مشوار الألف ميل    نائب محافظ قنا يتفقد قوافل "بداية جديدة لبناء الإنسان" بقرية حاجر خزام    بلقاء ممثلي الكنائس الأرثوذكسية في العالم.. البابا تواضروس راعي الوحدة والاتحاد بين الكنائس    تقدير دولى لمنتدى شباب العالم ..المشاركة فى «قمة نيويورك».. ومصر تستعد لحدث أممى كبير    بيكو للأجهزة المنزلية تفتتح المجمع الصناعي الأول في مصر باستثمارات 110 ملايين دولار    الرئيس و «أولادنا»    مكلمة مجلس الأمن !    هاريس تعلن قبول دعوة "سي إن إن" للمناظرة الثانية في 23 أكتوبر المقبل    عبدالرحيم علي ينعى الشاعر أشرف أمين    اعتزال أحمد فتحي| رحلة 23 عامًا زينتها الإنجازات وخطوة غيّرت حياته    استدعاء الفنان محمد رمضان ونجله للتحقيق بتهمة التعدي على طفل    السجن 6 أشهر لعامل هتك عرض طالبة في الوايلي    أمطار ورياح أول أيام الخريف.. الأرصاد تُعلن حالة الطقس غدًا الأحد 22 سبتمبر 2024    بدء حفل إعلان جوائز مهرجان مسرح الهواة في دورته ال 20    سبب وفاة نجل المطرب إسماعيل الليثي (تفاصيل)    لواء إسرائيلي: استبدال نتنياهو وجالانت وهاليفي ينقذ تل أبيب من مأزق غزة    استشاري تغذية: نقص فيتامين "د" يُؤدي إلى ضعف المناعة    انطلاق ثانى مراحل حملة مشوار الألف الذهبية للصحة الإنجابية بالبحيرة غدا    تنظيم فعاليات مبادرة "بداية جديدة لبناء الإنسان" بمدارس بني سويف    لافروف: الديمقراطية على الطريقة الأمريكية هي اختراع خاص بالأمريكيين    السيطرة على حريق بمزارع النخيل في الوادي الجديد    مصرع طفل غرقا بترعة ونقله لمشرحة مستشفى دكرنس فى الدقهلية    توتنهام يتخطى برينتفورد بثلاثية.. وأستون فيلا يعبر وولفرهامبتون بالبريميرليج    إيطاليا تعلن حالة الطوارئ في منطقتين بسبب الفيضانات    رئيس هيئة السكة الحديد يتفقد سير العمل بالمجمع التكنولوجي للتعليم والتدريب    حشرة قلبت حياتي.. تامر شلتوت يكشف سر وعكته الصحية| خاص    فتح باب التقديم بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال الدينى    مرموش يقود هجوم فرانكفورت لمواجهة مونشنجلادباخ بالدوري الألماني    وكيل صحة شمال سيناء يتفقد مستشفى الشيخ زويد المركزى ووحدات الرعاية    أستاذ علم نفسم ل"صوت الأمة": المهمشين هم الأخطر في التأثر ب "الإلحاد" ويتأثرون بمواقع التواصل الاجتماعي.. ويوضح: معظمهم مضطربين نفسيا ولديهم ضلالات دينية    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء استعدادات المحافظات لاستقبال العام الدراسي 2024-2025    بالصور.. إصلاح كسر ماسورة مياه بكورنيش النيل أمام أبراج نايل سيتي    بلد الوليد يتعادل مع سوسيداد في الدوري الإسباني    أخبار الأهلي: تأجيل أول مباراة ل الأهلي في دوري الموسم الجديد بسبب قرار فيفا    مبادرات منتدى شباب العالم.. دعم شامل لتمكين الشباب وريادة الأعمال    رابط الحصول على نتيجة تنسيق الثانوية الأزهرية 2024 بالدرجات فور إعلانها عبر الموقع الرسمي    قصور الثقافة تختتم أسبوع «أهل مصر» لأطفال المحافظات الحدودية في مطروح    اليوم العالمي للسلام.. 