أزمة الطلاب المصريين في قرغيزستان.. وزيرة الهجرة توضح التطورات وآخر المستجدات    بشرى سارة.. وظائف خالية بهيئة مواني البحر الأحمر    مجلس القومي للمرأة بالأقصر يدرب 50 من القادة الدينية لتوعية بأهمية القضية السكانية    نقيب المهندسين يشارك بمعرض تخرج طلاب الهندسة بفرع جامعة كوفنتري بالعاصمة الإدارية    الخارجية الألمانية: نحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية    بعد الموقف الأخلاقي مع دونجا، مطالب بتكريم نجم نهضة بركان المغربي    أيمن بدرة يكتب: بطلوا تهريج    غدا، جنايات المنصورة تنطق حكمها على مدرس الفيزياء المتهم بقتل طالب    كم يوم باقي على عيد الاضحى؟ المعهد القومي للبحوث الفلكية يوضح    النائب محمد زين الدين: مشروع قانون المستريح الإلكترونى يغلظ العقوبة    إصابة 8 أشخاص في تصادم ميكروباص بسيارة نقل ب «طريق مصر- أسوان الزراعي»    أخبار الفن اليوم: نجوم العالم يدعمون القضية الفلسطينية بمهرجان كان.. وشيرين عبد الوهاب تقدم بلاغا للنائب العام ضد روتانا    16 كيلو ذهب عيار 24.. 15 صورة جديدة لضريح ومسجد السيدة زينب    وزير الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    المصريين الأحرار بالسويس يعقد اجتماعاً لمناقشة خطة العمل للمرحلة القادمة    التربية النوعية بطنطا تنظم ملتقى التوظيف الثالث للطلاب والخريجين    قصواء الخلالي: النظام الإيراني تحكمه ولاية الفقيه وفق منظومة سياسية صارمة    في أول أسبوع من طرحه.. فيلم الأصدقاء الخياليين - IF يتصدر إيرادات السينما العالمية    رياضة النواب تطالب بحل إشكالية عدم إشهار 22 ناديا شعبيا بالإسكندرية    أخبار الأهلي : أحمد الطيب عن لاعب الأهلي : هاتوه لو مش عاوزينه وهتتفرجوا عليه بنسخة زملكاوية    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد بعد هجوم ميلي على حكومة سانشيز    جنوب أفريقيا ترحب بإعلان "الجنائية" طلب إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت    الرياضية: جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    تكريم نيللي كريم ومدحت العدل وطه دسوقي من الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    الأرصاد تحذر من الطقس غداً.. تعرف علي أعراض ضربة الشمس وطرق الوقاية منها    لحرق الدهون- 6 مشروبات تناولها في الصيف    وزير الرى: اتخاذ إجراءات أحادية عند إدارة المياه المشتركة يؤدي للتوترات الإقليمية    ليفربول يعلن رسميًا تعيين آرني سلوت لخلافة يورجن كلوب    أحمد الطاهري: مصرع الرئيس الإيراني هو الخبر الرئيسي خلال الساعات الماضية    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    انقسام كبير داخل برشلونة بسبب تشافي    رئيس الوزراء يشهد افتتاح جامعة السويدى للتكنولوجيا "بوليتكنك مصر" بالعاشر من رمضان.. ويؤكد: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    الشرطة الصينية: مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين إثر حادث طعن بمدرسة جنوبى البلاد    خالد حنفي: علينا إطلاق طاقات إبداع الشباب والاهتمام بريادة الأعمال والابتكار    الأوبرا تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    "اليوم السابع" تحصد 7 جوائز فى مسابقة الصحافة المصرية بنقابة الصحفيين    تحرير 174 محضرًا للمحال المخالفة لقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    قائمة الأرجنتين المبدئية - عائد و5 وجوه جديدة في كوبا أمريكا    تراجع المؤشر الرئيسي للبورصة بختام تعاملات جلسة الإثنين    حجز شقق الإسكان المتميز.. ننشر أسماء الفائزين في قرعة وحدات العبور الجديدة    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. الإفتاء توضح    الصحة تضع ضوابط جديدة لصرف المستحقات المالية للأطباء    تراجع ناتج قطاع التشييد في إيطاليا خلال مارس الماضي    المالديف تدعو دول العالم للانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل    إيتمار بن غفير يهدد نتنياهو: إما أن تختار طريقي أو طريق جانتس وجالانت    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأجيل محاكمة رجل أعمال لاتهامه بالشروع في قتل طليقته ونجله في التجمع الخامس    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    أسرته أحيت الذكرى الثالثة.. ماذا قال سمير غانم عن الموت وسبب خلافه مع جورج؟(صور)    10 ملايين في 24 ساعة.. ضربة أمنية لتجار العملة الصعبة    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    محافظ قنا يتفقد مركز تدريب السلامة والصحة المهنية بمياه قنا    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    خلاف في المؤتمر الصحفي بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية بسبب أحمد مجدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا البحر لى
نشر في صباح الخير يوم 22 - 11 - 2023

«صباح الخير يايافا» إحدى الروايات المهمة التى تتناول قضية الصراع «العربى - الإسرائيلى» من خلال تفاصيل الحياة فى «يافا»، والتى يجسّدها الروائى أحمد فضيض عبر شخصياته العاشقة للوطن؛ ليافا ولبحرها الذى يحمل ذاكرة المدينة ويحفظ أهلها.

