وعدتكم بالحديث عن تجارب شعوب عظيمة تعرضت مثلنا للاحتلال عسكريا، بل ربما لسنوات أطول مما تعرضنا له، ولكنها قاومت كل مظاهر الاحتلال الثقافى، وصنعت لنفسها مكاناً فى مصاف الأمم المتقدمة فاستحقت الاحترام والإجلال. - الكوريون مثلا طوال ستين عاما أى ما يوازى جيلين كاملين، تم منعهم من تداول واستخدام لغتهم أثناء الاحتلال اليابانى لهم، ولما استقلت البلاد كان أول مرسوم فى أول عدد من الجريدة الرسمية بمنع تداول اللغة اليابانية (لغة المحتل لها). وفورا احتشد الكهول والشيوخ ليلقنوا الأطفال والشباب لغتهم القومية، ولم تنطلق السنة الدراسية الأولى بعد الاستقلال إلاّ وقد تم بعث اللغة القومية فى كوريا التى تعد الآن من أهم الدول النامية وقد سبقتنا بمراحل خطيرة ومهمة اقتصاديا وعلميا وتقنيا. - تجربة أخرى تمثلت فى كلمات الزعيم الفيتنامى الكبير هوشى منه لشعبه حينما طرحت مسألة تأكيد هوية بلاده (التى أطلق عليها وصف الفتنمة): حافظوا على صفاء اللغة الفيتنامية كما تحافظون على صفاء عيونكم، تجنبوا بعناد أن تستعملوا كلمة أجنبية حين يصبح بإمكانكم أن تستعملوا المفردات الفيتنامية.. وقد عبر عن هذا الموقف الزعماء الذين رافقوه فقال خليفته فيما بعد فام فان دونج: لقد عبرت اللغة الفيتنامية عن الثورة الفيتنامية ورافقتها وكبرت معها. - تجربة ثالثة عبرت عنها بوضوح ردود الفعل الغاضبة لقرار وزير التربية الهولندى والذى كان يقضى بتدريس مواد كلية الطب باللغة الإنجليزية بدلا من اللغة الهولندية، فكان أن قوبل بالاحتجاج الشعبى والرفض من قبل المؤسسات الثقافية إلى حد اتهام الوزير بالخيانة العظمى بسبب تخليه عن اللغة القومية. - مثال آخر لبلد أفريقى يُعد من الدول النامية الضعيفة اقتصاديا مثل: تنزانيا التى وقف زعيمها يوليوس نيريرى بقوة بعد الاستقلال للدفاع عن السواحلية «اللغة الوطنية لبلاده» بمواجهة الإنجليزية حتى أصبحت جامعة دار السلام تدرس سائر المواد بما فى ذلك الطب والهندسة باللغة السواحلية. - وهناك تجربة عربية وإن لم تجد نجاحا كبيرا لظروف معقدة متشابكة بمواقف سياسية ملتبسة أخرى ولكنها تستحق الإجلال وهى تجربة الجزائر فى إعادة اللغة العربية إلى المكتب والشارع والبيت الجزائرى بقدر الإمكان، ولكن من كل التجربة الجزائرية اللغوية أتوقف أمام حادثة وقعت فى عهد الرئيس بومدين الذى كان مهتما بتعليم المغتربين فى فرنسا اللغة العربية من خلال ما كان يعرف باسم: ودادية المغتربين (وإن توقف المشروع بعد رحيل بومدين - لأننا وللأسف كعرب ترتبط المشروعات دوما بالأفراد، فما إن يرحلوا حتى نهدم ما بدأوه - والذى حدث أن بعض الفرنسيين رغبوا فى تعليم أبنائهم اللغة العربية من خلال إلحاقهم بهذه المدارس التى أنشأتها الودادية فى بعض المدن الفرنسية، وحين تم عرض الأمر على وزارة التربية الفرنسيةئرفضت وبحزم الاستجابة لهذا الطلب، وبعثت برد واضح حاسم قالت فيه: نذكركم بالقاعدة التربوية الفرنسية التى تمنع التلميذ الفرنسى من تعلم لغة أجنبية فى المرحلة الابتدائية حفاظا على شخصيته الوطنية فى هذه السن المبكرة. - وفى أكتوبر من عام 1995 عندما شعرتئفرنسا أن لغتها الفرنسية فى خطر لمجرد انتشار كلمتين فقطئ- كلمتين فقط! - فى الشارع الفرنسى وهما ''ويك إند Weekend و«درج ستورDrugstore أى عطلة نهاية الأسبوع ومحل بقالة، ئوقام وقتها وزير الثقافة الفرنسى بحملة شعواء للقضاء على «الأمركة» حسب تعبيره بين شباب فرنسا حفاظا على هويته وعلى ثقافة فرنسا وتاريخها من اللغة الدخيلة عليها. بل واعتبر الوزير أن هاتين الكلمتين «غزو ثقافى» يهدد الحضارة الفرنسية! فى ذلك الوقت كانت هناك حملة فرنسية ثانية لحث الفرنسيين على أكل «العيش الفرنسى باجيت» وهو رمز وطنى فى فرنسا بعد أن بينت إحصاءات أن نسبة أكل الباجيت تدنت بدرجة مقلقة. ولم تكتف بذلك بل نشطت بعد نشر هذه الدراسة بتأسيس ودعم الفرانكفونية خوفا على عالمية لغتها وثقافتها لدرجة أن الحكومة الفرنسية تدعم ما يقرب من 80% من ميزانية المنظمة الدولية للفرانكفونية لتمويل برامجها. ليس هذا فقط بل راحت حكومة ومنظمات أهلية تنفق سنويا الملايين وبسخاء من أجل إحياء اللغة الفرنسية عالميا أمام الهجمة الإنجليزية وخاصة بعد انتشار الإنترنت، وباتت تخصص سنويا منحا مجانية لدراسة اللغة الفرنسية لغير الناطقين بها إضافة لامتداد شبكة نشاطها خارج حدود الفرانكفونية لتضيف رصيدا لها من الأصدقاء من خلال التفاعل الثقافى الذى تقوم به ملحقياتها فى أنحاء العالم. ثم هناك التجربة الأمريكية فقد اجتمع فى الولاياتالمتحدة من أجناس وأعراق ما لم يسمح فى البدء بأى تناغم ثقافى، ولكن الرابطة اللغوية (فى إطار اللغة الإنجليزية) جسدت هوية قومية ما كان لها أن تتشكل لولا التوحد اللغوى الذى هو من صنع الإرادة البشرية. وها هى من خلال اللغة تشكل أكبر تحد لثقافات الشعوب التى تتحرك وتحاول، بينما نحن نهدم لغتنا بأيدينا ولاندرك إلى أى درك عميق نهوى. ويرتبط بهذا قضية أخرى لاتقل خطورة عن قضية اللغة وهى الغزو الثقافى الذى تفرضه العولمة فتصيب رياحها من تصيب بينما تتحصن شعوب أخرى بثقافتها الخاصة فتنجو من شرها.. فى الأسابيع القادمة أفتح معكم هذا الملف إذا أذن الرحمن وشاء.