4 أبراج فلكية تدعو للهدوء والسعادة منها الميزان والسرطان    بطاقة 900 مليون قرص سنويًا.. رئيس الوزراء يتفقد مصنع "أسترازينيكا مصر"    بداية جديدة لبناء الإنسان.. فحص 475 من كبار السن وذوي الهمم بمنازلهم في الشرقية    حزب الله يعلن استهداف القاعدة الأساسية للدفاع الجوي الصاروخي التابع لقيادة المنطقة الشمالية في إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا    هانسي فليك يفتح النار على الاتحاد الأوروبي    المشاط تبحث مع «الأمم المتحدة الإنمائي» خطة تطوير «شركات الدولة» وتحديد الفجوات التنموية    ضبط شركة إنتاج فني بدون ترخيص بالجيزة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024 في محافظة البحيرة    مبادرة بداية جديدة.. مكتبة مصر العامة بدمياط تطلق "اتعلم اتنور" لمحو الأمية    توجيهات عاجلة من مدبولي ورسائل طمأنة من الصحة.. ما قصة حالات التسمم في أسوان؟    واتكينز ينهي مخاوف إيمري أمام ولفرهامبتون    في يوم السلام العالمي| رسالة مهمة من مصر بشأن قطاع غزة    باندا ونينجا وبالونات.. توزيع حلوى وهدايا على التلاميذ بكفر الشيخ- صور    هل الشاي يقي من الإصابة بألزهايمر؟.. دراسة توضح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز قبل الجولة الخامسة    فيديو|بعد خسارة نهائي القرن.. هل يثأر الزمالك من الأهلي بالسوبر الأفريقي؟    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    ضحايا جدد.. النيابة تستمع لأقوال سيدتين يتهمن "التيجاني" بالتحرش بهن في "الزاوية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد إبراهيم.. صفحة فى تاريخ ثورة مصر!
نشر في صباح الخير يوم 24 - 01 - 2012

أن تحتفل بثورة 25يناير بطريقة متعهدى الحفلات .. وبمنطق العيد فرحة فهى جريمة بجميع المقاييس، أن تحتفل ودماء الشهداء لم تبرد رغم مرور العام والأشهر .. لأن حق الدم الذى أريق دون عقاب من أهدره، يجعل الدم ساخناً مغلياً فى قلب الثورة.
أن تحتفل دون أن يرد اعتبار آلاف المصريين من خيرة شبابها ورجالها وبناتها ممن أصيبوا وفقدوا صحتهم أو أعينهم أو أحد أعضائهم أو حتى خدشوا دون عقاب السفاحين الذين تعمدوا تشويه هؤلاء الشباب أو الرغبة فى إبادتهم ... فالاحتفال علينا جرم ومحرم.
المعنى الحقيقى للاحتفال فى ذكرى الثورة هو أن نقيم حفل «صحصحة» الذاكرة. أن نذكر أنفسنا بأن الحقوق الضائعة كثيرة، نذكر أنفسنا بأن المشهد يملؤه ظلم وفجر وقسوة وتعمد واضح بأن «ينكفئ الماجور على الثورة» .. لكن لن يحدث إلا إذا انتعشت ذاكرة المصريين من جديد، إلا إذا ذاقت الذاكرة الوجع والمرارة، إلا إذا خرجت ذاكرة وضمائر الكثير من «المواطنين الشرفاء» من كفن الخوف والجهل والغباء.
وحتى لا ننسى .. ومع نزولنا يوم 25 لاستكمال الثورة نذكركم بمحمد إبراهيم - ليس مجرد اسم أو رقم فى سجلات مصابى الثورة، فهم كثيرون كثيرون، وكل مصاب منهم ومن شهدائنا وثيقة رسمية كافية لإثبات أن الثورة مستمرة .. والرهان هو صبر المصريين.
24يناير 2011.. الطالب محمد إبراهيم سليمان .. الذى يدرس فى كلية الحاسبات والمعلومات جامعة القاهرة، وأحد أبطال الملاكمة، الشاب الرائع ذو الأحلام والطموح الواسع، أكبر أبناء هذه الأسرة الصغيرة «أب وأم ومحمد ومصطفى».. يتحدث مع أصدقائه على الفيس بوك ويتحاورون حول ما سيحدث فى اليوم التالى، منهم من قرر النزول ومنهم من يعتقد أنه لا جدوى من المظاهرات، .. واختلفت الآراء حول اليوم، ولكن جاء الغد ومعه25يناير .
