تمر هذه الأيام ذكري عام علي رحيل والدي. رحل الصديق الحكيم الحنون الذي كنت ألجأ إليه في المحن فأجد عنده الحل الشافي والحنان الكافي لتضميد كل الجراح، ثم تبسيط وحل كل الأمور التي تبدو معقدة. أبي الغائب الحاضر دائمًا. أبي الحبيب كم أفتقدك وأتوق لنظراتك الحانية وحكمة عقلك الموسوعي وتواضعك وخفة ظلك. أنت معنا بالفعل يا أبي.. في أعمالك وكتبك. بذرة الخير والعمل الصالح المسجد والمستشفي يجعلانك ملء السمع والبصر في قلوب محبيك. كم أتمني أن يتحقق حلمك ويخدم أكبر عدد من المواطنين ويتواصل العطاء ويتضاعف نهر الخير من جيل لجيل، ولنبحر معًا في رحلة داخل قلب وعقل مصطفي محمود، كيف يفكر ما هي فلسفته وكيف كانت علاقته بخالقه.. في ذكري رحيله. الحب والخوف كلمتان تعبران وتعكسان فكر ومشاعر أبي رحمه الله وطبيعة علاقته بخالقه عز وجل. كان دائمًا يقول أن من يحب يجب أن يترجم هذا الحب عمليًا أي أفعال لا أقوال. فمن غير المعقول أن أردد باللسان أني أحب خالقي وأعصاه في جميع أفعالي وأقسو علي عباده أبخل وأتكبر وأتجبر عليهم. الحب الحقيقي عطاء ومحاولة مستمرة لنيل رضا من نحب مع الاعتراف بالتقصير والخوف الدائم من الوقوع في الذنب والمعصية، وسؤال الله العفو والمغفرة والتضرع له بالعمل الصالح وقضاء الحوائج ومساعدة الضعفاء. فقد كان أبي يحب الله ويراه في جميع مخلوقاته «إن الله يتجلي بوجهه في كل شيء من الذرة إلي المجرة، لذا فأنا عاشق لجمال الله ونوره متأملاً روعة خلقه في جناح الفراش وريشة الطاووس في تغريدة الطائر، وفي ابتسامة الوليد في تفتح البراعم، وفي إشراقة الفجر في وشوشة البحر ورقراق النسيم». كنت تنظر لي بحنان وتسألني ماذا نقول عندما نري ونستمتع بكل هذا الجمال، فأرد ببساطة «الله» فتبتسم في رقة وتقول: إذن هذا الجمال جمال الخالق الذي فاض بنوره علي كل الكائنات لنري الجمال وينبض قلبنا بالحب والخير. أين هذا من تدني أمل هذا الزمان في عالم الكراهية والنفاق الذي نعيش فيه، حيث لا يري كل واحد إلا نفسه ومصلحته، وحيث تشتبك المصالح وتتنازع المنافع ويقتتل الإخوة وتضيق الأرض علي سعتها ولا يري الواحد لأبعد من أنفه. صدقت يا أبي وبمناسبة اقترابنا من الانتخابات البرلمانية أتذكر مقارنتك لمقاييس العدل في الدنيا والآخرة.. ففي دنيانا الفوز بالأغلبية يوصلك إلي الفوز بكل شيء فأحزاب الأغلبية هي التي تفوز بالمناسب وهي التي تمثل الشعب أكثر وهي التي تمثل وجهات النظر الأكثر عدلا وإنصافاً وأن تكون مع الأغلبية معناها أن تكون مع الحق ومع أهل الصدارة وهذا حال الدنيا. أما في الآخرة فالأغلبية علي ضلال والأكثرية في جهنم فأكثر الناس في القرآن لا يعلمون وأكثر الناس لا يفقهون ولا يؤمنون ولا يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ويقول ربنا عن الأكثرية إن يتبعون إلا الظن.. ولن يدخل الجنة في آخر المطاف إلا الأقلية فالأحكام في الدنيا لا تري إلا الظاهر، أما أحكام الآخرة فما وقر في القلب وصدقه العمل يقول ربنا في هذه الفئة الناجية.. وقليل من عبادي الشكور.. ويقول عن المؤمنين.. قليل ماهم وهذه هي القلة المرشحة للفوز بالجنة فنحن أمام إنتقائية صارمة وغربال ضيق لن ينفذ منه إلا الصفوة. أتذكر كلماتك يا أبي وأنت تقول لي إن الجنة بروعتها وحورها وأنهارها العذبة وثمارها لا تساوي لذة النظر لوجه الله الكريم. لذا وصف المولي عز وجل أهل النار المارقين الفارقين في الظلم والفساد والمعصية «كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون» أي حجبوا بأفعالهم وظلمهم لأنفسهم عن رؤية وجه الله الكريم والتمتع بنوره وهذا عذاب ما بعده عذاب. لذا كان دائم الدعاء أن يمتعه الله بلذة النظر إلي وجهه الكريم. وأخيرًا فقد كان رحمه الله كما وصفه الأدباء والمفكرون وأصدقاؤه المقربون قلعة فكرية ضخمة لها ألف باب حتي إنك لتحار في أي هذه الأبواب تدخل، ومفتاح هذه القلعة أو مفتاح شخصيته هو الحرية..فإن الرحلة داخل عقله وداخل نفسه رحلة البحث عن السعادة سعادة الدارين الدنيا والآخر وسعادة الإنسان الروح والجسد والنفس. وأختم بدعائك وأنت تناجي ربك وتتوسل إليه «يا غياث المستغيثين وأمان الخائفين وأمل المستضعفين اللهم زكنا ورقنا إلي مقام القرب منك.. اللهم عافنا واشفنا واشملنا برداء رضوانك وأوردنا مورد قبولك وامتنانك.. وهبنا استعداداً لقبول فيضك واستنشاق نفحاتك وبحرنا في آلائك واحجب أبصارنا عن مشاهدة الأغيار بنورك يا كريم يا منان».