لقد خاض محمد عبده الكثير من المعارك الفكرية وكان له من الأعداء أكثر بكثير مما كان له من الأصدقاء ، وكان هذا شيئا متوقعا ، إذ إننا فى كل مكان وزمان نجد دعاة للنور كما نجد خفافيش للظلام ممن لاتقوى أبصارهم على مواجهة نور الحق والعقل .. بحث الشيخ محمد عبده فى العديد من الموضوعات التي تعد بالغة الأهمية. لقد بحث فى موضوع الدين والمتدينين، وبين لنا أن الله تعالى خلق الإنسان عالما صناعيا ، وهو يعنى بذلك أثر البيئة علي الإنسان فلو ترك العمل ساعة من الزمن، وبسط كفيه للطبيعة ليستجديها نفسا من حياة، لما تمكن من ذلك، بل انتهى إلي حالة من العدم.. لقد أثار محمد عبده الكثير من الأسئلة والتى حاول عن طريقها معرفة أسباب تخلف المسلمين في عصره، فى حين أننا فى الماضى كنا نتمتع بالقوة والمجد والازدهار. ولا تخلو عباراته من نغمة حزن وأسف على ما وصلنا إليه الآن. إنه يتساءل هل استبدت الأبدان وسيطرت على الأرواح؟ ولا هل انقطعت الصلة بين الأسباب ومسبباتها؟ لقد كان للمسلمين إنجازاتهم فى الماضى، فقاموا بالعديد من الأعمال التى بهرت الأبصار وأدهشت الألباب .. ويحاول محمد عبده تحديد الأسباب التى أدت إلى ضعف المسلمين. لقد ظهر بين المسلمين رجال ارتدوا الزي الدينى، ولكنهم قالوا بالكثير من البدع التى لا صلة لها بالدين. و انتشر بين المسلمين الإيمان بالجبر والتواكل ، وأدى هذا إلى سخريتهم من العمل والكفاح . ونجد فى آراء محمد عبده الكثير من الجوانب الإيجابية والصادقة تماما، ومن بينها أهمية الدعوة إلى الحرية والابتعاد عن القول بالجبر، وأيضا تفرقته بين الدين فى أساسه وأصوله وأحكامه، وبين ما نجده شائعا عند بعض الناس والذين لم يفهموا الإسلام فهماً صادقاً ودقيقاً، فالإسلام لم يكن أبداً دعوة إلى الضعف والتواكل بل دعوة إلى القوة .. والواقع أن محمد عبده فى آرائه هذه، كان مُتسلحا بالشجاعة والصبر والمناقشة المستفيضة لكل حجة من حجج الخصوم ويحلل محمد عبده فى الكثير من كتبه، العديد من الأسس والأصول بديننا وهذه الأصول هى: النظر العقلى لتحصيل الإيمان، تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، الاعتبار بسنن الله في الخلق، قلب السلطة الدينية والإتيان عليها فى أساسها، حماية الدعوة لمنع الفتن، مودة المخالفين فى العقيدة، الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.. عندما نتأمل فى دراسة الشيخ محمد عبده لهذه الأصول، ندرك سعة أفقه وعقليته النقدية الدقيقة. كما ندرك أننا الآن فى أمس الحاجة إلى مثل تلك الآراء سواء فى حياتنا الفكرية أو حياتنا الاجتماعية السياسية، وندرك أيضاً أن العيب ليس فى الدين، حاشا لله، ولكن فى فهمهم الخاطىء لهذا الدين .. لقد ذهب محمد عبده فى دراسته لأصول الإسلام إلى أن الإسلام قد أطلق للعقل البشرى أن يجرى فى سبيله الذى سنته له الفطرة بدون تقييد، وأن الإسلام قد عمل على هدم السلطة الدينية ولم يجعل لأحد سلطانا على عقيدة أحد، وأن من حق كل مسلم أن يفهم القرآن بعد دراسته لبعض العلوم التى تتصل به كقواعد اللغة العربية والناسخ والمنسوخ. ومن الواضح أننا الآن وأكثر من أي وقت مضى فى أمس الحاجة إلى أقوال محمد عبده، حتى نفهم الدين فهما صحيحا ، لقد تحول الدين عند مجموعة من الناس إلى نوع من التجارة، وأصبح بعض من يطلقون على أنفسهم مشايخ الآن لا يقولون كلمة فى مجال الدين ولا حتى نصيحة من النصائح الدينية، أو فتوى من الفتاوى إلا بدفع الثمن مقدما ، وكأن الدين قد أصبح من أملاكهم الخاصة ولا يجوز لأحد أن يشاركهم فيه وإلا أصبح كافرا وصدر عليه حكم بالمروق والإلحاد، لقد قال محمد عبده فى معرض دراسته لأصل من أصول الإسلام: إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر فى مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر ..فما بالنا الآن وقد اجتمع علينا مفتو الكفر من كل صوب وحدب .؟ فى الأسبوع القادم نكمل مابقى من هذه الدراسة المتواضعة عن إمام التنوير ..