كتب - منى سراج شهقت ابنتي وهي تنظر إلي مجموعة صوري القديمة وأنا في الجامعة مع مجموعة من الزميلات والزملاء .. وسألتني بدهشة: - هل كنت ترتدين الميني جيب في الجامعة يا ماما؟! قلت لها وأنا أحاول دون جدوي أن أستعيد الصور: - نعم كنا نرتدي الميني جيب .. ونمارس الرياضة ونشترك في الحفلات الغنائية والمسرحية والرحلات ونركب المترو والأتوبيس النهري ولا تطاردنا التعليقات والمعاكسات المستفزة في الشوارع ولم نتعرض لأي نوع من أنواع التحرش! وترفض أن تعطي لي الصور .. وهي تسألني غير مصدقة: هي دي نفس الجامعة التي أتردد عليها ؟! ونفس البلد الذي نعيش فيه؟! وهزت رأسها وهي تكمل: مش معقول! أنا أعاني يوميا في الشارع وحتي داخل الحرم الجامعي من المعاكسات الوقحة رغم أنني أرتدي ملابس طويلة .. ولا أضع نقطة مكياج علي وجهي .. أما شعري فأجمعه خلف رأسي مثل جدتي! ويتدخل ابني الشاب في الحوار وهو يخطف بمرح الصور من يد أخته قائلا: - يا سلام دي الجامعة كان فيها بنات حلوة بتلبس آخر شياكة .. راحت فين البنات دي ؟! نحن لا نري إلا فريقين من الفتيات: الأول يرتدي مهرجانا من الملابس القبيحة وغير المتناسقة .. والفريق الآخر محجبات كارينا.. ! ويلمح علامات عدم الفهم علي وجهي فيكمل ضاحكا: ألا تعرفين حجاب كارينا الشهير .. إنها موضة المحجبات بالملابس الضيقة (الاسترتش) التي تلتصق بالجسم وتظهر تفاصيله بصورة منفرة بالإضافة طبعا إلي الحجاب متعدد الطبقات والألوان والمزين مثل شجرة الكريسماس! وتسألني ابنتي بحزن وهي تعيد إلي صوري: هو حصل إيه لمصر يا ماما ؟! لماذا تخلفنا إلي هذا الحد؟! قلت لها وأنا أعيد بحرص الصور إلي الألبوم القديم: - لم نتخلف .. ولكن الظروف تغيرت .. نحن كنا جيل السبعينيات .. عاصرنا نكسة 76 وتأثرنا بثورة الشباب العالمية التي انطلقت من فرنسا في البداية، احتجاجا علي نظم التعليم والمناهج العقيمة ثم امتدت لتشمل كل أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية .. وبسرعة مذهلة، اكتسحت أوروبا والعالم ونشطت حركة الشباب ضد الحرب .. وانتعشت ظاهرة أبناء الطبيعة أو الهيبز وتغير شكل الموسيقي والغناء والملابس. وبالطبع تأثرنا، فقد كان الوطن مهموما بحرب الاستنزاف علي الجبهة والاستعداد للحرب القادمة، وكنا نناقش مشاكلنا الاجتماعية بكل حرية ونتعرض للقضايا الدينية بانفتاح دون أن نتهم بالإلحاد أو الكفر. ولأن كل فعل له رد فعل يوازيه في القوة والاندفاع، بدأت تظهر التيارات المحافظة في كل مكان .. وانتهت ثورة الشباب ولم يتبق منها إلا القليل وبعض القشور .. وبدأ الحجاب ينتشر في الشارع بعد هجرة الريف إلي المدينة .. وعودة العاملين في الخليج ثم تسرب إلي الجامعة والإعلام .. وأصبحنا نناقش في وسائل الاعلام قضايا غريبة علينا: هل نرتدي الحجاب أم النقاب ؟! .. صوت المرأة عورة ولا مكروه .. هل مصافحة المرأة للرجل تنقض الوضوء ؟! وهل تناول الطعام باليد الشمال حرام ولا حلال ؟! وتقاطعني ابنتي ثائرة: أنت تؤكدين كلامي .. إحنا فعلا بنتراجع!! وأكمل: قد يتصور البعض أننا نتخلف ونتقهقر إلي الوراء، ولكن هذه نظرة محدودة .. فالتقدم هو القانون الحتمي للحضارة .. وعلي الرغم من وجود فترات من التوقف ومن الانتكاسات المؤقتة، فهناك شيء في طبيعة العالم وطبيعة الإنسان تجعل عجلة التطور تسير دائما إلي الأمام .. انظري حولك إنكم تعيشون في أوج ثورة تكنولوجية ومعلوماتية رائعة لم نعرفها .. أنتم أفضل منا، لقد أصبح العالم كله بين أيديكم . وتنظر إلي ابنتي بتعجب .. فأكمل بثقة وأنا أضع يدي علي كتفها الصغير: - حجاب .. أو بدون حجاب .. حرية شخصية واختيار وليست قضية .. ويجب أن تظل في هذه الحدود ولا تتحول إلي مؤشر للتقدم أو التخلف .. أو التدين وعدم التدين .. فالدين لله .. والوطن للجميع .. ولكن سواء كانت محجبة أو غير محجبة يجب علي البنت المصرية أن تحافظ علي الحقوق التي حصلت عليها نتيجة تضحية نساء أخريات علي مدي سنوات طويلة من تاريخ مصر. محجبة أو غير محجبة .. عليها ألا تتنازل عن موقعها في المجتمع ودورها كشريك في القرار علي مستوي الأسرة والدولة. محجبة أو غير محجبة .. عليها ألا تسمح لأحد أن يلعب بدماغها وأن تحطم القيود والأفكار السلبية التي تشل عقلها وتستنزف طاقاتها وتنقص من حقها في الاحترام والحصول علي السعادة التي تستحقها. محجبة أو غير محجبة .. عليها أن تفتح عقلها وقلبها للحياة ولا تخاف لأنها تملك الغد. وتذكري يا ابنتي دائما أننا نصبح ما نفكر فيه .. وأن الطريقة التي أري بها العالم .. تصنع العالم الذي أراه.