الدكتور مصطفى سويف، العالم الجليل فى علم النفس والاجتماع- 85 عاماً- ذكرنا هذا الشهر، فى آخر كتبه «من بعيد ومن قريب»، الذى صدر عن دار الهلال»، بما كتبه منذ عشر سنوات، عن نتائج بحث ميدانى كبير، أجراه المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، عن السلوكيات الضارة والمستهجنة، التى تصدر عن شريحة معينة من الشباب فى المدارس الثانوية والجامعات من البنين. ونتائج ذلك البحث، تمس مجالات الحياة الدراسية لهؤلاء الطلاب، والحياة العائلية، والحياة الاجتماعية العامة. والنتائج تقول بالنسبة لجانب الدراسة: اعترف 1,55 % منهم بأنهم يغشون فى الامتحانات، وحوالى 28 % بأنهم يطردون من حجرة الدراسة جزاءً على سلوكهم، و18 % بالشجار مع المدرسين، و7 % بأنهم ضربوا أو يضربون بعض مدرسيهم، وذكر 5 % أنهم وصلوا أحياناً إلى حد الفصل من المدرسة لكثرة الغياب أو التزويغ، واعترف 43% بأنهم يضربون زملاءهم أحياناً. أما فى محيط الأسرة فقد اعترف 16 % بالعراك مع الأب والأم، و37 % بأن مشاجراتهم مع أخوتهم تصل إلى حد ضرب هؤلاء الأخوة، وأقر 28% منهم بأن نوبات غضبهم فى البيت، تصل بهم أحيانا إلى تحطيم أشياء قيمة، وذكر 42 % أنهم يتشاجرون مع الجيران أحياناً، وقال 11 % أنهم هربوا من بيوتهم فى بعض الأحيان، واعترف 3 % أنهم سرقوا أشياء من بيوتهم. وقريب من هذا، سلوكياتهم فى الحياة الاجتماعية العامة. ونكتشف ونحن نتذكر ما كتبه منذ عشر سنوات، أنه ذكرنا آنذاك، بما كتبه عن بحث مشابه قبل ست سنوات. والبحث الأقدم توصل إلى نفس النتائج، وإن كانت مستويات الخلل قد ازدادت كما وكيفا، فى المبحث الثانى. والدكتور سويف- مد الله فى عمره- يقوم بواجبه كأستاذ جامعى، منذ نذر نفسه لهذه الرسالة، على أرفع وأكفأ ما يكون أداء الواجب، وإلى جانبه، لا يتوانى عن أداء واجبه كمواطن، يعرف مسئوليته نحو القضايا العامة. وهو يؤدى المسئولية هنا وهناك، بنفس الدرجة من الصدق والجدية والانضباط والمثابرة. والمقالات التى كان يخرج بها علينا فى مجلة الهلال الشهرية، منذ ما يقرب من عشرين عاماً، ليست مجرد مقالات، ولكنها دقات على طبلة، للإيقاظ والحفز والتنبيه، لتلافى كوارث لا يقدر أحد مداها. وهو فى كل مرة، يحدد المشكلة، ويعود إلى جذورها، ويقترح الحلول، ويعتمد على منهج علمى دقيق، ويضع تصوراً للمواجهة العاجلة، والخطة الآجلة. وحين يختم مقاله حول سلوكيات الشباب يقول: «هذه الصورة تحتاج منا إلى إعادة النظر فى كل ما يتعلق بالسياسة التعليمية، على كل المستويات، على أن تشمل المراجعة، كل العناصر الداخلة فى عملية التعليم وما شابها فى العقود الأخيرة من شوائب، وفى كل ما يتعلق بالسياسة الإعلامية جملة وتفصيلا، ولا يجوز أن يستمر الاعتماد فى الصورة التى نحن بصددها على الحلول العاجلة وحدها، بل لابد من وضع