ومن خلال عائلة «سالم قويدر» التى تحفظ تاريخ المدينة أبًا عن جَد، وتشتبك مع ما يحدث فى «يافا» من تغيرات تحت سيطرة الاحتلال الذى سلب أهلها الأرض، والمستوطنين الذين يمارسون العنف ضد أهل المدنية؛ فيستهدفون المصلين فى مسجد «حسن بك» أكبر مساجد المدينة. وتصوِّر الرواية أيضًا بعض المحاولات المدنية للتعايش بين العرب والإسرائيليين، لكنها محاولات تحمل فى طياتها هيمنة المحتل على كل تفاصيل الحياة فى المدينة.



ملامح «يافا»
تطوّف بنا الرواية فى معالم «يافا» ببحرها، وحدائقها الغَنّاء، حديقة «يركون بارك» الواسعة على مقربة من نهر « يركون» الذى يترقرق داخلها، ومتنزه «تشارلز كلور»، وحديقة « السّفارى» بزرافاتها، ونمورها، وبجعاتها، وسلاحفها الضخمة، «يافا» التى تعطر شجرات البرتقال، نواحيها بالرحيق، ساكنة فى خيال ووجدان أهلها، حتى الجد الكبير فى هذه الأسرة وقد أصابه «ألزهايمر» ينسى كل شىء إلا بيارات البرتقال على شاطئ البحر فيصفه السارد كما تراه حفيدته:
خطرت لها عينا جَدها السابحتان فى عالم النسيان ، وعجبت أن كيف لتينك العينين أن قلبتا وظيفتهما الباصرة من خارجهما إلى داخلهما، وأصبحتا تؤديان عملهما الجديد فى عالم يخلو من الزمن حتى أصبحت بيارات البرتقال على شاطئ البحر حقيقة متجددة لناظريه، يراها متى شاء، ويشم روائحها عند حلول موسم القطاف.
وكان يثير دهشة الجميع بإصراره على الخروج لمشاهدته.
وظل يقسم لهم أن فى وسعه شم رائحة بيارات البرتقال من مكانه، وأن دار «أبو خضرة» تفوّقت على الجميع هذا الموسم، وأنها ستشحن برتقالها على مائتى جَمل، ومئة سفينة.
فى عشق المدينة
المدينة بتاريخها العريق تشكل وجدان وخيال أبنائها، يرقبون ما يحدث لها على يد المحتل فيدافعون عنها، ويتصدون لمحاولة سلب ذاكرتهم، وحتى الذين سافروا بعيدًا عنها يعودون إليها وقد قست عليهم الغربة فيلقون بأنفسهم بين أحضانها، فها هو «سالم قويدر» يعود إلى «يافا» بعد أن حاول البحث عن فرصة عمل فى روما ، يعود مشوقًا كما كان ينشدها شعرًا فيقول:
يا ظريف الطول وقف تا قُولك / رايح ع الغربة وبلادك أحسن لك / خايف يا ظريف تروح وتتملك / وتعاشر الغير وتنسانى أنا.
وكأنه الخوف من الفراق على المحبوب، الساكن فى القلب فكيف به وقد اغترب؟! تحدّثه المدينة أو يحدّثها، تناجيه الحبيبة أو يناجيها، تطل أشواق عاشق المدينة فتأسرنا «يافا» كما تأسرنا «عين قينيا» قرية «سالم» التى تقع بالقرب من «رام الله»، والذى يصور حنينه إليها، وحزنه بسبب أن كل شىء قد تغير منذ أقام الاحتلال الإسرائيلى الحاجز الأمنى الذى شطرها نصفين مثلما شطر مدن الضفة كلها، غير أنه حدّث نفسَه بأن الأرض لا تزال هى الأرض فى النهاية.



