ليس بوسع منصف محايد، يراقب أداء وزارة الخارجية المصرية، بعد الثلاثين من يونيو، ألا يستشف وجود أزمة حقيقية وعميقة وجذرية تعترى الوزارة، والتى طالما كانت توصف بأنها مدرسة مستقلة رصينة فى الدبلوماسية. امتحانات متكررة ومن بعدها «ملاحق» وأدوار ثانية، لكن الوزارة لم تحصد إلا الفشل والرسوب، بدءاً من عدم القدرة على عكس صورة ما حدث فى مصر فى الثلاثين من يونيو، حيث خرج الملايين فى ثورة شعبية للمطالبة بإسقاط نظام محمد مرسى وأهله وعشيرته «الإرهابيين»، مرورًا بملف سد النهضة الذى لا يكاد المواطن المصرى يعرف عنه شيئًا، وصولاً إلى ذبح المصريين فى ليبيا، دون أن تتمكن الوزارة من تحريرهم. فإلى أية اتجاه تسير بوصلة الخارجية المصرية؟! ما المطلوب لتصحيح المسار حتى تستعيد مصر دورها الفاعل على المسرحين الإقليمى والدولى؟ كيف تتحرك جماعة الإخوان للترويج لنفسها ضد الدولة المصرية فتسبق بخطوة دائمًا فى حين أن الخارجية المصرية تتحرك بمنطق رد الفعل أو صد الضربات لا توجيهها؟ قال أحمد عز العرب نائب رئيس حزب الوفد: الخارجية المصرية بحاجة إلى مراجعة خطواتها وأدواتها فى التعامل مع الأزمات وأنه لابد أن تكون هناك تحركات سريعة وعاجلة، مع استخدام وسائل وأدوات أكثر احترافية من الموجودة الآن. الأزمة الليبية أيضا كانت أحد أبرز الأزمات التى أظهرت سوء أدائها فهى لم تتعامل مع أزمة الاختطاف بجدية، حتى حلت الكارثة الأخيرة التى أودت بحياة واحد وعشرين مصريا قبطيا على يد تنظيم «داعش» الإرهابى. الخارجية تأخرت فى التحرك تجاه حل الأزمة التى وقعت منذ شهر أغسطس من العام الماضى، بعد نشوب اشتباكات عنيفة بين جماعات فجر ليبيا وقوات اللواء خليفة حفتر، وهو ما أدى إلى هروب المصريين إلى معبر رأس جدير على الحدود التونسية، وصولاً إلى وفاة بعض العمال على الحدود، ولم تتمكن الخارجية من التنسيق الكامل مع الجانب التونسى، ما أسفر عن تكدس العمال وتعرضهم للضرب على يد قوات حرس الحدود. المشهد الأخير المتعلق بأزمة الأقباط الذين قتلوا على يد تنظيم داعش الإرهابى، لاقى استياء الكثير من المصريين خاصة أن الخارجية كانت على علم بأزمتهم منذ 45 يوما قبل ذبحهم. ورغم ذلك ما زالت القضية تثير علامات استفهام كبيرة حول تحركات الخارجية المصرية تجاه العاملين فى ليبيا والذين لم يتمكنوا من العودة. سد النهضة كان أحد أبرز علامات الاستفهام حول أداء وزارة الخارجية خلال الفترة الأخيرة، حيث أكد الدكتور نادر نور الدين خبير السدود، وعضو المجالس القومية المتخصصة أن ملف «سد النهضة» من الملفات المهمة فى مسئولية وزارة الخارجية المصرية بجانب وزارة الرى التى تكتفى بالنواحى الفنية فقط لأنه لا يجب على وزارة الرى أن تتولى التفاوض فهذه قضية سياسة خارجية بالدرجة الأولى. ومن أسباب تفاقم الأزمة غياب التنسيق بين الوزارتين نهائيا وكل وزارة تنفرد بقرارها، بينما فى أثيوبيا يحترمون دور وزارة الخارجية الأثيوبية، وقد زار وفد مصرى مجلس الشئون الخارجية لأثيوبيا بدعوة من معهد السلام والتنمية، وتحدثوا