الخطط والتدابير البعيدة المدى، وهو ما قلناه من قبل ونعود إلى التذكرة به». هل أكرر معه، أنه قال هذا الكلام منذ عشرة أعوام، وقبل عشرة أعوام، ومع كل عام يستفحل البلاء. وقد توقفت عند مقال واحد من مقالات الكتاب، وكل منها يثير التأمل، ويدفع إلى التفكير، ويشحذ الهمة للإسهام فى الإصلاح، إذا التقت الإرادات. من حسن حظنا أن هناك فريقاً فى النخبة، من أجيال مختلفة، تشغله قضية التعليم، وما آل إليه، وكيف يمكن إصلاحه، وأين تكون البداية. والمدهش أن أقواهم أثراً، ذلك البعض الذين تدور أعمارهم حول الثمانين، وهم يتابعون ويتأملون ويقترحون بدرجة من وضوح الرؤية وصفاء الفكر وصواب الإدراك وسلامة التقدير، تثير الإعجاب والاحترام. فلنستمع إلى وصية رجل، يزن كلامه، وينبأ عن علم، ويحب وطنه بالمعنى الحقيقى للحب. سليمان فياض «أيام مجاور» عنوان آخر ما أبدعه قلم الكاتب القدير سليمان فياض «81 عاماً». ولابد أن سليمان فياض، يتوفر على ما يكتبه، وينقطع له، ويعيد تنقيحه، فلا يمكن أن يأتى، بهذا القدر من الاستواء والنضارة، دون تنقيح ومراجعة حتى تبدو لقارئ- مثلها- كأن يستطيع أن يكتب قبلها، على حد تعبير الناقد العربى القديم فى وصف الأدب الجيد. وهو يكتب عن السنوات التى عاشها طالباً فى معهد الزقازيق الدينى، من 1942 إلى 1948. وإذا كانت المعاهد الدينية اليوم بالعشرات أو أكثر، فقد كان عددها آنذاك فى مصر كلها أربعة معاهد. والكتاب، بالشخصيات التى رسم صورها، وأسلوب التدريس الذى عرض له، والزملاء الذين عاش معهم وشاركهم الفصل والمسكن والطعام والمظاهرات والحشيش والأحاديث حول النساء والمشاجرات، والأسر التى كانت تعقد آمالها على نجاح الأبناء وصعودهم فى سلك التعليم، إنما يقدم جانباً من المجتمع المصرى فى أربعينيات القرن العشرين، بل إن صورة هذا الجانب قد تنسحب على معظم سنوات القرن العشرين. وقد كتب الكثير عن الازدواجية بين التعليم الدينى والمدنى، والصراع بينهما حول تشييد مستقبل مصر، ولكن ما أجمل العرض الذى يشيع فى كل الكتاب حول هذه المشكلة. من بين محاور هذا الصراع كان اللباس الأزهرى، والمنافسة بين البدلة والكاكولة، والعمة والطربوش. كان اللباس الأزهرى، وبالذات العمة، مشكلة عند بعض شباب الأزهريين، ليس فقط لأنها تشكل قيداً عليهم، وتلزمهم بسلوك متحفظ وملتزم، ولكن لأن بعضهم كانوا يفضلون اختيار طريق التعليم المدنى، حيث طلبة المدارس أكثر تحرراً وانطلاقاً وأرحب مستقبلاً. وكانت مشكلة عند سليمان منذ اللحظة الأولى، التى لبسها، فى طريقه لمعهد الزقازيق، والعيال وراءه يهتفون «شيل العمة شيل تحت العمة فيل». كان أحد همومه الدائمة كيف يتحرر منها، بل كان يدفع جزءا من جرايته لبواب المعهد، ليحتفظ بها عنده، فى الأوقات التى يستطيع فيها التحرر من هذا القيد. حتى الدكتور أحمد