مازلت أطرح السؤال: هل أحسن العرب استخدام التليفزيون من أجل نهضة مجتمعاتهم؟! طرحت السؤال فى العدد الماضى ولم أجب عنه، وأطرحه مرة أخرى فى العدد الذى بين يديك، ولا أعتقد أننى سأستطيع الاجابة عنه إجابة وافية قاطعة مانعة!! فالإجابة عن مثل هذا السؤال تحتاج إلى دراسات ميدانية ترصد تطور المجتمع المصرى منذ الستينيات وحتى اليوم. خمسون عاماً من التقلبات والتغييرات المحلية والعالمية، انتصارات وهزائم، أحلام تحققت، وأخرى تهاوت وسقطت فى بئر النسيان! أجيال تحمست خلال العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وأخرى دخلت السجون والمعتقلات، وقلة واعية مدركة هربت أو هاجرت وأخرى انطوت على نفسها وابتعدت وقالت وأنا مالى يا عم وكونوا حزباً أطلق عليه اسم «الونامالية». وانقسم المجتمع فى مصر مع بداية الستينيات إلى مجتمعين.. مجتمع أهل الثقة ومجتمع أهل الكفاءة وانتصر أهل الثقة وأصبحوا من أصحاب الصوت العالى. أما أهل الكفاءة فقد صمتوا وراحوا يؤدون أعمالهم بكفاءة كلما أمكن ذلك ولم يصطدموا بأهل الثقة. تدهور التعليم والصحة والأداء! وسافر أهل الكفاءة يبنون مجتمعات عربية استقلت حديثاً وتريد بناء نهضتها. شمل ذلك جميع المؤسسات وفى مقدمتها مؤسسة التليفزيون، فقد سافر معظم الذين أرسلهم الدكتور حاتم فى بعثات وكسبوا الخبرات الأوروبية والمصرية إلى تليفزيونات البلدان العربية، وقدموا خبرتهم المصرية والأجنبية! سوريا حصلت على النصيب الأعظم بسبب الوحدة ثم الأردن والعراق والكويت والإمارات. أما السعودية فقد أخذت من الكفاءات بحساب، ومعظمهم كانوا من المهندسين العاملين فى التليفزيون مثل المهندس عبدالرحمن حافظ والمهندس محمد عبدالمنعم فطيم والمهندس أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون اليوم. ومازال السؤال مطروحاً، هل أحسنت البلدان العربية استخدام التليفزيون فى التنمية البشرية، وتطوير المجتمع العربى؟! ولكى نجيب عن هذا السؤال بدون استخدام وسائل البحث العلمى ومناهج وأدوات البحث العلمى، فإننى أسارع بالقول إن المسئول عن البرامج وكان استاذاً فاضلاً بذل قصارى جهده فى تقديم برامج ومناقشات بما تسمح ظروف الرقابة السائدة فى تلك الأيام..كان التليفزيون يبث برامج تعتمد على معلومات يقدمها المسئول، أو برامج رياضية أو ندوة يشترك فيها أكثر من شخص وقد يقدم التليفزيون تحقيقاً صحفياً يظهر معالم منطقة مصرية، أو تمثيلية السهرة أو فيلم السهرة أو مسرحية السهرة! والفيلم أو التمثيلية أو المسرحية تدور أحداثها عن الماضى البعيد أو القريب والفيلم من الأفلام القديمة أما المسرحية فيكون مضمونها إما إشادة بالحاضر أو انتقاداً للماضى! وانتشرت فى تلك الأيام عبارات (مين مع مين) و(إيه الأخبار) (ومين مناسب مين). وأيضاً تناقش الناس حول الكم والكيف.. الإنتاج الغزير مثل كتاب كل ست ساعات، ومسرحيات يقدمها التليفزيون لمدة أسبوع من أجل تصويرها فقط.. وانتقاء ما يمكن تصويره من مسرح الدولة. وبالطبع لم يسجل التليفزيون كل المسرحيات التى اعترضت عليها الرقابة، وبذلك فقدنا تراثاً مسرحياً لم نسجله لأن الرقابة الحكومية أحست عند مشاهدته أنه لا يتفق وهيبة النظام أو أنه يطرح أسئلة ليس من المفروض طرحها أو يخوض فى موضوعات لا ترضى عنها الحكومة وهى الحرية والمساواة والديمقراطية أو الاستبداد والطغيان والدكتاتورية! وبدأت البرامج تزداد تسطيحاً والضحك أصبح من أجل الضحك، واختفت كوميديا الموقف وحلت مكانها كوميديا الكلمة ومشتقاتها أو الهمز واللمز بالكلمات! وباختصار