25 يناير 2012.. محمد إبراهيم .. كان اختياره هو أن يذاكر فى نفس اليوم حيث امتحانات التيرم.
بعد يوم طويل من المذاكرة ومع قسط من الراحة، يدخل محمد على الفيس بوك، شم رائحة التوتر والقلق، شم رائحة العنف والغدر، شم رائحة الغاز الذى بدأت تتناقل معلوماته على شبكة الإنترنت .
محمد إبراهيم .. فى آخر يوم 25 يناير، يحاول أن ينزل إلى الشارع، ولكن والدته تمنعه قائلة: عندك امتحانات .. مش وقت مظاهرات، لما تنتهى الامتحانات تبقى تنزل - هكذا اعتقدت الأم أن اليوم سينتهى اليوم وغداً، وكالعادة قبل هذا التاريخ : «وكأن شيئاً لم يكن».
26 -27 يناير 2011: محمد يذاكر ويذهب إلى الامتحان .. والبلد يشتعل والمعالم تتضح .. لا تراجع ولا استسلام.
28يناير 2011: انتهت امتحانات محمد .. وبدأت الثورة، وبدأت معها حياة مختلفة لهذا الشاب الذى انقلبت حياته رأساً على عقب . لم تستطع الأم التى وعدته بالنزول للمشاركة فى المظاهرات أن تمنعه بعد أن أتم امتحاناته، لم تستطع أن تواجه مخاوفها أمام انفعال ابنها وهو يقول : «إللى استشهدوا وأصيبوا مش أحسن منى يا أمى .. لم تستطع الرفض رغم عدم ارتياح قلبها وهو يقول شبه باكٍ: «مش ح احترم نفسى يا أمى لو ما نزلتش» .. ونزل محمد يوم جمعة الغضب، جمعة الشهداء ...28 يناير 2011.
اليوم .. قبل 25 يناير 2012بساعات .. تذكروا كل حرف وكلمة قالها، تذكروا دمه وآلامه .. تذكروا عينيه الاثنتين المفقودتين، تذكروا الرصاصة الحية التى أصابت رئته، تذكروا السبعين بلية خرطوش التى رشقت فى رأسه، تذكروا عجزه عن الحركة، تذكروا النزيف فى المخ، تذكروا إصابة الأم العنكبوتية بالرصاص الخرطوشى لشرطة العادلى وقتها - لم نكن نعلم أن شبابنا سيصاب بخراطيش ومطاطى ورصاص حى لكل وزير جاء بعد العادلى أيضاً - تذكروا إصابة الغشاء البللورى بالمخ، تذكروا غيبوبته، تذكروا محاولة إبادته، تذكروا بقاءه فى الرعاية المركزة طويلاً، تذكروا الإهمال الطبى المصرى، تذكروا إهانة وكذب الأطباء على أهله، تذكروا قسوة المعاملة التى لاقاها فى مستشفيات عدم، من أهمها المعادى للقوات المسلحة، تذكروا أن المسئولين بهذا المستشفى قد طردوه ، تذكروا أن أحد الأطباء المسئولين هناك قد هدد والده المهندس إبراهيم سليمان وهو يتوسل لهم أن يبقى محمد فى المستشفى لأنه طريح الفراش وهم لا يعلمون إلى أين يأخذونه، فإذا بهذا الطبيب فى معادى القوات المسلحة يهدده بالاعتقال إن لم يأخذ ابنه ويخرج من المستشفى، تذكروا جيداً الإهانة التى تعرضت لها الأم فى كل مرة تحاول فيها الفهم والمناقشة ومتابعة ما يجرى لابنها، تذكروا عجمة طبيب القوات المسلحة الذى قال لأهل محمد : «هى الشرطة تعملها وإحنا إللى نقع فيها ونشيلها»، تذكروا قسوة المعاملة من الممرضات اللاتى كان يقول بعضهن لمحمد الراقد على الفراش الذى فجأة فقد عينيه وحركته وأصبح طريح الفراش: «عجبك كده إللى عملته فى نفسك ...كان إيه إللى نزلك»؟
تذكروا محمد إبراهيم .. وتذكروا معه 25 يناير 2011، ذلك التاريخ الذى غير خريطة مصر، وغير معها خريطة حياة محمد إبراهيم وآلاف المصريين الذين فقدوا أبناءهم وذويهم أو فقدوا صحتهم.