الشرباصى- الذى لمع اسمه فيما بعد- وكان أستاذاً بمعهد الزقازيق آنذاك، فوجئ به سليمان، وهو يلبس القميص والبنطلون، تحت العمة والكاكولة، والتى يخلعها مع نهاية الدرس، ويخرج أفندياً، يحمل الكاكولة على يده، كأنها بالطو. وتتابع معه كفاح أسرته البطولى، من أجل تعليم الأبناء، كفاحاً يتجلى كقسمة أساسية من قسمات الطبقة المتوسطة، بكل شرائحها، والتى رأت فى التعليم سلماً يصعد عليه الأبناء إلى حال أفضل من حال الآباء. إن عبدالمعطى والد الكاتب الفاضل، الذى ينجح فى تعليم خمسة أبناء، ولدان وثلاث بنات، وربما أكثر فيما بعد بها أنه أول من فتح طريق لتعليم البنت فى قريته التابعة للسنبلاوين، أنه يستحق كل تقدير وإجلال، وهو يقوم بهذه الرسالة، ومرتبه أربعة جنيهات، ولا عجب أن اليوم الذى باع فيه بيته فى القرية، مواجهة مصاريف التعليم، كان يوماً ثقيلاً على سليمان، وينجح الكاتب أن ينقل شحنة الحزن والتأثر والإشفاق إلى روح القارئ رغم مرور عشرات السنوات. لقد حملتنى ذكريات الكاتب المصفاة، والمختارة بدقة وقصد طيب، إلى قريتنا فى أقصى الصعيد، فاللوحة البالغة الدقة التى رسمها المؤلف لوالده، وهو يلف عمامته على ركبته، بدقة واستغراق وقلوظة، أضاءت صورة والدى فى نفس الوضع والاهتمام، فى نفس المرحلة تقريباً. وقد كان أسلوب الحفظ والتلقين، الذى درج عليه الأزهر، موضع نقد كبار المصلحين، وفى مقدمتهم الشيخ محمد عبده، ويأتى كتاب الأيام لطه حسين، علامة على هذه المعركة، ويتضم كتاب سليمان إلى هذا الرَتل المتميز والثائر من الأزهريين. ومن طرائف الكتاب- وما أكثر طرائفه- وقع كلمة مشايخ على أذنه، عندما خاطبهم بها الأستاذ، فى أول حصة بالمعهد، حيث ضحك فى سره، فقد أصبح شيخاً باعتراف أساتذته، وهو دون الرابعة عشرة ولكنه تساءل بعد وقت، أن شيخ جمعها شيوخ، فما هو مفرد كلمة مشايخ، وسأل زملاءه الأكبر سناً، فاحتاروا جميعاً، ولكن واحداً تطوع بالاجتهاد. وإذا كنت مهتماً بهذه المفصلة فابحث عن الكتاب وتجد الإجابة. المخرج أحمد عبدالجليل الحفل الختامى لمهرجان فرق الأقاليم الخامس والثلاثين، الذى تنظمه هيئة قصور الثقافة، أقيم هذا الأسبوع، على مسرح قصر ثقافة الفيوم، وذلك بعد ثمانية أيام فى العروض المسرحية، للفرق القومية بالمحافظات، التى أمكن لها المشاركة فى المهرجان «تسعة عروض». وكان هذا المهرجان قد توقف طوال السنوات الست الماضية. وها هو يعود هذا العام، بعد هذا الغياب الطويل. ونخبة العاصمة، لم تعد تتابع النشاط الفنى فى الأقاليم، ربما لثغرات أضعفت أثره، وتكرار أطفأ تميزه. ولكن الفنانين الذين صنعوا الكيان الفنى فى المحافظات، لم يتخلوا عن عالمه، ويحاولون بكل طاقتهم المحافظة على شعلته مضيئة، بل ومضاعفة نورها، والتشبث بطموح الإبداع، يلفت أنظار مشاهدين، أبعد من حدود محافظاتهم. والمفروض