تنهض فكرة العنصرية على أساس «تمايز» مجموعة عرقية بذاتها، وارتقائها فوق باقى المجموعات البشرية، وبما يعنى أن هذه المجموعات ذات مرتبة أدنى، من حيث النوع والقدرة العقلية والملكات الفكرية والجسدية، وأيضاً من حيث الحقوق المرتبطة بهذه الوضعية المتفوقة!. و«النازية»، التى قاد شعارها «ألمانيا فوق الجميع» الإنسانية إلى واحدة من أبشع الجرائم التاريخية، سقط فى أتونها عشرات الملايين من البشر، وتهدمت دول، وتحطمت مقدرات أمم، تعكس التمثيل الأوضح للفكرة العنصرية، التى شربت من معينها المسموم الفكرة الصهيونية، وارتوت حتى الثمالة!.
فالنازية تعتبر «الجنس الآرى» جنساً مميزاً، نقى الدم وخالص العنصر، تماماً كما تزعم الصهيونية تمثيل جنس مميز آخر، هو «الجنس اليهودى»، أو«شعب الله المختار»، الذى اصطفاه «إله إسرائيل»، وميّزه عن باقى مخلوقاته، وأسبغ على المنتمين له صفات «سامية» لا يتمتع بها غيره من الجماعات الإنسانية الأدنى مرتبة! لقد كان القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، زمن «الداروينية» بامتياز، فمنذ كتب «تشارلز دارون» سفره الشهير «أصل الأنواع»، (عام 859 )، انتشرت نظرية «البقاء للأقوى»، وذاعت مفاهيم «الانتخاب الطبيعى»، والتى تتجاهل نوازع الرحمة الإنسانية، وترسخ لفكرة الصراع من أجل الوجود، وحتمية انتصار الأقدر على المغالبة، والأكفأ للاستمرار والبقاء، كما دفعت أفكار نيتشه عن «الإنسان المتفوق»، أو ال «Superman» باتجاه تأكيد أفضلية القوة فى استمرار النوع، وهو ما وجد آذاناً صاغية، لدى مفكرين يهود صهاينة، من أمثال «موسى هس»، مؤلف «روما والقديس»، الذين قرأوا هذه الأفكار قراءة تخدم توجهاتهم العنصرية، بتأكيدها على أن الاختلافات بين المجموعات البشرية والشعوب: «فطرية وموروثة وليست مكتسبة.. أبدية وليست زائلة»!.
وقد أدلى بدلوه فى تعميق هذه الأفكار عدد غفير من المفكرين الغربيين، فى مقدمتهم «يوهان جوتليب فخته»، مفكر القومية (العرقية) الألمانية، و د.«ألفريد بلوتيز»، مؤسس علم «الصحة العرقية»، و«هربرت سبنسر» الذى ربط ربطاً حتمياً بين «التقدم» وتفوق «الإنسان الأبيض»!.
وعلى الساحة اليهودية، كان هناك من رأى، ك«آحاد حاعام»، أن اليهودية قد سبقت «النيتشويه» بعدّة قرون، (فى إبداعاتها العنصرية)، حين طرحت فكرة «اليهودى المتفوق» الذى هو «غاية فى حد ذاته، وخُلق العالم من أجله»!.
لكن المشكلة مع اليهود، يقول «آحاد حاعام»، «هى أنهم لم يُقدِّروا تماماً نوعية «التفوق اليهودى»، فلكى يُبعث هذا العرق المتفوق «لابد من مكان ثابت مستقر، حتى تتاح له الفرصة لتطوير عبقريته، وإبلاغ رسالته.. كاملة متفوقة»!.
فها هى، إذن، الدورة قد اكتملت: خلق الله جنساً متفوقاً هو الجنس اليهودى، ولكى تتحقق مشيئته، وحتى يتمكن هذ «الشعب المُصطفى» من تطوير ما وهبه الرب من ملكات وصفات عبقرية، لا بد له من وطن وأرض مستقرة، وجيش باطش عرمرم ودولة!!.. إذن لتكن «فلسطين» هى هذا المستقر، استجابة لإرادة إلهية لا راد لقضائها المبرم!
وهو ما تحقق فى منتصف القرن الماضى، بتآلف قوى الاستعمار والهيمنة، مع الحركة الصهيونية التابعة، لتأسيس «الوطن اليهودى الموعود»، على أرض الفلسطينيين العرب، الذين ورثوها عن جدود الجدود!.
ولأن هذه «الدولة» ولدت هجيناً فاقداً لدلائل الرحمة والإنسانية، من جينات الإرهاب والعنصرية، فقد كان ضرورياً أن يترتب على الإيمان بها مجموعة من النتائج:
أولها: حتمية، انفجار الصراع بين الجماعات البشرية المتباينة، لعدم قدرتها على التعايش السلمى فيما بينها، كنتيجة منطقية لسعى تلك الجماعة، التى تفترض فى نفسها التميُّز عمن حولها من جماعات، إلى فرض سيطرتها على الباقين، وإجبار الآخرين على الخضوع لمشيئتها، واعتبار أن إرادتها أمرٌ واجب التنفيذ، وأن مصالحها ومطامعها قضيتان لهما الأولوية دائماً على سائر أمور البشر!.