فى أمور مختلفة ولكن عندما أثير موضوع سد النهضة قالوا للوفد «عليكم أن تحدثوا مع الخارجية الأثيوبية، وجاء فريق من الخارجية للحديث مع الوفد المصرى فى ذلك الوقت وكان من أكفأ ما يمكن». وأشار نور الدين إلى أن أداء الخارجية تجاه سد النهضة كارثى، والدور الدبلوماسى للوزارة يجب أن يكون أفضل مما عليه، لكنها لم تقم بدورها المرجو منها قبل توقيع اتفاقية «عنتيبى»، وكان من الواضح أن أثيوبيا تبنى «لوبى» لعزل مصر من خلال الاتفاقية، وكان على الخارجية متابعة تلك التحركات بدقة، وما قامت به أثيوبيا لعزل مصر واستقطابها لدول منابع النيل الأبيض التى يصل منها إلى مصر نسبة ضعيفة تصل إلى 15٪ من ست دول و12 مليار لتر مكعب مع السودان. وقعت أثيوبيا اتفاقية «عنتيبى» مع دول النيل الأبيض وكانت الكونغو هى الدولة الوحيدة التى لم توقع على تلك الاتفاقية لأنها لديها فائض 1234 مليارًا يتم صرفه فى المحيط، وبعد أن استقطبت أثيوبيا دول النيل الأبيض شرحت لهم أن مصر تحصل على المياه دون مقابل فكان يجب على الخارجية تقويض هذا الأمر بالقيام بزيارات متتالية إلى كل دول النيل الأبيض الست وتقيم معها حوارات للتنمية بالمساعدات المختلفة والإقناع بالدور المصرى، وفى مقابل الأداء المتردى من الخارجية المصرية قامت نظيرتها الأثيوبية ببناء استراتيجية جديدة لإحداث انشقاق فى الموقف المصرى السودانى الذى كان دائما موحدًا ضد دول المنابع واتفاقية «59» بيننا وبين السودان وتنص على أن مصر والسودان دولة واحدة فى أى مفاوضات مع دول منابع النيل التى من الممكن أن تطلب زيادة فى الحصة المائية فتنظر فيها مصر والسودان فتبديان رأيهما بالإيجاب أو الرفض فى حالة ثبوت عدم احتياج تلك الدول لتلك الحصة من المياه. وهنا بدأت إثيوبيا تلعب على الموقف الموحد لمصر والسودان ونجحت فيه تماما فى الوقت الذى غاب فيه دور الخارجية المصرية وأصبحت السودان تتحدث عن سد النهضة أكثر من أثيوبيا وكان يجب على الخارجية أن تلقى الضوء على السلبيات للتفاوض على الأعراض الجانبية للسد بالنسبة لتلك الدول التى يهمها أمر السد وليس على غرض إنشاء السد، بالإضافة إلى الرشاوى التى قدمتها الخارجية الأثيوبية إلى دولة السودان منها التنازل عن منطقة «الغضارف» المتنازع عليها على الحدود السودانية الأثيوبية منذ 40 سنة، وتبلغ مساحتها 40 كليو مترًا مربعًا، بالإضافة إلى إهدائها دولة السودان ترعة خاصة خلف السد ومنحها كهرباء بسعر تفضيلى فكان يجب أن يكون هناك دور أكبر للخارجية المصرية فى رصد تلك النقاط مواجهتها والتعامل معها بشكل دقيق يتناسب معها. وأوضح نور الدين أنه بعد ثورة 25 يناير بشكل عام توالى على وزارة الخارجية أربعة وزراء ولم يكن لديهم فرصة لاستكمال المفاوضات وهذا كان ضد ملف سد النهضة، ومن المفترض حاليا أن تنتقل المفاوضات بعد تجميدها 3 شهور ماضية إلى الخارجية المصرية لأن وزير الرى فشل فى حل الأمر هذا فى الوقت الذى سيتم افتتاح المرحلة الاولى من السد فى شهر أكتوبر القادم بعد إنشاء 40٪ من السد حتى الآن، وسوف