أن هذه الفرق لا تعمل لمجرد العرض فى المهرجان. ولكنهم يبدعون لأهليهم، وجمهورهم هو الذى يحكم على مدى صدق وتأثير ونجاح أعمالهم. ولكن المهرجان فرصة للتعارف والتقييم. وقد أسفت لعدم حضورى أيام المهرجان الثمانية، ولكن الليلة الختامية نجحت فى تقديم صورة عن فرق المحافظة وأبطالها. فلولا هؤلاء المخلصين لفن المسرح والحريصين على استمراره، لما قامت هذه الفرق، وقدمت أفكارها وأعمالها. وقد حرص عصام السيد- المخرج المعروف ورئيس الإدارة المسرحية بقصور الثقافة- فى كلمته أن ينوه بسدته هذا المسرح، الذين يبذلون الوقت والجهد، لتنفيذ عرض، ربما لا يتاح له التقديم لأكثر من ليلة واحدة. وذكر أسماء كثيرة، تنقطع لهذا المجال، لم ألتقط منها غير محمد الشربينى ومحمود حامد وسميحة. والذين تحدثوا جميعاً، لم ينكروا ما يسم هذه الفرق من ضعف وأخطاء، بما فيهم رئيس الهيئة الدكتور أحمد مجاهد، الذى اعترف بمظاهر الضعف، ولكنه توقف عن منجزات لا يمكن إنكارها، منها حصول إحدى فرقه هذا العام، على المركز الأول فى المؤتمر القومى للمسرح. وقد أرجع عصام السيد، ما وصفه بتدنى المستوى، إلى التوقف عن العمل، هذه السنوات الست (حاولت أن أفهم سبب التوقف فلم يدلنى أحد على جواب مقنع). وأفاض فى تحليل مظاهر التدنى وأسبابه، حسين عبدالقادر رئيس لجنة التحكيم. أفاض فيها بروح من يحس بإمكان تلافيها، وبالاقتناع بما تملكه من إمكانيات. وقد لمس تقرير لجنة التحكيم أهم عيوب هذه الفرق وأجملها فى تسلل ثقل الاحتراف، ونمطية التمثيل، والافتقار إلى التكامل فى أداء العملية المسرحية. ثم قدم عدداً من التوصيات، يمكن أن ترفع هذه الفرق إلى أعلى مكان. ومثل هذا المهرجان دفع لحيوية ثقافية فى محافظات مصر، ومحافظة على نبع قادر على مد الجسم الثقافى بأسباب النهوض. ولقد فاز بالمركز الأول فى أفضل عرض «أوبريت شهرزاد» والإخراج أحمد عبدالجليل عن عرض شهرزاد، والممثل رجال مناصفة بين مصطفى إبراهيم ومحمد بهجت ونساء مناصفة بين كاميليا ونادية صلاح والديكور عبدالمنعم مبارك والألحان محمد شمس والأشعار أحمد الصعيدى. ولم أشاهد العرض الفائز. ولكن النقاد المتابعين لهذا المسرح- محمد زعيمة ومحمود كحيلة ومحمد عبدالقادر، يشيدون بالعرض، ويقول زعيمه عنه، فى نشرة المهرجان: «ساهم فى تقديم هذه المتعة، قدرة الأبطال جميعاً، بدءاً من كاميليا فى دور شهرزاد، بما تملكه من صوت شجى عذب، مناسب لشهرزاد، إضافة إلى قدراتها التمثيلية، التى لا تقل عن قدراتها كمطربة، وأيضاً محمد السويسى فى دور «زعبلة» بموهبته وقدرته على تقديم الشخصية بحس صادق». «ومحمد عبدالقادر برى» وأخص منهم الممثل حسام يحيى، هذا الشاب موهبته بحاجة إلى التوظيف، فهو يملك خفة دم وحضورا وكذلك أحيى المطربة كاميليا». وإلى اللقاء فى المهرجان السادس والثلاثين.