هل نحن في حاجة إلي جمعة حب.. لإحياء رموز الوطن في النهضة.. مثل طلعت حرب في الاقتصاد.. ونجيب محفوظ الذي نحتفل بالعام المئوي لميلاده.. أم نحن في حاجة إلي جمعة غضب لإسقاط رموز الفن الهابط.. الذي أفسد أذواقنا وضمائرنا.. وجعلنا نبصق في الشوارع ونزور الانتخابات.. ونتبادل أقذع الشتائم.. ونألف الحياة بين أكوام القمامة.. ونأكل الخبز من القمح الفاسد الذي تأنف منه البهائم.. ونشرب الماء المختلط بمياه المجاري؟! إن أكبر جريمة ارتكبت في حق مصر لم تكن في مجرد سرقة أموالها، وإنما في طمس إبداعها وحجب دورها الحضاري وإشعاعها الثقافي، فمصر ليست شعبولا وأغاني شخبط شخابيط والمسابقات التافهة وبرامج الحظ والتسلية والكاميرا الخفية التي تسخر من غفلة الإنسان المصري. مصر هي أم كلثوم في الفن.. ومصطفي مشرفة في العلم.. ومحمود مختار في النحت.. وطه حسين في تحرير العقل.. وقاسم أمين في تحرير المرأة.. وطلعت حرب في تحرير الاقتصاد. مصر ليست الملاهي الليلية التي يرتادها السكاري في شارع الهرم.. وإنما هي فرق الموسيقي والفنون الشعبية التي كانت تطوف عواصم العالم.. ومسارحنا التي كانت تستقبل فرق البولشوي والكوميدي فرانسيز.. وندواتنا التي كان يشارك فيها الفيلسوف جان بول سارتر. وفي اعتقادي أن الحرية التي ظفرنا بها بعد أن أسقطنا رموز الاستبداد.. أثمن من أن نضيعها في مشاعر الكراهية والهدم.. فقد بني المصريون القدماء حضارتهم علي الحب بين إيزيس وأوزوريس.. والإيمان بالبعث علي أرض مصر.. بعد أن قامت إيزيس بجمع الأشلاء فعادت إليها الحياة. لا معني للحرية التي حققتها ثورة 25 يناير.. بدون الإيمان بالبعث الذي يهب الفن المصري سر الخلود.. عندما يشع من حوله مجال يجذبك إليه.. تحس به في القاعة الكبري للحياة الأخري، التي أقامها متحف الفاتيكان لقدماء المصريين.. وفي أروقة متحف اللوفر.. وفي آثار توت عنخ آمون في المتحف المصري بميدان التحرير.. فتدرك السر الذي يجذبك إلي صوت أم كلثوم.. وموسيقي طه حسين وأنت تقرأ رواية «الأيام» والأناشيد الصوفية التي يرددها نجيب محفوظ، وهو يقوم بأكبر حجة حضارية مع الحرافيش علي مدي قرن كامل في القاهرة الفاطمية، هذا السر هو الذي جعل نجيب محفوظ عاكفا علي الكتابة كل يوم، حتي بلغ الخامسة والتسعين من عمره.. وكأنه يتعبد في محراب صلاة.. وعباس العقاد ينهل من المعارف حتي تحول عقله إلي موسوعة للثقافة العربية والأجنبية، لقد آمنوا جميعا بالبعث.. وبأن دور مصر هو الإشعاع الحضاري والثقافي الذي اجتذب فلاسفة اليونان إلي جامعة عين شمس القديمة.. وإلي مكتبة الإسكندرية.. حتي عصر أمير الشعراء أحمد شوقي وعميد الأدب العربي طه حسين. وكل من اجتذبهم ميدان التحرير في الأيام الأولي لثورة 25 يناير.. حتي أسقطوا رموز الاستبداد.. كانوا لا يدركون السر في إصرارهم علي البقاء في الميدان.. ولا يعرفون أننا نحتفل بالعيد المئوي لميلاد نجيب محفوظ.. ولا يشاهدون نجيب محفوظ قادما من كوبري قصر النيل إلي الميدان.. ومعه محمود مختار الذي خرج من متحفه في حديقة الحرية.. ليقيم في وسط الميدان تمثالا جديدا لنهضة مصر.. تجدد فيه دورها الحضاري وإشعاعها الثقافي.. بدماء الشهداء في ميدان التحرير.. كانوا لا يسمعون سيد درويش وهو ينشد «قوم يا مصري» وأم كلثوم وهي تجيبه «مصر هي المحراب».. وعبدالحليم حافظ وهو يهتف «إحنا الشعب» ونجيب محفوظ يقيم محاكمة لزعماء مصر كما فعل في رواية «أمام العرش» فقد أحب نجيب وطنه الحب الذي يفني فيه المحب في المحبوب. وعاش يحمل القلم كما عاش غاندي وهو يحمل المغزل ليؤكد للشباب أن الحرية التي ظفر بها أثمن من أن نضيعها في الهدم.. وأن جمعة الغضب لابد أن تعقبها جمعة الحب.