الفتاة في قري ومدن الصعيد «معزولة » عن جميع جوانب التفاعل الاجتماعي الصحي. قد يتصور البعض أن ما سبق من حديثي حكم مطلق ونظري علي «الفتيات» في الجانب الآخر «الجنوني » من القاهرة.. ولكن العزلة التي أتحدث عنها قد تعيش فيها فتيات كثيرات يعشن في أرقي الأحياء القاهرية ، وما يزيد العزلة ويحولها إلي «سجن » ومعتقل هو ألا يوجد « هواء صحي طبيعي تتنفسه الفتاة في كثير من قري الصعيد». «حدثتني ابنة أحد أقاربي في الصعيد ، فتاة في المرحلة الإعدادية بأحد المعاهد الأزهرية ، ليس صوتها وحده الذي يكشف عن طفولة « مبالغ فيها » ، ولكن أيضا «حديثها» يؤكد أنها قليلة الخبرة « لم تعظم بعد» ولم تخرج من طور السنوات الأولي من مراحل حياتها.. كانت هذه انطباعاتي الأولي عنها. حدثتني عن مشروع أو تكليف مدرس في نشاط الصحافة ، بأن تقوم بعمل تحقيق صحفي ، وهو أمر أسعدني ووجدته فرصة لمعرفة نمط تفكير هذه الفتاة.. استشعرت أن انطباعي قد يكون خاطئا، فالفتاة تحاول جاهدة أن تثبت أنها متابعة لما يحدث في الحياة، ولكن تعبيرها عن بعض القضايا والموضوعات الصحفية التي يمكن تنفيذها ، كانت تكشف عن أن مسألة «التعبير والحوار والمناقشة» أمور غير مطروحة في حياة هؤلاء الفتيات.. كان سؤال قريبتي الصغيرة محددا وهو: « إزاي أعمل موضوع صحفي؟! تبادلنا الحديث وسألتها: اختاري أنت موضوعاً تريدين مناقشته أو الكتابة عنه ، اختاري أي موضوع يشغل بالك ؟! أجابتني: « يعني ممكن نكتب عن فلسطين والعراق »؟! سألتها: « هل تشغلك قضية فلسطين والعراق بجد»؟! أجابتني: لأ.. مش عارفة.. طب ح اكتب عن إيه؟!.. الأبلة.. هي اللي اقترحت !! سألتها: هل أنت راضية عن أوضاع بلدك الصغير في أسيوط هل هذه المدينة الصغيرة هي التي تحلمين بها ، هل تعتقدين أنه لا يوجد شيء ينقصها ؟! هنا.. بدأت أستشعر أن الفتاة قد التقطت خيوط الحوار معي.. فقالت بلهجتها الصعيدية البريئة: - «لا.. دي بلدنا فيها مصايب ياما !!» واسترسلت الفتاة: لا مؤاخذة زبالة في كل مكان ، ومجاري، والانتخابات في البلد حاجة ما حصلتش ؟! سألتها: ماذا تقصدين ؟ ! أجابت: خناقات كثيرة ومؤتمرات شعبية وهتافات وباسمع الناس تقول: ده يعطينا كام علشان ننتخبه ، وناس بتفاصل في الفلوس علشان تنتخب شخص تاني.. وأنا مش فاهمة ؟ لم تعطني الفتاة الصغيرة فرصة أن أقترح عليها اختيار موضوع الانتخابات للكتابة عنه وفيه، وبادرتني هي بالاقتراح. وافقتها تماما.. وبدأنا ترتيب بعض الأفكار والمحاور وطرق التنفيذ واختيار الشخصيات التي تتحدث معها وما المقصود بمسألة الرصد ، وكيف تحصل علي المعلومات ، وما معني صياغة الموضوع، وكيف تقوم بالتصوير ، وحاولت أن أوضح لها كيف تقوم بعمل تحقيق صحفي شبه متكامل وفق إمكاناتها. كان الحماس يبدو علي صوتها.. وجاءني صوتها بعد أيام غائباً عنه الحماس تماما.. كانت محبطة وهي تقول: معلش.. موضوع الانتخابات مش نافع.. سألتها: لماذا ؟! قالت: بابا ما وافقش أخرج أقابل الناس ، حتي أقربائي الذين سألتهم عن توقعاتهم أو ما الذي ينتظرونه من مرشح في بلدنا... سخروا مني وقالوا لي: « بلاش وجع دماغ.. روحي شوفي مذاكرتك..» وتستكمل: وطبعا.. لم أستطع مقابلة أحد من المرشحين لأن بابا قال لي: « إنت مجنونة.. ده في حرب نار.. ح تروحي تزحمي وسط الرجالة والفتوات »!! قالت الفتاة بانكسار: ممكن أكتب عن موضوع آخر.. فقلت لها اختاري موضوعا آخر.. شعرت الفتاة بالحيرة.. فسألتها: اكتبي عن البنات في الفصل بتاعك.. اكتبي عن مشاكلهن - عن أحلامهن - عن أفكارهن.. اكتبي عن نفسك كفتاة لها أفكار. طموحات ، توقعات من البلد الذي تعيش فيه ، اكتبي عن واقعك ، وعن حياتك ، ما الذي ينقصك وما الذي تريدين تحقيقه ، عن المصاعب التي تواجهينها كفتاة لها رؤية ما هي مواهبك ؟ كيف تمارسين هذه الموهبة ، ما هي الأماكن التي يمكن الخروج إليها في بلدك الصغير ؟ وما هي الطريقة التي تقضين بها إجازتك ؟!.. اكتبي عن نفسك يا «شادية».. اكتبي عن صديقاتك حاولي أن تعبري بصدق عما يدور بداخلكن..! صمتت الفتاة قليلا.. ثم ردت علي قائلة: « ده إحنا مش عايشين خالص.. البنات إللي في سني ما يقدروش يروحوا وييجوا مفيش أصلا مكان ممكن نروحه في البلد ، مفيش حاجة اسمها ترفيه». قبل أن تسترسل الفتاة ، وتخرج الشحنة شفوياً.. وتفقد هذا الحماس ثانية.. قلت لها: اكتبي كل شيء علي الورق أجابتني: يعني أكتب لك «العناصر»؟! قلت لها: اكتبي لنفسك ما تريدين التعبير عنه.. قالت: طب ينفع أحكي وأكتب عن صاحبتي إللي في الفصل إللي جوزوها وهي لسه في الإعدادية ؟!! صدمتني بما ختمت به حديثها.. ولم أجد سوي أن أقول لها: اكتبي كل إللي انت حاسة به وبتفكري فيه ؟! في العدد القادم: قصة زواج صديقة « شادية »!! ذات الخمسة عشر عاما!!