.... وليظل يردد اسم مدينته دائمًا فيسمى ابنته «يافا»، وليبقى سحر بحرها نغمًا فى قلبه ودنياه يسمى ابنه «بحر» من رأسه إلى أخمص قدميه، عشق سالم تفاصيل المدينة وليورث هذا العشق لأبنائه فتكون «يافا» هى الحافظ لتاريخ المدينة.
سندباد بحرى
سالم يرى فى نفسه السندباد البحرى، الذى لم يطق البقاء بعيدًا عن عشقه للبحر، يعرف جزيرته الخضراء الجميلة، واحته، لوحته التى ينحت تفاصيلها فى ذاكرته كل يوم قبل أن تغيب بما يفرضه عليها المحتل من ناطحات سحاب ومستوطنات، فيلجأ إلى البحر، وعلى رصيف الميناء يرى حركة الملاحة، وتتبدى لناظريه كتل البيوت الرملية اللون المشرفة فى وداعة على الميناء، بطابع عمرانها العثمانى القديم وبمشربياتها المشرقية، الفنار ذو اللونين الأبيض والأحمر، ومئذنة المسجد البيضاء، وأعالى النخيل، تجلت له البيوت العربية التى تشربت من البحر حكمته وتعلمت منه التواضع أمام شساعته، ثم يرقب بحذر رفّاعات البناء التى تبدو من بعيد، معلنة عن المزيد من ناطحات السحاب فى سبيلها إلى الانبثاق من الأرض كأخواتها ثم لن ترضى حتى تغلبها طولاً.
غضب وذكريات حزينة
الارتباط بالأرض هو ما ورثته ابنته «يافا» فكان لها من اسمها نصيب، تدافع عن «يافا» المدينة، و«فلسطين» الأم بكل جوارحها عندما يضمها مجلس ثقافى، وفى ندوة تقيمها جمعية «يدًا بيد» التى أسّسها «شولى»، والسيدة «رتى» وهما يدعوان للمساواة والمشاركة بين العرب والإسرائيليين، كانت «يافا» تحاول استطلاع الفكر الذى تتبناه هذه الجمعية، وهناك وجدت العديد من القضايا تتفجر فى الحوار بين جنسيات مختلفة تضمها الندوة، فتقول «شولى»: «إن المتطرفين ووجودهم يدل على بيئة صحية تتقبل الرأى، والرأى الآخر، والمشكلة ليست فى مواجهتهم بل فى العمل على تشجيع الساسة على إصدار قرارات جديدة تزيد من نسبة التعايش بين اليهود والعرب فى إسرائيل».
وتصحّح «يافا» دائمًا ما تقوله ويقون «رُتى» و«شولى»، فتقول: إنها فلسطين كان اسمها دومًا كذلك. وعندما تقول امرأة عربية الملامح «عذرًا منكم، إن هذه الجهود الطيبة لا معنى لها عندما تصر كل حكومة جديدة على تأكيد الهوية القومية لها وحدها، وكأن العرب لم يكن لهم وجود فى المدينة قَط، مع أن جدودنا مدفونون هنا».
فيرد عليها «شولى» فى ابتسامة صفراء: «وجدّى مدفون هنا يا سيدتى، نعم أفهم ما تقولين؛ ولكن لهذا السبب نحن نستثمر فى المستقبل الذى سنكون فيه معًا كما أننا نزلنا معكم قبل أيام للاعتراض على قانون القومية، فهذا شىء نرفضه ولا نقرّه، وإن كان يبدو ظاهريًا فى صالحنا نحن».
ويحمل الحوار شحنات غضب، وذكريات حزينة فتذكر «علياء» أن الهجرات التى تدفق بها اليهود إلى فلسطين بلغت فى سنة واحدة عام 1948 إلى أكثر من مئة ألف مهاجر من أوروبا وآسيا وإفريقيا، ومن جميع أنحاء العالم، جاءوا إلى هنا عن طريق البحر عبر حيفا ويافا هذا البحر نفسه الذى عبرناه فى جماعات حاملين سقط المتاع، لقد طُردنا، ولم يكن هذا بإرادتنا قَط.
ويهاجمها شاب صهيونى يعتبر أن احتلال الجيش الإسرائيلى لفلسطين فتح لا فرق بينه وبين فتح جيوش الإمبراطورية العثمانية لهذه البلاد، وهم لم يكن لهم جدود على أرضها مثلما تُفاخرون بذلك. وترد عليه «يافا» محتدة: بأنه حتى خلال الحكم العثمانى كانت فلسطين تسمى كما كانت تُسمى من قبل وكما ستظل تسمى فلسطين. وذكّرته بما ارتكبته عصابات «الهاجاناه» من مذابح بحق الفلسطينيين، فيقول الشاب لأن كل هذا وقت الحرب، وفيها تقع مثل هذه الأشياء».
