الذين أثروا حياتنا الفنية والثقافية فى مصر وعالمنا العربى.. منذ طفولتى تعودت أن أجد على سالم أمامى فى مسرح المتحدين بشارع الشيخ ريحان يجلس على الرصيف يتحدث عن أحلامه فى عالم الفنون والجنون وإلى جانبه يجلس عادل إمام وسعيد صالح وصلاح السعدنى وسمير خفاجى يستمعون إلى أحد أساتذة حرفة الكلام فى عصرنا، ثم وجدت على سالم بعد ذلك أحد النشطاء فى شقة بالدقى لصاحبها بهجت قمر رحمه الله وقد كان من الصعب جدا أن تتصدر لمهمة إضحاك بهجت قمر ولكن يا سبحان الله كان على سالم إذا تحدث استهلك بهجت قمر كل ما فى صدره من هواء والذى هو وقود الضحك.. فتجده يشير كما الغريق لعلى سالم أن يتوقف عن الكلام ثم ينتفض بهجت قمر واقفا على قدميه.. ويسألنى العم على بينما بهجت يلتقط الأنفاس بصعوبة بالغة وهنا يسألنى العم على سالم... هو فى حاجة؟! فأقول للعم على: إن عم بهجت بيستريح!!.. فيضحك على سالم من أعماقه ويسأل بهجت: أنت لما بتحب تستريح تقوم تقف كده دى جديدة على السلوك البشرى دى يا بهاجيجو، فيرد بهجت قمر: واحنا عيال يا على.. لما كنا بنلعب كورة ولا الحكشة ولا الطرة والترنجيلة والسبع طوبات وبعدين نتعب.. كنا بنعمل إيه.. بنقعد على الأرض نستريح.. وأهو أنا دلوقتى زى ما أنت شايف بقى لى أكثر من عشرين سنة قاعد ورا المكتب ده.. بألعب.. بس على الورق واتكلم واتفرج على التليفزيون واتخانق فى التليفون وحتى الدكتور لما ييجى يكشف عليَّ بيكشف وأنا قاعد على المكتب ولما باتعب.. بأقوم أقف علشان استريح، أنهما تأثرا بثورة يوليو وبقائدها وإنهما شاركوه الحلم- حتى وقعت المأساة واستيقظ كل أهل مصر على كابوس 5 يونيو.. واستمع إلى حديث رائع.. فإذا بهجت قمر يقول: دول كانوا كدابين كدب يا جدع، قال إيه نعدى على الصحراء.. تخضر.. عليّ النعمة أنا كنت باعدى كل يوم على الصحراء.. ولا ضبطت عود أخضر واحد.. ويقول العم على سالم: أنا فعلا يا أكرم يا ابنى كنت خايف جدا إننا نرمى الإسرائيليين فى البحر لأن دى عملية غير إنسانية بالمرة أن تكون عندك قوة جبارة وتقوم ترمى عدوك فى البحر وبعدين اكتشفنا أن أعتى أسلحتنا الفتاكة.. كان لساننا الطويل ولما حيدنا السلاح ده لما جه السادات وفى الكتمان الراجل اشتغل وخطط وأخد القرار ومع كده العالم العربى كله لسه فاكر عبدالناصر بالخير.. ويسبوا ويلعنوا فى الراجل اللى عبر بيهم من الوكسة اللى سماها الأستاذ هيكل النكسة.. إلى الانتصار العربى الوحيد على إسرائيل، والحق أقول إننى على الرغم من اختلافى مع توجهات العملاقين الكبيرين إلا أن حبى وعشقى لهما لم يتبدل. والشىء العجيب أن السعدنى الكبير أبويا الجميل الولد الشقى رحمه الله كان يغضب بشدة، لو ذكر أحدهم جمال عبدالناصر بسوء بعد رحيله ولم يكن مسموحا لأحد من أصدقاء السعدنى أن يتناول ناصر بالنقد الساخر سوى بهجت قمر وعلى سالم. وأذكر أنه ذات يوم ونحن فى المنفى الاختيارى بالعراق تلقى السعدنى على الهاتف «المحطوط»- لأن المحمول لم يكن ظهر بعد- اتصالا من عم على وكان ينزل بأحد الفنادق المتواضعة، وقال: أنا فى طريقى إليك يا عم محمود وكنا فى أيام عيد وفى هذه الأيام فى العراق من المستحيل أن تجد