لاقت مجموعة قصصه الجديدة "لم أعرف أن الطواويس تطير" حفاوة بالغة فى الأوساط الأدبية، لأن بهاء طاهر يعود إلى عالم القصة القصيرة بعد فراق دام أحد عشر عاما! وكان بهاء طاهر قد حصل على جائزة البوكر العربية وهى الجائزة العالمية للرواية كما حصل على جائزة الدولة التقديرية ثم على جائزة مبارك هذا العام. أصعب الفنون وأجملها! سألته: ما سر هجرك للقصة القصيرة ولماذا عدت إليها؟! فقال باسما: لست كاتباً غزير الإنتاج، ولا أكتب إلا عندما تواتينى رغبة ملحة فى الكتابة، ولا أستطيع أن أكتب بناء على قرار أو تخطيط مسبق، وعندما تطول فترة الانقطاع عن الكتابة أشعر بحزن شديد ولكنى لا أستطيع أن أفعل شيئاً، وأعتقد أن القصة القصيرة هى أجمل وأصعب الفنون جميعاً، وهناك رابطة بينها وبين الشعر ففيها التكثيف الشديد والشحنة الوجدانية التى لابد أن تقيم علاقة بين القارئ والعمل الفنى، وليس لدى علم بمن يستطيع أن يكتب شعراً بلا انقطاع أو قصة بلا توقف، ربما هناك استثناءات قليلة، عبقريات نادرة مثل أنطون تشيكوف، وهمنجواى، ويوسف إدريس ، والكاتب الإيطالى دينو بوتذاتى، وهؤلاء لا يقاس عليهم فنحن لا نقيس على شكسبير فى المسرح، ولا على ديستويفسكى فى الرواية ولا على المتنبى فى الشعر. الثقافة و"برو" العتب! قلت: علاقتك بالشعر قوية فى كتاباتك وحياتك اليومية وقلت لى أن العديد من المثقفين الكبار قد تساءلوا عن بيت شعر ورد فى قصتك "الطواويس".. فهل انقطعت علاقة المثقفين بالشعر؟! قال: بكل أسف وبكل ألم أقول لك.. نعم انقطعت علاقة المثقفين بالشعر، بل وانقطعت علاقة الشعراء بالشعر وهذا يرجع فى الأساس إلى نظام التعليم الذى لا يعتنى بمنهج دراسة اللغة العربية، اللغة هى الأساس فى كتابة وتذوق الشعر فكيف لقارئ أن يتذوق قصيدة للمتنبى أو حتى قصيدة لصلاح عبدالصبور وهو لا يتقن اللغة العربية؟!، لقد نشأنا ونحن نسمع فى الإذاعة أمسيات ثقافية يحاضر فيها عباس العقاد وغيره من عمالقة الأدب والثقافة، ولكن هذا النوع من البرامج الثقافية اندثر، وما نسمعه أو نراه الآن من برامج ثقافية هو من قبيل "برو العتب"! مثقفون كبار سألونى: ماذا تعنى "أشباه عوادينا" فى قصتى "الطواويس" ولم يعرفوا أن المقولة اقتباس من أحمد شوقى، لقد أصابتنى الدهشة فكبار شعراء العامية الكبار مثل عبدالرحمن الأبنودى، وصلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب كتبوا الشعر بالفصحى أولاً وكانت إجادتهم للغة العربية شديدة الإتقان. سألته: حقاً؟!.. كتبوا الشعر بالفصحى أولاً قبل أن يكتبوا أشعارهم بالعامية؟ رمقنى باسماً: ألم أقل لك ذلك؟! بادلته الابتسام: بلى.. ولكنى أريد أن يطمئن قلبى! فقال: سنتأكد من ذلك.. أجرى اتصالاً بالهاتف الجوال ليأتينا صوت الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى من الإسماعيلية حيث يقيم الآن فقلنا للزين: سلامات.. وقال الأبنودى مؤكداً: "نعم كتبنا الشعر بالفصحى قبل أن نكتب بالعامية". هل هو ازدهار روائى؟! عدنا إلى الحوار فقلت: ترى دائماً أن الفنون تزدهر معا وتتدهور معاً فكيف تزدهر الرواية مثلاً الآن بينما تعانى القصة القصيرة من قلة عناية الناشرين، وهل الرواية فى ازدهار حقيقى؟ قال: إذا نهض فن من الفنون، فإنه يجذب معه الفنون الأخرى، فالمسرح فى الستينيات كان عنصراً أساسياً فى ازدهار الشعر، لا يمكن أن ينفرد فن واحد وبقية الفنون منكسرة، أما مسألة الازدهار الروائى، فإن التاريخ النقدى سيتولى الإجابة عن هذا السؤال. لقاء الشرق والغرب! قلت: فى مجموعتك الجديدة "الطواويس" تؤكد لقاء الإنسان الشرقى بالغربى فى كل لحظة: الجارة الفرنسية التى أمنت لجارها المصرى وزوجته الفرنسية، روح إنسانية تسرى فى المجموعة ككل تنفى أى صراع بين الشرق والغرب فما المشكلة إذن؟ قال: لم أتحدث أبداً عن صراع بين الشرق والغرب من زاوية الجانب الإنسانى، فالحزن الشرقى لا يختلف عن الحزن الغربى ولا الفرح طبعاً، أما العنصرية فهى موجودة بشكل واضح جداً فى الغرب وهى غطاء لتبرير الهيمنة والاستعمار، وفى الشرق أيضاً هناك الكثير من العنصرية والتعصب، لم أكن أتحدث من منظور كبلنج "أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"، بل كنت أبحث عن عناصر التشابه بين الشرق والغرب، عندما كتبت "بالأمس حلمت بك"، كتب الناقد محمد محمود عبدالرازق يقول: "فى هذه القصة إذا كانت الغربية "آن مارى" قد انتحرت، فإن الراوى الشرقى ينتظر".. وهذه حقيقة، ليس الأمر من زاوية الجانب الإنسانى ولكن هناك علاقات الاستعمار والقوة والهيمنة، فإذا كان الغربى أقوى يفرض هيمنته على الشرق والعكس صحيح. قلت: ولكنك أشرت فى كتابك "أبناء رفاعة" فى مقالة بعنوان لماذا يكرهنا الغرب؟ أن لا شىء استطاع أن يقتلع العنصرية وقلت عن ديستويفسكى: "إن الغربى يفهم الاخوة باعتبارها قوة كبيرة محركة للإنسانية دون أن يخطر بباله أنه لا يستطيع أخذها من أى مكان إذا هى لم توجد فى الواقع"، وأن أساس الحضارة الغربية هو الفردية مقابل الطبيعة والمجتمع كله، ولا يمكن أن تنشأ الأخوة من تعارض كهذا!". قال: حتى الاشتراكية فى أوروبا حين طبقت بعد موت ديستويفسكى بعشرات السنين لم تفلح فى اقتلاع العنصرية، ولكن كل عربى أو أفريقى عاش فترة تسمح له بتكوين الرأى قد يلاحظ تلك العنصرية على مستوى العلاقات اليومية، ولكن لكى لا نكون متشائمين فلنقل أن الصورة ليست بهذه القتامة، فهناك فى كل البلاد الأوروبية جماعات وأحزاب معارضة للعنصرية تدافع عن حقوق العالم الثالث، وإذا جاز تقدير نسبة هؤلاء بعدد أعضاء الأحزاب التى ترفع شعار العنصرية فسوف أقدرهم مع كثير من التسامح بنسبة تتراوح بين 01 أو 02٪ فى بلدان الغرب، ومادام صوت تلك الجماعات خافتاً وضعيفاً إلى هذا الحد فإن الواجب يفرض علينا أن نكون نحن الفاعلين؟! لحم الأرنب! خايلتنى عبارة ديستويفسكى التى وردت فى مقالة بهاء طاهر: "لماذا يكرهنا الغرب؟" ، والتى يقول فيها ديستويفسكى: "من أجل أن تطبخ طبخة بلحم الأرنب فلابد أولاً من أرنب، ولكن الأرنب غير موجود، أى لا وجود لطبيعة مؤهلة