تذكروا جيداً أننا من العبث والجرم أن نحتفل بثورة لم تكتمل أركانها الأساسية ولا حتى أولى مطالبها .
بعد أن انتهى محمد إبر اهيم من صلاة الجمعة فى مسجد الفتح برمسيس يوم 28 يناير 2011، ومع المسيرة المتجهة إلى التحرير كان سائراً، قوات الشرطة تضرب بمنتهى العنف .. ومحمد يخرج ليشق الصفوف هاتفاً : سلمية سلمية .. لم يكمل المرة الثالثة وعلى حد قوله الساخر : «التالتة كانت تابتة».. لم أشعر وقتها بأى شىء، سوى ظلام حالك، وأسمع صوت صراخ الناس : «مصاب .. مصاب»، كنت لا أعرف أنهم يتحدثون عنى، وانتهى المشهد عند هذه الجملة ولا أعلم فى أى يوم تحديداً، وبعد أسابيع عدت من الغيبوبة .
تكمل المهندسة رضا والدة محمد بمنتهى الدقة والاسترسال الممزوج بالمرارة وكأن المشهد يمر تفصيلاً أمام عينيها:
عندما كلمونى على التليفون الأرضى ليخبرونى بإصابة محمد وأنه فى مستشفى التأمين الصحى بمدينة نصر، تصورت أنه بخير متصورة أنه أعطى المتصل رقم البيت، وذهبت إلى هناك وفوجئت بأنه فى الرعاية المركزة وأول جملة واجهتها كانت من طبيبة تصرخ فى وجهى قائلة : «روحى ادفعى ثمن الأشعة» .. طلبت منها أن أرى ابنى فقالت صارخة: ادفعى الأشعة خلينا نعرف نشتغل فى حالة ابنك، كنت أهرول بين الأدوار والأقسام، شخص يقول لى : «ابنك طالب ومن الثورة، ما يدفعش حاجة، أذهب إليها فتعاود الصراخ فى وجهى، لدرجة أننى رميت حقيبة يدى أمامهم: «أهه شنطتى خدوا منها إللى أنتوا عاوزينه بس أشوف ابنى»!
ومن هنا بدأ مسلسل الكذب والعنف والإهمال والذل معنا!
منعونى من الزيارة بحجة الحفاظ على ابنى من الميكروبات، أوهمونى أن الضرب برصاص مطاطى يرتد مباشرة للخارج بعد اصطدامه بالجسم، كل هذا وابنى فى الغيبوبة، وبعدما تمكنت من مشاهدته، فوجئت بأنابيب تخرج من صدره، ووضعوا ابنى على جهاز التنفس الصناعى، لأنه مصاب بميكروب فى الرئة، نتيجة إصابته بطلق نارى، رغم أن التقرير الأول الصادر من المستشفى كان بتاريخ 29يناير ومكتوب أن الإصابة كانت برصاص مطاطى، سألتهم فى المستشفى: ابنى أصيب يوم 28يناير، ليه كاتبين التقرير بتاريخ 29 فأجابونى: مش مهم، مش هتفرق .. لكننى رفضت وصممت على تعديل تاريخ التقرير .. وكل هذه الأفعال لم تكن مجرد صدفة.
أسابيع طويلة مرت علينا فى التأمين الصحى ودرجة حرارة ابنى مرتفعة ولم يستطيعوا السيطرة عليها، وأثناء هذه الفترة ذهبت لمستشفى الفرنساوى الذى تم الإعلان أنه يستقبل مصابى الثورة، فإذا بأحد المسئولين هناك يقول : «هو أنتوا أول ما تسمعوا كلمة فى الإعلام تجروا علينا».
فى هذه الأثناء، لم أكن أعرف ولا أتابع أى شىء إلا حالة ابنى، وكان أصدقائى يقترحون علىّ أن أذهب إلى مستشفى الجلاء العسكرى أو المركز الطبى العالمى الذى طلب منى لاستقبال حالة محمد 15 ألف جنيه ثم 5 آلاف جنيه عن كل ليلة فى الرعاية التى لم يكن بها مكان خالٍ فى الأساس، ولهذا لم أجازف بنقل ابنى إلا بعد أن أجد له مكانا فى مستشفى آخر، وبالفعل ذهبنا إلى مستشفى المعادى القوات المسلحة .