وتمضى بنا أحداث الرواية لترصد معاناة أهل المدينة فى ظل الاحتلال. «سالم» يصف ما تعرّض له المصلون فى مسجد «حسن بك» من رشق بالحجارة، وإلقاء زجاجات دم البهائم على جدران المسجد، وإمام الجامع يشمِّر عن ساعديه لتطهير المكان وسط غضب المصلين من تصرف المستوطنين، ورشقهم الفلسطينيين بالحجارة.
أمّا زوجة سالم فقد كانت تحلم دائمًا بأن تنجب أربعة أبناء تُسميهم على أسماء العمال الفلسطينيين الأربعة الذين دهسهم مستوطن صهيونى تحت حافلته مما أشعل شرارة الانتفاضة الأولى، كانت تحلم بأن يكون لها «عصام» و«شعبان» و«طالب» و«على»، لكنها لم تنجب سوى «يافا» «وبحر».
بذرة صادفت منبتها
وعلى الرغم من هذه الأحداث الدامية التى تتسم بالعنصرية؛ فإن هذه الأسرة الفلسطينية لم تفقد سماحتها ولا إنسانيتها.
سالم يلتقى فى الحديقة العامة بالطفل «جونى» وأمّه «راشيل»، يهوديان حضرا من أمريكا للإقامة فى «يافا»، فتعلق به الطفل، وحاول «سالم» أن يعلمه «العبرية»، وذهب يبحث فى المكتبات عن كتاب يحمل قصة عربية مترجمة إلى العبرية ليهديها لهذا الطفل، فأهداه قصة «السندباد البحرى» التى عشقها «سالم» فى طفولته، فأحبها «جونى» وأراد أن يصبح مثل السندباد الذى سينطلق فى رحلته الثامنة إلى ما وراء الأفق. لقد اعتبر «سالم» هذا الطفل الجميل البرىء مثل ابنه حتى إنه يقول: «إنه سيترك إرثًا ثانيًا بعد رحيله كامنًا فى هذا الولد الصغير الذى لا ينتمى إلى صلبه أو إلى عِرقه أو إلى دينه ولا إلى لغته؛ ولكن أرضه الجديدة الخصبة قد تقبلت فى جوفها بذرة منه صادفت فيه منبتها، ثم لم يداخله ريب فى أن تلك البذرة ستزهر عندما يحين وقت إثمارها مثلما ستزهر بذرته فى أرض ابنته الباقية عندما يحين مثلها الوقت، وفكَّر أنه ربما لأجل هذا كله؛ ليس بالرجل المغبون».




ممارسات عنصرية
أمّا ابنه «بحر» الذى عمل فى ملهى «الأنَّا لولو» كحارس أمن؛ فقد عشق «يانا» الأوكرانية اليهودية التى تعمل مضيفة بالملهى نفسه، يوصلها إلى منزلها فتركب خلفه دراجته «الهوندا» البيضاء، ويتساقيان المحبة، لكن «بحر» يتعرض لحادث قاسٍ يفقد عمله فى إثره، فقد طعنه رجل سكير أثناء فض «بحر» لمشاجرة بين هذا الرجل وآخر وصاح به: «إياك أن تجرؤ على لمسى أيها العربى اللعين».
وهو ما يشير إلى الممارسات العنصرية اليومية التى يتعرض لها العرب فى مدينتهم سواء فى العمل أو فى تفاصيل الحياة اليومية، ويفقد «بحر» عمله، فقد أحضروا غيره بعدما ظل شهرين فى نقاهة من إصابته، وتركت «يانا» المكان من أجله، أمّا هو فقد عانى من إيجاد عمل مناسب، وهنا يتغير مسار أحداث الرواية ليصبح «بحر» بطلاً مأساويًا، اجتمعت عليه ظروف محنته؛ جرحه الذى تسبب فى غيابه عن العمل، ونقاهته التى تسببت فى قطع عيشه، ورغبته فى الزواج من «يانا» وهو لا يملك مالاً ولا عملاً، وهنا اندفع تحت إغراء رفاق السوء لتوزيع الأقراص المخدرة، وأقنعه «كمال» بتوزيعها فهى مثل «القنب» أو النباتات التى تعدل المزاج، فدفع به إلى مصير مؤلم، فقد تعرّض لمطاردة الشرطة الإسرائيلية، ورغم أنه لم يكن مُسلحًا؛ فإن الشرطة أطلقت عليه النار فأردته قتيلاً.