شديد كان أهم ما يقدمه التليفزيون فى مصر والبلدان العربية هو خطب الرؤساء والملوك والأمراء فى المناسبات، والإنجازات الحكومية. وأصبح التليفزيون المصرى يتميز عن التليفزيونات العربية بأنه يقدم صوت أم كلثوم، وخطب الزعيم جمال عبدالناصر، ومفاجآت الرئيس محمد أنور السادات بل إن السادات أضاف برنامجاً سنوياً فى عيد ميلاده، حيث تستضيفه المذيعة المعروفة فى ذلك الزمان باسم همت مصطفى وحفظ الناس عبارة السادات الشهيرة فى الخامس والعشرين من ديسمبر كل سنة عندما كان ينادى السادات المذيعة بقوله: همت يا بنتى!! وصولات الرئيس محمد حسنى مبارك فى بداية عهده عندما كان يتجول متفقداً المشروعات العديدة التى تنفذها مصر. كان الرئيس محمد حسنى مبارك يتجول فى طول البلاد وعرضها باحثاً عن مشروعات ناقصة ليستكملها منذ عهد الرئيس عبدالناصر أو الرئيس السادات، كما كان يباشر المشروعات الكثيرة التى كان يحاول بها فك الاختناقات المرورية، أو إصلاح التليفونات أو إقامة محطات الكهرباء أو بناء المسكن الاقتصادى للشباب أو افتتاح المدن الجديدة العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر، والخامس عشر من مايو المعروفة بمدينة مايو! والمعرض الصناعى الزراعى السنوى كان الرئيس مبارك يتفقده جناحاً جناحاً ويسأل ويتحاور مع العارضين ومع العمال وكان الرئيس مبارك يبشر فى ذلك الزمان بالانفتاح الإنتاجى وليس الاستهلاكى. ورفع الرئيس مبارك شعار «صنع فى مصر» ونجح الشعار وازدهرت الصناعة المصرية! وبدأ يهتم بالتصدير وزراعة الصحراء. وكان القطاع الاقتصادى فى التليفزيون المصرى يكسب ويربح كثيراً من إعلانات التليفزيون . وجاءت حرب الخليج الأولى عندما غزا صدام حسين الكويت واشترك الجيش المصرى فى رد العدوان على الكويت بمقتضى الاتفاقيات العربية، وزار الرئيس محمد حسنى مبارك الكتيبة المصرية المتمركزة فى حفر الباطن! سأل الجنود عن ماذا تريدون فطلب الجميع: مشاهدة التليفزيون المصرى. والتفت الرئيس إلى محمد صفوت الشريف وزير الإعلام حينذاك قائلاً: كيف نلبى رغبة جنودنا يا صفوت؟! وهنا بدأت قدرات وزير الإعلام محمد صفوت الشريف فى الظهور. خلال أسبوع أو عشرة أيام استطاع صفوت الشريف وزير الإعلام توصيل الإرسال التليفزيونى إلى جنودنا المتمركزين فى حفر الباطن. وكان ذلك بداية البث الفضائى فى الوطن العربى. ومنذ ذلك التاريخ انشغل الوزير النشط بالأعمال التليفزيونية فأنشأ العديد من المحطات الأرضية فى مصر القناة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ثم الثامنة والتاسعة. وبدأ أيضاً دراسات حول القنوات المتخصصة، وأنشأ قطاع البث الفضائى وإذا كان الدكتور محمد عبدالقادر حاتم هو المؤسس لتليفزيون مصر مع المهندس المبدع صلاح عامر، فإن محمد صفوت الشريف هو الذى جعل من تليفزيون جمهورية مصر العربية رائداً فى مجالات كثيرة. كان صفوت الشريف ومازال منفتحاً ومتابعاً لكل جديد. مازال حريصاً على متابعة كل معطيات وإنجازات تكنولوجيا الفضاء.. مازال هو الرائد فى بداية المشروعات الكبيرة التى بنت للتليفزيون المصرى بنية أساسية ليس على مستوى القنوات الأرضية فقط ولكن على مستوى ثورة الاتصالات وثورة المعلومات. وهو صاحب المقولة الشهيرة السماوات المفتوحة، وهو الرائد والخبير فى طرق المشروعات مهما كبرت برؤية مستقبلية أثبتت الأيام صحتها وضرورياتها لمتابعة مصر لمعطيات الثورة التكنولوجية فى الاتصالات. أسس البنية التحتية لمدينة الإنتاج الإعلامى، وأسس البنية التنكولوجية لشركة نايل سات، وأطلق لمصر