وثانيها: وبالنظر إلى حالة «الصهيونية» فقد أدى الإغراق فى أوهام «النقاء العنصرى»، و«التميز العرقى» إلى الحرص على عدم اندماج اليهود فى المجتمعات التى تواجدوا بها، حيث اختاروا العزلة فى «جيتوهات»، (معازل ذاتية)، وإداروا الظهر للأمم التى فتحت لهم أبوابها، ودعتهم للامتزاج بمواطنيها دون عزل أو إقصاء، الأمر الذى صب الزيت على نيران «العداء للسامية»، كرد فعل طبيعى لعنصرية الدعوة الصهيونية، ولتعاليها واختيارها الطوعى الانفصال عن الوسط المحيط.
وثالثها: ومن المؤكد أن الصهيونية قد دفعت، وتعاونت، بل وتآمرت على الملايين من اليهود، فى اتجاه نشر وتوسيع رقعة «العنصرية المضادة»، المتمثلة فى «العداء للسامية»، وبالغت فى حجم وتأثير هذه المشاعر السلبية، إلى حد اعتبارها «خططاً ممنهجة لإبادة اليهود»، كى تدعم دعاويها برفض أفكار «الانفتاح»، و«الذوبان»، أو «الانصهار» و«الاندماج»، فى دول المعاش، التى تبنتها أقسام (تحررية ويسارية) يهودية، ولتعظيم المخاوف التى تدفع باتجاه تأكيد أنه لا مناص من تكوين «الوطن القومى» على أرض فلسطين، فراراً من «حملات الإبادة» المزعومة، وهرباً من مخططات «التصفية» المدّعاة.
ومن هنا فإن النظريات العنصرية والنظم التى تبنتها، ك«الفاشية» و«النازية» ونظام «الفصل العنصرى»، (الأبارتايد) فى «جنوب أفريقيا» قبل سقوطه، كانت حاجة صهيونية ماسّة، وهى قد خدمت الصهيونية خدمات كبيرة، إذ عملت ك«مُحِفِّز» لدفع الجماعات اليهودية إلى الاستجابة لنداءت الحركة الصهيونية بالهجرة إلى «أرض المعاد»، بدلاً من الاستقرار والاندماج فى الدول التى كانوا يعيشون فيها.
وبشكل منافٍ للعلم والموضوعية، بالغت الأدبيات الصهيونية فى الحديث عن «الخصوصية اليهودية»، اعتماداً على زعم كاذب هو «نقاء العنصر اليهودى» على امتداد آلاف السنين، لكى تبرر اغتصاب الأرض الفلسطينية، باعتبار أن اليهود المعاصرين، من الأمريكيين والأوروبيين والفلاشا الحبشيين، هم الورثة المباشرون لأولئك الذين عاشوا فيها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، والذين أقطعهم إلههم أرض فلسطين، ملكية وراثية إلى أبد الآبدين!.
ولذلك لم يكن غريباً ما سجّله «هرتزل» فى كتابه «الدولة اليهودية» «إن اليهود بقوا شعباً واحداً وعرقاً متميزاً. إن قوميتهم المتميزة، لا يمكن، ولن، ويجب أن لا تتقوض. لذلك لا يوجد غير حل واحد فقط للمسألة اليهودية، هو «الدولة اليهودية»!.
إن الإيمان بالأفكار العنصرية ك«التفوق العرقى» لابد أن يترجم إلى سياسات عملية، على أرض الواقع'' تحتقر الأعراق الأخرى، وتتعالى على سائر ماعدا اليهود من بشر، والنظرة الشوفينية الكارهة والمتعصبة، تجاه «الآخرين»، «الأغراب»، «الأغيار»، وخاصة تجاه أصحاب الحق الأصلى، «الشعب الفلسطينى»، وضرورة «إزاحتهم» واحتلال مواقعهم، من الطرف الأقوى، اليهودى، لأنه، وطبقاً للنظريات العنصرية، فإن القوة هى «قابلة التاريخ»، أو مثلما يكتب «هرتزل» فإن: «كل ما هو عاجز عن البقاء يمكن أن يُدمّر.. وسوف يُدمّر، ويجب أن يُدمّر».. «إن القوة تتقدم على الحق».
والتطور المنطقى لهذه الأفكار العنصرية لا بد أن يسير باتجاه شن العدوان والتدمير والحرب والترويع، على الآخرين وممتلكاتم وثرواتهم، إذ حسب المفكر الألمانى العنصرى «تريتشكه»: «بدون حرب لن تكون هناك دولة على الإطلاق»، وهذه النوعية من الحروب لا تتوقف عند حد، «فالحرب (هى) المهمة الرئيسية للدولة، وواجب الدولة الصغيرة، الفتية (كإسرائيل بالذات!)، أن تتوسع وتُعدّل حدودها كلما قدرت على هذا الأمر».