مكانا أو كشكا أو محلاً يفتح أبوابه.. وبحثنا فى البيت عن كل أصناف الطعام لزوم إعداد الطاجن السعدناوى الشهير فوجدنا باذنجانة واحدة وفلفلة خضراء وبعض البطاطس وفقط ثلاث هبر من اللحم الضانى وأمر السعدنى بإعداد المواد الأولية وتم له ما أراد وبالفعل أعد السعدنى الطاجن ووضعه فى الفرن فانبعثت رائحة جذبت كل من حولنا وجاء العم على سالم وهو يحمل شنطته الشهيرة التى هى أشبه بشنطة طلبة المدارس الإعدادية وبدأنا فى إعداد المائدة فى حديقة المنزل وكنا نسكن فى منطقة اسمها المنصور وفى شارع اسمه «أبوالطيب المتنبى» وجاء عم على وتكلم كل من الرجلين وفى الآخر اتفقا على أن بغداد فى هذا العصر تشبه إلى حد بعيد القاهرة فى نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وفجأة ونحن نستعد للانقضاض على طاجن السعدنى هبط علينا أحد «الآباء» بمعنى «أبوفلان» فالناس هناك لا ينادون بعضهم البعض بأسمائهم ولكن بأسماء أولادهم وكان أبوفلان هذا وزيرا للتخطيط فى عهد الفريق أمين الحافظ الرئيس السورى الأسبق وعندما جلس إلى عم على سأله عن أحوال دمشق وبعض أحوال العالم العربى ثم طرح سؤالا فى تخصص الرجل فقهقه الرجل وقال: لا دى عاوزة قاعدة تانية للرد على هذا السؤال، وافتتح السعدنى الطاجن وعزم على الضيف السورى الذى كان لاجئا فى العراق وكان ممتنعا عن الطعام لأنه «يسوى» رجيم كما ادعى وقام عم على لينظر إلى الطاجن وهو يقول: أنا أول مرة أشوف طاجن ساخر يا عم محمود فضحك السعدنى وهو يقول: ليه يا على!!.. فقال ده طاجن بالاسم وبالفعل ده طاجن «أورديحى» وعد عم على اللحم الموجود فقال: كنت قلت لى أجيب لك شوية لحمة من مصر.. وهنا قام أبوفلان وهو يقول والله أنا ما آكل ولكن آخذ هذه فقط، فمد يده وانقض على قطعة اللحمة الأولى وألقاها فى جوفه كما يلقى بشىء فى بئر لا قرار له.. ثم أعادها مرة ثانية وثالثة.. وهكذا انتهى صنف اللحمة من الطاجن، وهنا قال العم على للرجل.. بصراحة أنا أتأكدت إنك خبير تخطيط رفيع المستوى وبالتحديد تخصص طواجن يا «أبوفلان».. ولم يفهم «أبوفلان» الغبى ما قصده العم على ولكننا أكلنا البطاطس وسهرنا الليل كله مع العم على الذى كان يحلم لمصر أن تنهى الصراع مع إسرائيل تماما وتنتبه للحرب على الفقر، وأذنابه فى الديار المصرية. وقال لى العم على أنت بتعمل إيه فى كواليس الصحافة يا أكرم.. روح كواليس الفن مع عمك أفضل 100 مرة فقلت له يا عم على أنا باخاف من الكاميرا، فقال الخوف شىء محمود.. سوف يزول مع الوقت وبينى وبين نفسى تفكرت وقلت يمكن عم على لا يرى لى طريقا أو مستقبلا فى عالم الصحافة.. ويمر وقت طويل قبل أن أذهب بنفسى إلى العم على لأحييه على ما حدث فى لقاء جمع المثقفين والكتاب والصحفيين الكبار بالرئيس الأسبق. وعندما جاء دور العم الكبير على سالم لكى يتحدث ذكر اسمه أولا.. فقال: أنا اسمى على سالم يا افندم، فعلق مبارك على الفور: «على سالم.. إكسبريس».. وكانت واقعة غرق المركب أو العبارة الشهيرة سالم إكسبريس قد وقعت قبل أيام قليلة على زمن اللقاء إياه.. هنا وقف على سالم بصوته المسرحى العريض وهو يرفع يده معترضا، فيقول: أنا لا أسمح مطلقا