القمر الاصطناعى نايل سات. وزير الإعلام السابق محمد صفوت الشريف قاد مسيرة الإعلام فى فترة عصيبة من فترات الحياة فى مصر، واستطاع بوصفه وزير الإعلام لجمهورية مصر العربية أن يقتحم الكثير من تحديات الإعلام وملاحقة التغيرات الإعلامية السريعة التطور حتى جعل مصر قدوة تقود الفضائيات العربية إن صفوت الشريف يعتبر المؤسس للنهضة الإعلامية فى مصر فى عهد الرئيس محمد حسنى مبارك ولن تنسى مصر أعياد الإعلاميين ومهرجانات التليفزيون التى تمت تحت منحى عربى خالص فجمعت وزراء الإعلام العرب فى منظومة إعلامية لم يسبقه إليها أحد. ولم ينس صفوت الشريف وهو ينجز النهضة التليفزيونية والنهضة الإعلامية تكريم الرواد فجعلهم يرأسون مهرجان التليفزيون فى كل عام. ولم ينس وهو يبنى النهضة إعادة البعثات التليفزيونية والإعلامية مع دول العالم فهو الذى أنشأ العلاقة الرائعة مع مؤسسة ألمانية فى ولاية بافاريا حيث كانت تستضيف الإعلاميين لتدريبهم وتسهم فى تطوير الإعلام محلياً وإقليمياً ودولياً. صفوت الشريف استكمل مسيرة البناء التى بدأها الدكتور حاتم وأسس البنية التحتية لتليفزيون مصر وجدد مبانيه ومعداته وأجهزته حتى أصبح بالفعل عملاقاً. والمطلوب اليوم ونحن نحتفل باليوبيل الذهبى أن نجعل من هذه الإنجازات خلية نحل تقدم الأعمال التليفزيونية للأمة العربية ولجميع الشعوب الإسلامية. فمصر الحضارة، ومصر الأزهر الشريف ومصر الكنيسة القبطية ومصر جامعة القاهرة وبقية جامعات الأقاليم، ومصر أكاديمية البحث العلمى، والمركز القومى للبحوث، ومراكز البحث الأخرى والجمعية الجغرافية والجمعية التاريخية والمجمع العلمى المصرى لديها من المقومات ما يجعلها أن تقود المنطقة إلى رحاب العالم الفسيح. وهذا بالطبع لن يحدث إلا إذا تخلصنا من الثوابت الجامدة التى لا تقدم ولا تؤخر ولا تضيف ولكنها قد تعوق التقدم. إننى أطالب فى هذا الاحتفال باليوبيل الذهبى بإعادة النظر فى التشكيلات التالية: أولاً: دفع الشباب لتولى القيادة فى التليفزيون، والاختيار يكون حسب الكفاءة وليس الثقة. ثانياً: إعادة تشكيل اتحاد الاذاعة والتليفزيون وإخراج جميع القيادات التى ثبت فشلها خلال توليها العمل فى التليفزيون أو الإذاعة. ثالثاً: الاهتمام بالقنوات الإقليمية بما يتيح الربط بينها وبين المحطة الرئيسية فى القاهرة حتى يمكن تسجيل الحدث وقت وقوعه فى ربوع مصر من سيناء إلى الساحل الشمالى ومن الإسكندرية حتى شلاتين. رابعاً: إطلاق القيود عن الفكر وإعطاء الرقابة فى التليفزيون مفهوماً جديداً حتى نستطيع أن ننافس ونتحدى الآخرين. خامساً: تدريب الكوادر ومعاودة إرسال البعثات إلى دول العالم المتقدم حتى نلحق بما فاتنا وما سيجئ من معطيات ثورة الإعلام وثورة التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات. تهنئة من القلب إلى معالى الوزير أنس الفقى وزير الإعلام، وإلى المهندس أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون ومسيرة التطوير اليوم فى التليفزيون والإذاعة. إن الطريق إلى اليوبيل الماسى بعد خمسة وعشرين سنة أى عام 2035 يحتاج إلى وضع استراتيجية إعلامية واضحة، وإلا فلتت الأمور وأصبحت الأمور «سداح مداح» كما هى اليوم ثورة الاتصالات وثورة المعلومات أمور جادة ولا يمكن تطويعها، وهى اليوم بين أيدينا شئنا أم أبينا. والأفضل أن نأخذ الأمور بأيدينا قبل أن ينفلت العيار وتعم الفوضى. وكل سنة وجميع من يعملون فى الإعلام بخير فالتحدى الذى ينتظرهم كبير وإذا لم يواجه بالجدية الكاملة والتامة تخلفنا وسبقنا الآخرون.