∎ وهل تم اكتشاف فقد محمد لبصره فى عينيه الاثنتين ؟
- للأسف خلال هذه الفترة لم ننتبه إلى العين، لأنه فى مستشفى التأمين الصحى قالوا لنا أن ورم العين الكبير هذا بسبب الإصابة، لكنها مسألة وقت وطمأنونا بأن العصب البصرى وقاع العين سليمان، فركزنا كل انتباهنا حول كارثة ميكروب الرئة المميت ودرجة الحرارة المرتفعة. وعندما ذهبنا إلى المعادى، لفت انتباه الأطباء أن محمد يعانى من مشكلة فى الكبد، وربما تكون الإصابة قد أثرت على وظائف الكبد مثلاً، وأننا بحاجة إلى متابعة جهاز هضمى، فكان الرد : «مالناش دعوى غير بالإصابة، إحنا مش هنتابع التاريخ المرضى كله»!
فى ذلك الوقت كانت هناك مبادرات من أهل مصر الوطنيين مثل السيدة هبة السويدى وزميلتها السيدة إيمان فوزى - التى تابعت حالتنا وساعدتنا فى السفر إلى النمسا، حيث اختارت الحكومة النمساوية 25 حالة من شباب الثورة لتتم معالجتهم، كان محمد من بينهم وهذا من فضل الله علينا، وإلا كان محمد فى سيناريو آخر مختلف لا يعلمه سوى الله.
طلبنا من المستشفى تقريراً طبياً بحالة محمد للسفر إلى الخارج فقالوا لنا : مش محتاج سفر! لم أحصل على التقرير إلا عندما أخبرتهم أنه للكلية حتى يتم تأجيل السنة الدراسية له.
المفاجأة هى أن محمد كان وقتها مازال طريح الفراش، درجة حرارة مرتفعة، أنابيب تخرج من صدره، جرح عميق بعرض الصدر لاستخراج الرصاصة أسفل القلب، عجز حركى فى النصف الأيمن من الجسم، فقدان بصر .. ومع كل هذا، يصدر قرار من مسئولى المستشفى : محمد غير محتاج للبقاء فى المستشفى، أوقفوا عنه العلاج حتى المضاد الحيوى، وأوقفوا عنه الأكل لإجبارنا على الرحيل، نتوسل، نرجو، نناقش، نصرخ ولم تكن الإجابة سوى : خلاص الأمر انتهى، اذهبوا به إلى البيت، يعمل علاج طبيعى فى البيت!
فى اليوم الذى طردنا فيه من مستشفى المعادى للقوات المسلحة، دخلنا فيه مستشفى محمود لمدة أسبوع قبل سفرنا إلى النمسا .
وهنا تدخل السيناريو الإلهى .. وصلنا إلى النمسا، من الطائرة على سيارة الإسعاف ومنها إلى المستشفى، وكان محمد وقتها لا يزال يعانى من ارتفاع درجة الحرارة، وعدم السيطرة على التلوث والميكروب فى الرئة، وكأننا فى منطقة إنسانية أخرى، فعلى المستوى الطبى والعلاجى، شعرنا بالاهتمام وكأنه لا يوجد مصاب غير محمد فى المستشفى، وعلى مستوى التعامل، الكل كان يتعامل مع محمد بمنطق أنه البطل الذى أصيب فى الثورة المصرية العظيمة، الكل فخور به، وعندما تمت السيطرة على مشكلة الرئة وتم التأكد أن الوضع خال من أى مخاطر، تمت بعد ذلك متابعة العين وقد اكتشفنا المصيبة أن العصب البصرى تمت إصابته ولم تعد العين قادرة على الإبصار، كانت المفاجأة مروعة، ولكن الأطباء تعاملوا مع محمد بمنتهى الذكاء والإنسانية، تشجيع، عدم مبالغة فى الكارثة، التهوين عليه بشكل عملى ومنطقى، تم التركيز بعد ذلك على نصفه الأيمن غير القادر على الحركة، وبدأ مشوار آخر طويل.