يتم تشغيل 2 توربين من إجمالى 16 توربينًا لتوليد 700 ميجا وات من إجمالى 6000 ميجا وات المتوقع توليدها من ال16 توربينًا فى عام .2017 المحطة الأهم فى تردى أداء الخارجية أنها لم تنجح فى إقناع المجتمع الدولى بتفسير أسلوب انتقال السلطة فى يونيو 2013 إثر ثورة شعبية بدليل عدم تغير المواقف الخارجية بشكل واضح. فى المقابل نجح التنظيم الدولى للجماعة الإرهابية فى تشويه صورة ثورة 30 يونيو إلى حد كبير فقد عملت الجماعة الإرهابية ضد مصر بدعم من تركياوقطر، وأدارت الأمور لصالحهما، ونجحتا فى إقناع أمريكا بأن جماعة الإخوان تمثل الإسلام المعتدل وأنها المعادل الموضوعى للحركات المتطرفة، كذلك كان موقف عدد من مراكز الأبحاث مثل «كارنيجى وبروكنز»، اللذين تواصلت «الإخوان» مع كبار الباحثين فيها، كما نجح قيادات الإخوان فى دخول الكونجرس فى الوقت الذى لم تتصدى الخارجية للأمر، واكتسبوا فى صفوفهم مجموعة من النواب، ولم يكن لدى وزارة الخارجية الأداة أو القوة الإعلامية التى تستطيع أن تساعد على شرح الموقف المصرى، ومخاطبة الإعلام الغربى. من جانبه قال الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن تقييم أداء وزارة الخارجية يتم بناء على توجهات وسياسيات رئيس الجمهورية. ورأى نافعة، أن الخارجية المصرية بها الكثير من القدرات الدبلوماسية والقيادات المهمة، إلا أن السياسات الخارجية خلال الفترة الماضية كانت أقل من المستوى المطلوب، موضحا أن وزير الخارجية سامح شكرى لم يكن على القدر المطلوب خلال الفترة الراهنة أيضا. وأشار نافعة إلى أن التعامل مع أزمة المصريين بالخارج، كشف عن الكثير من القصور داخل الوزارة، والتى كان من الممكن تفاديها والتعامل معها بشكل مختلف كليًا. وأكد أن العلاقات الدولية شهدت تغيرا كبيرا خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يتطلب خطوات غير عادية وتغيرًا فى السياسات المتبعة وكذلك الخطاب الإعلامى، مشيرا إلى أن خطاب وزير الخارجية أمام مجلس الأمن كان جيد المحتوى، إلا أن أداء الوزير كان على غير المستوى. فيما أكدت السفيرة منى عمر ، مساعد وزير الخارجية السابق للشئون الأفريقية، أن الأداء العام للخارجية يعد جيدا، إلا أن هناك بعض الأمور لم تلفت لها من البداية خاصة فيما تعلق بقضية قطروتركيا. وحول أزمة المصريين فى الخارج، أكدت عمر أن هناك تباطؤا فى التعامل مع القضايا خاصة فيما يتعلق بأزمة المصريين فى ليبيا، موضحة أن الأوضاع الداخلية كان لها تأثير على الاهتمامات الخارجية. على صعيد متصل، قال وحيد عبد المجيد نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: لا يمكن الحديث عن إخفاقات الوزارة دون الحديث عن الإنجازات أيضا، ويجب أن تكون المساعى دائما للحصول على أعلى مستوى من الأداء الخارجى. وفى الوقت الذى أشار فيه عبد المجيد إلى الدور الذى يلعبه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى رسم العلاقات الخارجية، أوضح أن هناك إخفاقات فى التعامل مع أزمة سد النهضة أثرت على الأمر حتى الآن.∎