وهذا الأمر هو ما حرص على الالتزام به التلميذ النجيب للعنصرية الغربية والألمانية، «ديفيد بن جوريون»، (الزعيم الصهيونى الشهير، وأول رئيس وزراء لإسرائيل): «بما أن إنجلترا تنتمى للإنجليز، و«مصر للمصريين»، كذلك!، فإن اليهودية لليهود، وليس فى (بلادنا) مكان إلا لليهود. إننا سنقول للعرب: «ابتعدوا». فإذا لم يوافقوا. إذا قاوموا فسنبعدهم بالقوة»!.
ولم تتوان دولة العصابات الصهيونية: «الهاجاناه» و«إتسل» و«ليحى» وغيرها، عن اللجوء لكل أشكال جرائم الحرب وانتهاك أبسط الحقوق الإنسانية: التخريب والقتل وهدر الدماء والأرواح البريئة، فى سلسلة ممنهجة من المذابح الدموية، بهدف ترويع الفلسطينيين العزل، ودفعهم لمغادرة أراضيهم، تبعاً لمخططات «الترحيل» أو «الترانسفير» المعروفة، تحت وطأة الرعب والخوف من القتل، بعد أن رأوا بأم أعينهم بقر بطون الحوامل، والتمثيل بالجثث، وحرق الممتلكات، والنهب المنظم للثروات!
بل إن الأطماع الصهيونية لم تقتصر على الأرض الفلسطينية المغتصبة وحسب، بل امتد الترويج لخرافات الاستعمار التوراتية إلى دفع «موشيه دايان»، القائد العسكرى (العلمانى)، إلى اللجوء للتبريرات الدينية المبتذلة على هشاشتها البادية من أجل تفسير أطماعهم غير المحدودة: «إذا كنا نملك الكتاب المقدس، وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب الكتاب المقدس، فإن علينا أن نمتلك أرض الكتاب المقدس، أرض القضاة والآباء، أرض أورشليم والخليل وأريحا وغيرها.
و«على الدول الأجنبية أن تفهم، يقول «دايان»، أن سيناء ومرتفعات الجولان، ومضيق تيران، وجبال غرب الأردن، بغض النظر عن أهميتها الاستراتيجية... تقع فى قلب التاريخ اليهودى»، ومادام لها هذه المكانة المقدسة، ب«الوقوع فى قلب التاريخ اليهودى»، فالاستيلاء عليها ليس جريمة، وإنما «إعمالاً لمشيئة الرب، إله الجنود»!.
أما «مناحيم بيجن»، الإرهابى العتيد، تلميذ «جابوتنسكى»، وأستاذ الإرهابيين التاليين من «إسحاق شامير»، وحتى «بنيامين نتنياهو»، فقد كان مشروعه الدائم: «إسرائيل الكبرى»، والتى تضم كل المنطقة التى سيطر عليها ذات يوم منذ ثلاثة آلاف عام الملك «داوود» والملك «سليمان»!.
لكن ماذا نحن فاعلون فى أبناء الشعب الفلسطينى، أصحابها منذ عشرات الآلاف من السنين؟!.
يقول «بن جوريون»، فى تناغم واضح مع ماسبق، وفى معرض رده على الكونت «برنادوت»، وسيط الأممالمتحدة، حين طالبه بأن يترك (العرب)، الفلسطينيين، يعودون إلى ديارهم: «سنفعل كل شىء حتى لا يعودوا أبداً...»!.
ومرة ثانية يقودنا هذا المنطق إلى دخول «دائرة الحرب الجهنمية» التى تدفع إسرائيل المنطقة إليها، قصدياً، بشكل دورى، كل بضع سنوات.
إن الحرب بالنسبة لإسرائيل، التى تتكون من أشتات أمم، وشظايا قوميات، وتضم يهودًا مبعثرين ينتمون لعشرات الأعراق، ويتحدثون بعشرات الألسن واللغات.. إلخ، ضرورة وجود، لولم تتيسر لها الأسباب الفعلية، لعملت على اختراعها. إنها «الأسمنت اللاصق» والقوة الضامّة، التى تجمع الشظايا والأطياف، وتمنع (الدولة) من التداعى والتحلل.
إنها كما كان يؤمن «بن جوريون»- حالة ضرورية ولازمة للدولة الصهيونية، تساعد على «توفير التوتر المطلوب لتوحيد المجتمع الإسرائيلى وبلورته»، كما يؤكد «توم سجيف»، الصحفى الإسرائيلى المعروف، فى كتابه الأشهر: «الإسرائليون الأوائل».
فإذا ما أسكنت «حرب غزة اليوم»، فلا تغفلوا، ولا تتصوروا أنها انتهت إلى غير رجعة، لأن صمت المدافع الآن ليس سوى «هدنة بين حربين»، ليس أكثر. ولا تطمحوا لسلام دائم مع إسرائيل لأنها غير مهيأة له، فهى لا تريد إلا التهام كل شىء، والسلام الذى تطلبه هو السلام المستحيل، سلام مع «الفلسطينى الطيب» من وجهة نظرها بالطبع، وهو «الفلسطينى الميت».. لا أكثر ولا أقل!.