للأخوة!". فعدت أقول: وماذا نفعل إذن؟! قال: أن نحارب العنصرية الغربية بمضامينها السياسية والاقتصادية التى تؤثر علينا ولا يعنى ذلك بحال من الأحوال أن ندير ظهورنا للغرب، أو أن نقاطعه فنحن- أعنى العالم الثالث كله- الذى يتحتم عليه أن يعيش فى مواجهة وتعارض مع الغرب لا نستطيع أن نغلق الباب دونه، وإلا كنا نحن الخاسرين، أقصد بذلك على وجه التحديد حضارة الغرب وعلمه، حتم علينا أن نعيش هذه المعادلة المتناقضة من المواجهة والاتصال إن كنا نريد أن نتقدم بالفعل، وعلى سبيل المثال اليابان والصين عرف كل من البلدين على طريقته كيف يجابه الغرب وكيف يأخذ منه، وحين وجد طريق خلاصه فقد شفى الغرب من عنصريته وحين نعرف نحن كيف نحقق تلك المعادلة على طريقتنا فسنشفى أنفسنا والغرب معاً. ما حدث فى انتخابات اليونسكو: قلت: ولكن الغرب يخاف أن نفترسه من خلال الهجرات الشرعية وغير الشرعية، ونحن نشعر أنه متفوق علينا وننظر له على أنه مستعمر- ذكرت لى ذلك فى حديث سابق- فهل تعتقد دائماً فى نظرية المؤامرة، وهل ما حدث فى انتخابات اليونسكو مصداق لهذا أم لديك تفسيرات أخرى؟ قال: ما حدث لم يكن مفاجئاً، السياسة الدولية فيها جانب كبير من التآمر، ومن لم يؤمن بنظرية المؤامرة فى التاريخ يكون هو نفسه متآمراً كما يقول أستاذى د. شكرى عياد، فلقد عملت مترجماً فى اليونسكو، لم تكن لى صلة بالسياسة التنفيذية، ولكنى كنت أراقب عن كثب ما يدور، عاصرت هناك تجربة مريرة فقد وقفت أمريكا من قبل ضد المثقف السنغالى د. أحمد مختار إمبو الذى انتخب مديراً عاماً لليونسكو عام 4791، وقد انتخب فترتين من عام 4791- 7891، ووصلت أمريكا إلى حد الانسحاب من المنظمة وإلغاء اشتراكها الذى كان يمثل ربع ميزانية المنظمة عقاباً له ولمنظمة اليونسكو التى تصدت وقتها لمحاولات تهويد القدس من الجانب الأثرى، وكان أحمد مختار إمبو قد تبنى هذه القضية وساندته بعض الدول العربية بتعويض الفرق الناتج عن سحب ميزانية أمريكا من اليونسكو- ولم يكن التردى العربى قد وصل إلى ما نحن عليه الآن، وقد انسحبت أمريكا عدة سنوات عقاباً له وللمنظمة. وأضاف: "عندما يكون هناك شخص صاحب قضية أو مؤمن بها يحارب حتى النهاية من أجل قضيته، مهما كانت قوة الخصم الذى يواجهه ويستطيع أن يكسب متى ما أحسن قراءة الواقع المحيط به". ثم عاد يقول: "بالتأكيد هناك تكتل مصالح كبير فى المنظمات الدولية، وإذا نظرنا على سبيل المثال لمنظمة الأونكتاد وهى منظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية تضم الدول النامية التى تدافع عن مصالحها فى إقامة توازن فى التجارة العالمية يحمى مصالح الدول الفقيرة، ظلت الدول الرأسمالية ودول الغرب تشن حملات متوالية على هذه المنظمة حتى أفقدتها أى دور إيجابى لاسيما بعد سقوط الاتحاد السوفيتى الذى كان يحقق نوعاً من التوازن فى العلاقات الدولية". صدام الحضارات تصور شرير: سألته: ومارأيك بما يقال عن صدام الحضارات؟! قال: صدام الحضارات تصور شرير للعلاقات الدولية أنا مؤمن