كان من المفترض أن تظل دعوتنا هناك لمدة ثلاثة أشهر على نفقة الحكومة النمساوية، ولكن عندما بدأ علاج الحركة لمحمد، تحدى الأطباء بحالة محمد، وقالوا .. لن يسافر محمد من هنا إلا إذا وقف على قدميه مرة أخرى، وتم تمديد الفترة شهرين ثم ثلاثة أشهر أخرى لإتمام العلاج الطبيعى الذى كان يتم بمنتهى الصبر والهدوء والدقة، لدرجة أنه تم نقل محمد إلى مستشفى علاجى متخصص، ورغم عدم أحقية بقائى معه كمرافق فى هذا المستشفى، إلا أنهم تجاوزوا، ووافقوا على إقامتى معه فى ذلك المستشفى على قمة جبل، وكنت أبكى من كثرة الإحساس بالامتنان لمعاملتهم معى ومع ابنى، وكنت أتذكر لحظات الإهانة أثناء علاج محمد فى مصر، وأشعر بالضيق والتساؤل : لقد أكرمنا الله بالسفر، فما بالكم بالمصابين الذين لم يحصلوا على هذه النعمة!
يقول محمد : لا أستطيع أن أصف إليك الفرحة عندما كنت أتمكن من الوقوف لمدة نصف دقيقة، ثم تزيد بعد فترة إلى دقيقتين، عندما كنت أخطو بعض الخطوات القليلة بمساعدة أحد.
أجمل ما كان فى هذا المشهد هو ثقة الأطباء بى، فقد سعدت جداً بتشجيعهم ودعمهم النفسى لى، حتى عندما قال لى كبير الأطباء هناك، قوة تحمل محمد وإرادته، فاقت توقعاتنا.
∎ هل كنت ترى فى نفسك هذه القوة يا محمد ؟
- بصراحة كنت أعرف أننى قوى، مثابر، لكننى لم أتوقع يوماً أن تمر على كل هذه الأحداث والصعاب وأستطيع تحملها، وأكثر ما يفاجئنى هو حالة الرضا والسلام بداخلى . والحقيقة أن السبب فى ده كله أمى .. هى سبب قوتى !
فى لحظة ما، كنت أتمنى بصدق أن أستشهد كالذين استشهدوا فى سبيل الله وفى سبيل حرية مصر لكننى بعد وقت أدركت أن الله اختارنى لكرم الإصابة وليس لكرم الاستشهاد، «يعنى ربنا لسه عاوز منى حاجة تانية أعملها .. وإن شاء الله هاعملها».
تمت رحلة العلاج الطبيعى، عدنا بعد ثمانية أشهر إلى مصر لاستكمال العلاج - والحديث لوالدة محمد.
∎ وماذا حدث ؟
- فى رواية وتفاصيل كثيرة كانت تحكى لى والدته عن: معاملة صندوق المصابين، وبعد فترة طويلة تم صرف مبلغ 51 ألف جنيه، ثم رفض لبقية المستحقات إلا بتقارير أخرى، كنت وقتها فى النمسا، وعرضت عليهم أن أرسل لهم التقارير بالألمانية ويترجمونها، فرفضوا وأخذوا فى تأجيل صرف المستحقات، ولم نحصل على الخمسة آلاف المتبقية سوى منذ أيام قليلة.
تصمت الأم قليلاً وتقول: المشكلة أنهم بيتعاملوا مع مصابى الثورة بمنطق العقاب، تصدقى أننى منذ إصابة محمد، لا أريد أن أقرأ جرائد ولا أتابع تليفزيونا، لأن ما يحدث على أرض الواقع مغاير لما يقال، هم يريدون أن يصوروا أهالى الشهداء والمصابين على أنهم متسولون لحقوق أولادهم، كم من مرات يطالبنى الأهل والأصدقاء بتصوير محمد فى المستشفى وإرسال حالته إلى الجمعيات الحقوقية، لكننى لا أستطيع وقتها أن أصور ابنى وهو فى غيبوبته، لم أكن قادرة على أن أذهب إلى وزارة الدفاع للشكوى وإثبات ما كان يحدث معنا فى مستشفى المعادى، لأننى كنت أقول الثلاث ساعات التى سأذهب فيها، ولا يعلم نتيجتها سوى الله، هى من حق ابنى فى رعايته والبقاء معه، أنا على علم بأن نهاية الظلم والظالم ستأتى، لكنها مسألة وقت.