بذلك يا سيادة الرئيس ولقى على سالم رد فعل طيب من قبل الحاضرين وهو الأمر الذى قرأه مبارك جيدا، فليس هذا موضع الهزار والهزل.. وقال مبارك على الفور: معلش يا على.. فوت يا على.. ومن يومها لم يحضر على سالم أى لقاء رئاسى. واليوم وقد مضى عم على إلى رحمة الله وإلى دار الحق فإنه ينبغى علينا أن نذكر له كيف ساهم بموهبته العريضة فى عمل فنى عظيم استدعى من أعماق الهزيمة ذلك الشعاع السحرى من الأمل فما أضيق الحياة لولا فسحة الأمل.. وقد كانت جرعة الأمل التى منحها لنا على سالم بقدر المأساة التى حلت بنا فقد ذهبت الأحلام والآمال والأمانى والمقدرات والسلاح والناس وكل البلد.. كله راح فى الكازوزة بعد الهزيمة النكراء التى وقعت يوم الخامس من يونيو من العام 1967.. ولكن إرادة كامنة فى جينات هذا الشعب العظيم كانت فى حاجة إلى الطبيب المداوى الذى يعرف كيف الوصول إليها والارتفاع بها هكذا كان حال عبدالحليم حافظ والأبنودى وأم كلثوم وشادية ونجاة وفايزة ووردة وعبدالوهاب وعشرات الكتاب والأدباء ومنهم على سالم الذى كتب رائعته التى حفرت فى ذاكراتنا مكانا واحتلت فى قلوبنا أمكنة «أغنية على الممر» بالطبع هذه الأيام لم يتصدر لعملية الفن سباك ولا مكوجى ولا جزار ولا أى دخيل على مهنة الإبداع لذلك جاء الإنتاج رفيع المستوى فكريا وفنيا ولهذا سكن على سالم فى منازل الكبار أصحاب الرأى والموقف المنحاز لقضايا الوطن الكبرى وكان ينقل نبض الشعب المصرى البسيط الذى ينتمى إليه وشأنه شأن تشيكوف العظيم وجهوا له السهام المسمومة لأنه شوه جيلا بأكمله وأظهره منفلتا مشاغبا مرتدا على العادات والتقاليد مسفا فى أخلاقه والحق أقول إن لسان على سالم كان يقول نفس مقولة تشيكوف فى الدفاع عن نفسه.. أن قلمى مثل آلة التصوير تقوم بنقل صورة الواقع دون أن تضيف إليه أى رتوش.. وقد كان الجيل الذى كتب عنه على سالم «مدرسة المشاغبين» قد قلت عياره بالفعل وخرج إلى الحياة وهو يتسلح بلغة جديدة وبأدوات سخرية غير معهودة بعد أن مسخت مدرسة الريحانى من كثرة التقليد الممل ولسنوات طويلة كانت كافية لإحالتها على المعاش هى وكل أساتذتها وتبقى رحلة على سالم إلى إسرائيل هى النقطة السوداء فى الثوب اللامع الشديد الإبهار.. لا أستطيع أن أجد لرحلته مبررا ولكنى قرأت رحلته إلى إسرائيل واستمتعت بأسلوب أدبى لا مثيل له ولكنى حزنت لأن مثقفاً عظيماً مثل على سالم اتخذ قراراً خطيراً دون أن يستشير أحداً وربما دون تفكير عميق فى أثره... وقد نال على سالم الكثير من العداوة والبغض والكراهية بسبب رحلة إسرائيل.. ولكن من قال إن هذه الرحلة قتلت على سالم الفنان أو انتقصت من قيمته كمبدع مصرى عظيم القامة موقف على سالم السياسى لا يمكن أن نضعه فى الميزان مع «بكالوريوس فى حكم الشعوب» أو «أنت إللى قتلت الوحش» أو «أغنية على الممر» أو «الناس إللى فى السما الثامنة» و«طبيخ الملايكة».. رحلة إلى إسرائيل ربما لن تقرأه الأجيال القادمة ولكن كل ما تركه وخلفه على سالم سوف يبقى مادامت دولة الفنون قائمة وعاصمة الفن موجودة وعمرانة بمبديعها ومفكريها وكتابها وفنانيها.. رحم الله عمنا على سالم وأسكنه فسيح جناته.■