أشد الإيمان بما قاله طه حسين فى كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر": "أن أعظم لحظات التاريخ البشرى هى التى تم فيها تزاوج الحضارة وعلى سبيل المثال "بغدادالقرن الرابع الهجرى"، والإسكندرية فى القرن الأول قبل الميلاد عندما كان هناك تزاوج والتقاء بين الحضارات فى حينها. قلت: ولكنك تؤكد فى كتابك "أبناء رفاعة" أن طه حسين قال بدون تردد: أن الحضارة التى تلائم الحياة الحديثة شىء كامل لا يمكن أن يؤخذ بعضه ويترك بعضه الآخر، وإنما يؤخذ كله أو يُترك.. فما الذى نأخذه كله؟! قال: إن متابعة فكر طه حسين كفيلة بأن تزيل أى شك فى حقيقة ما يعنيه فما ينبغى "أن يؤخذ كله" هو بطبيعة الحال: الثوابت الأوروبية الحديثة والتى يوجزها طه حسين عندما يقول: "حرية داخلية قوامها النظام الديمقراطى، وحرية خارجية قوامها الاستقلال الصحيح ووسائل ذلك هى التى مكنت للأوطان الأوروبية أن تكون حرة فى داخلها ومستقلة فى خارجها" ذلك هو الجوهر الذى يبقى من صورة الغرب، وأما النقائص فهى الزبد، لم يكن طه حسين يريد انتقاء العناصر الصالحة من الشرق والغرب لتحقيق الزواج السعيد فيما بينها، فذلك جهد مشكور ولكنه لا يفيد، إن ما كان يسعى إليه حقيقة هو "تصحيح" مسار الشرق والغرب معاً، وأنه من أجل ذلك يطرح علينا "الثقافة الإنسانية" كمنهج وطريق. قلت: تعكس أعمالك الأدبية إحساساً عميقاً بالغربة، غربة الإنسان وغربة ما حوله من طير وكائنات وخاصة فى مجموعتك القصصية الجديدة، فهل هو حصاد تجربتك فى المهجر أم أن هناك وجهاً إيجابياً فى هذه التجربة؟ عن الحب والغربة قال: لا أستطيع أن أستقصى أثر الغربة فى كتاباتى، تجربتى فى الغربة كان فيها من الإيجابيات الشىء الكثير، وأيضاً هناك السلبيات الكثيرة، لا أستطيع أن أجرى موازنة بين السلبيات والإيجابيات، ولكن انقطاع الكاتب عن مجتمعه كانتزاع الزرع من أرضه، فأنا لا أعرف مثلاً كيف يحب الناس؟!، زمان كان الرجل يحب وبينه وبين حبيبته عشرة أمتار، يأكلان الذرة المشوى وهما يسيران على كورنيش النيل، لا أستطيع أن أكتب عن حب الآن، لأننى لا أستطيع أن أكتب عما لا أعرف، دائماً أرجع فى كتاباتى إلى الستينيات والسبعينيات، بل ألجأ كثيراً إلى التاريخ وأتجاهل الحاضر لأننى لا أعرف عن قرب هذا الحاضر، لا صورة الحب ولا صورة الصداقة ولا حتى صورة العداوة، كثيرون ينتقدوننى لذلك وهم محقون. وأظن أن التطورات الاجتماعية والاقتصادية والانفتاحية غيرت سلوك الناس والعلاقات مع الأصدقاء والأقرباء، وأعود فأقول أن انتزاع نبتة من تربتها ووضعها فى تربة غريبة نادراً ما تصح الزرعة! قلت: ولكن ما زرعته فى الغربة كان مثمراً دائما: "الحب فى المنفى"، وطواويس تطير وقصص تعارض قصائد من عيون الشعر العربى. قال: بالطبع كانت لدى تجارب أكثر واتصال بمجتمع وناس، وحياة مختلفة ولكن الثمن كان باهظاً. تركت بهاء طاهر يفكر فى قصة يود أن يكتبها منذ عشرين عاما! كمال قال لى عن عصفور زينة كان له فأطلق سراحه، وبات يجاذبه وقد عَلقَ الجناح.