ما أغرب وأعجب حكايات ووقائع التاريخ المصرى الحديث أمس واليوم وغدا، وهى حكايات ووقائع تفوقت على الخيال لكنها حدثت بالفعل! ومن أغرب وأعجب هذه الحكايات ما رواه عمنا وأستاذنا وفخرنا أيضا، المبدع الكبير «يحيى حقى» صاحب رائعة «البوسطجى» و«قنديل أم هاشم». الحكاية التى أقصدها رواها عمنا الكبير فى كتابه الرائع «خليها على الله» الذى يتضمن بعض ذكرياته عندما كان يعمل فى الصعيد معاونًا للإدارة بمركز منفلوط، وكان ذلك عام 1927 من القرن الماضى، وقد وصف أهل منفلوط بقوله إنهم أهل طيبة وأمانة وحياء. المهم تبدأ الحكاية عندما وصلت إشارة تليفونية إلى المركز تفيد باعتزام «الملك فؤاد» القيام برحلة إلى الصعيد بالقطار الملكى، ومن المقرر أن يمر قطاره ببندر منفلوط، ويقول «يحيى حقى» بالحرف الواحد: «ومع أن برنامج الرحلة يؤكد أن القطار الملكى لن يقف فى محطة منفلوط، إلا أن المأمور رأى من الضرورى أن تقام الزينات، وأن يصطف على رصيف المحطة أكبر عدد من أعيان المركز وأهله، فلربما - من يدرى- راق للملك فى لحظة نحس أن يطل من الشباك والقطار يمر أمام محطة منفلوط، فإذا رآها قاعًا صفصفا سأل عن اسمها واسم مأمورها، أليس من المعقول بعد ذلك أن يأمر برفته؟! ودخل مأمورو المراكز فى مزايدة عجيبة يحاول كل منهم أن يبز قرناءه فى مظاهرة الترحيب بالملك، أما الزينات فأمرها سهل، كانت المحافظات والمديريات والمراكز فى ذلك العهد أصبحت تنافس أصحاب محال الفراشة، فى حيازتها لعتاد فخم من الرايات والأعلام والمصابيح الملونة وغير الملونة، كانت الدولة أكبر مالك ومورد لمعالم الأفراح!! وبعد أن يروى «يحيى حقى» تفاصيل الاحتفال، وكيفية حشد الناس وكيف استراح المأمور وتنفس الصعداء، لكن الفرحة لم تتم، فقد علم المأمور من كاتب الخفر أن الصحف تذكر دائمًا فى وصف استقبال جلالة الملك انطلاق الزغاريد، يا خبر أسود، وامتقع وجه المأمور، من أين له بهذه الزغاريد، إنها موهبة اختصت بها النساء دون الرجال، ولن تقبل امرأة واحدة من أحرار أهل البندر أن تخرج للمحطة وتزغرد ولو لجلالة الملك! يضيف يحيى حقى قائلاً: «أعمل المأمور فكره طويلا واستشار معاون البوليس، وأخيرًا لمعت فكرة بديعة، من حسن الحظ أن مركز منفلوط به نقطة مومسات، فلماذا لا نحسن التصرف ونجند بلباقة وبدون ضجة «مومسات النقطة» للوقوف على رصيف المحطة بمنأى عن الجميع، لن يشعر بهن أحد وسيظل الأمر سرا مكتوما وبذلك نضمن انطلاق الزغاريد! ولأول مرة فى تاريخ هؤلاء المومسات، أصبح كلام المركز لهن رجاء لا زجرًا، فى ذلك اليوم رأيت سرب المومسات يسير فى الطريق إلى المحطة، على وجه كل منهن ابتسامة جمعت بين فرحة الخروج للنزهة فى يوم عطلة رسمية من وجع الشغل، وبين الزهو بمكانة جاءهم الإقرار بها على غير انتظار، إلا أنى شعرت- ولا أدرى لماذا- أنها كانت تخفى شيئًا من الخجل، نعم من الخجل، وليس من العجيب أن تخجل المومس، خجل لمشاركتهن فى لعبة زائفة وللهوان الذى هبط إليه المركز بجلالة قدره، وإن كان فى هذا الهوان رفعة لهن! وأخذت مكانى بجانب المأمور، لأنى أحب أن أقف بجانب كل «صعبان علىّ»، وقبيل الموعد المحدد حين شارف التوتر أن يبلغ ذروته، لا أدرى ما الذى حدث، ساد الهرج والمرج، واختلط الواقفون من أعيان ومومسات بعضهم ببعض!! وهاج المأمور فجأة، لقد باظ الترتيب وأفلت الزمام وانكشف السر واختلط الأمر، فإذا به يشد قامته كأنه قائد فى ميدان يصرخ صرخة الحرب، ويلوح بيده اليمنى مشيرا لليمين وباليسرى مشيرًا لليسار ويزعق بأعلى صوته: الأعيان هنا.. والمومسات هنا!! وبعد قليل مرق القطار الملكى أمامنا بسرعة كبيرة، مغلق شيش النوافذ كلها، لم نر وجه مخلوق واحد، وانطلقت الزغاريد وعلت الهتافات بحياة مولانا الملك، وانصرف الجميع وقفاهم «يقمر عيش»!! انتهى ما رواه «يحيى حقى»، وتأمل معى دلالة الواقعة من أولها إلى آخرها، وكل تفسير أو فهم يخطر على بالك هو صحيح وصح، سواء كان تفسيرًا أخلاقيا أو سياسيًا أو اجتماعيًا!! لكن السؤال العبيط الذى يراودنى الآن: هل يمكن اعتبار عمنا «يحيى حقى» من فلول النظام البائد- النظام الملكى طبعا- لأنه شارك ومشارك فى هذه القصة ووقفته لتحية ملك البلاد، الذى أسقطت ثورة يوليو 1952 حكم ابنه الملك فاروق؟! صحيح هل يمكن اعتبار يحيى حقى من الفلول؟!