∎ وماذا عن استكمال العلاج فى مصر بعد عودتكم من النمسا ؟
- رضينا ورضى محمد بفقدان بصره، ربنا ينير بصيرته، لكننا الآن نحاول استكمال العلاج الطبيعى، لا توجد خطة علاجية ومتابعة من فريق محدد للعلاج الطبيعى، لم تنتبه جهة ما لعودة محمد، المشكلة أن العلاج الطبيعى فى النمسا كان يخضع لتكنيك محدد وهو العلاج اليدوى وحذرونا من استخدام الكورتيزون أو الجلسات الكهربية أو الإشعاعية، وللأسف فإن أغلب العلاج الطبيعى فى مصر بالكهرباء مما يؤدى لالتهاب العضلات وتيبسها وتأخر الحالة.
لا أعرف متى سنجد علاجا طبيعيا يمكن محمد من متابعة الحركة التدريب عليها، وإنقاذ الذراع والكتف الأيمن، حتى يتمكن من ممارسة حياته بشكل أقرب إلى الطبيعى؟!
∎ هل تشعر يا محمد أنك دفعت ضريبة غالية من صحتك ونور عينيك ؟
- لا أشعر أن الثمن غالٍ، مش بافكر بالطريقة دى، أنا لما دخلت مستشفى التأمين الصحى كنا ثلاثة، أنا وأحمد حرارة وسيف .. سيف توفاه الله، حرارة فقد عينا يوم 28 وفقد الثانية فى 19نوفمبر، وأنا فقدت عينين ونصف جسد، لكن كسبت شيئا أكبر، يمكن فى يوم من الأيام، حد يفتكر إن الشباب دول حاولوا يصنعوا تاريخ ومستقبل حلو لمصر.
أكثر ما فى مشهد حوارى مع محمد هى اللحظة التى يختنق فيها صوته، ولا يبكى أبداً، لكن عضلات وجهه تنقبض وتنبسط للتحكم فى حبس الدموع.
يتدخل والده الرائع المهندس إبراهيم سليمان وهو يقول له فى مداخلة: «ما أنت عارف يا محمد .. الأربعة وعشرين قيراط من نعم الله بيتوزعوا على كل بنى آدم، لكن طريقة التوزيع الإلهية تختلف من إنسان لآخر .. لكن كلنا واخدين النعم!
يبتسم محمد .. وكأنه راضٍ، أو يحاول أن يظهر الرضا لأجل والديه .. ما بداخل محمد كثير من البراءة والصمت.
تكمل الأم : صحيح فيه ناس تتعمد تشويه الثورة، صحيح فيه مصايب كثيرة، لكن أفظع مصيبة هى فكر الناس نفسها، إللى معتبرة إن الثورة نكسة، وإللى متصورين أن الشباب خربوا البلد بالثورة، وإن البلد بتنهار علشان الثورة، هى دى المصيبة الحقيقية .. فكر الناس وجهلهم وخوفهم من التغيير أو مصلحتهم من عدم التغيير ومن عدم إنقاذ البلد من الفساد المستشرى فيها، لكن رغم ده كله الثورة أثبتت إن الشباب هم المستقبل حتى لو حاولوا يبيدوهم، مش هيقدروا يلغوا إرادتهم .
البلد دى هتقوم والثورة هتنجح بس لو الناس غيرت من نفسها، وحست بأن إللى اتصاب أو إللى مات ده حد من ولادهم، يمكن يفهموا وقتها يعنى إيه ثورة.
يسألنى محمد فجأة ...هو صحيح فيه بلطجية هينزلوا يوم 25 ؟
- ابتسمت وأنا لا أعرف الرد .. قلت له .. يمكن يا محمد .. كلنا على الهوا، ما نعرفش إيه إللى هيحصل، هو أنتوا كنتوا عارفين إيه إللى هيحصل يوم 25 يناير 2011؟
ضحك محمد وقال : ربنا يولينا من يصلح.
لم أستطع أن أسأل محمد: كان نفسك تنزل يوم 25يناير 2012 ؟
يكفى أنه يعلم وكثيرون مثله أن «الثورة مستمرة» وأنه إحدى وثائقها المهمة ... وسجل يا زمان!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.