حادث مأساوى
ويصبح هذا الحادث المأساوى بداية تغيير عميق فى حياة أسرة «سالم قويدر»، ويصف لنا السارد ما جرى لبحر، وما قالته الشرطة الإسرائيلية من خلال مشهدين مؤثرين:
«توقفْ وألقِ سلاحك»، وسمع صوت طلقة رصاص تمرق بجانبه ولها أزيز فأجفل، والتفت بوجهه فبهرت عينيه هالة ساطعة من الضوء لم يتبين معها ملامح الشرطى صاحب الصوت والرصاصة المنطلقة التى استقرت فى الجدار خلفه، فأغمض عينيه فى ألم وقطَّب ملامحه وبسط يديه أمام وجهه يحمى بها عينيه من النور الساطع مُستقبلاً براحتيهما جهة الصوت ومصدر الخطر الأعمى الذى يتهدده، وعاد الصوت يصيح به: ضع سلاحك أرضًا وارفع يديك.
قال بصوت مبهور: ليس معى.... «غير أن رأس رمح من الريح منعه من إتمام جملته، رأس رمح شعّر به يصطدم بسرعة خاطفة فى أعلى صدره فيخرجه عن ربقة الزمن فلا يعود له أن يحسن به، وأحس بعزلة صمَّاء حجرية تحيط به، وأحس بالبرودة تغمره وبلسانه يثقل، ولم يعد يقوى على رفع ذراعيه فأسقطهما وأخفض رأسه حيث اصطدم به رمح الريح فلم يلق فى ذهول عينه الجاحظة شيئًا سوى فجوة سوداء منخرقة فى سترته.
تم استدعاء «سالم» والده، أوصله شرطيان إلى المستشفى عبر بوابتها الخلفية، وأدرك أن ابنه لم يطأ ذلك المكان حيًا بل دخله ميتًا وقال له الشرطى: «كان مسلحًا وأطلق علينا النار من مسدسه وهو يبتعد بدراجته النارية»، «اضطررنا إلى التعامل مع الحالة وفق ما يقتضيه الأمر»، «كنا حريصين على ألا نصيب إلا ذراعه! ولكنه كان يتحرك ويهددنا بسلاحه مما صعّب الأمر علينا»، «وجدنا معه كميات كبيرة من الأقراص المخدرة المعدة للتسليم، إننا آسفون لمصرع ابنك ولكن عليك أن تفهم أننا كنا فى وضع الدفاع عن أنفسنا، وعن حياة المارة من حولنا، يمكنك تسلم الجثة اليوم بمجرد التوقيع على بعض الأوراق».
دائرة العنف
ينقل هذا الحادث حياة أسرة «سالم قويدر» إلى عالم آخر حزين، وتنامت روح الثأر والانتقام فى نفس أخته «يافا»، صحيح أن «بحر» قد اقترف جريمة قتل ويعاقب عليها القانون لكنه قتل بلا محاكمة، قُتل فى الشارع وبلا قانون.
لقد تحولت أخته «يافا» الفتاة الجامعية المثقفة التى تدرس الهندسة، وتحب الشعر والأدب إلى فتاة تود الانتقام والثأر لأخيها، لقد بدأت دائرة العنف فاستحكمت حلقاتها، واندلعت شرارتها لتواجه العنف بعنف آخر، أطفأت «يافا» شاشة موبايلها، وأغلقت محادثاتها مع «خالد» زميلها الذى أحبته، وكانت تحلم بالزواج منه، اندثرت محادثاتهما المثقفة عن كتابات «يوسا» الكاتب الإسبانى الشهير، الذى يراه «خالد» صاحب أيقونة الكتابات السياسية التى تصف مآل ديكتاتوريات العالم، ارتحلت الموسيقات ورسائل الحب، وبدأت «يافا» فى البحث فى أدراج «بحر» حتى عثرت على مسدسه، واعتزمت أمرًا، عرفت من الإذاعة بمكان خطاب المسئول الإسرائيلى الكبير، المسئول عن إصدار أوامر العمليات العسكرية، وقرارات الاعتقال، والاغتيال والمصادرة، تذكرت كل هؤلاء المغدورين الذين فقدوا حيواتهم بلا سَند قانونى يسلبهم تلك الحياة، وتذكرت أيضًا الفدائيين الذين يريدون تحرير الوطن، فينعتهم الإسرائيليون بالإرهاب ويقتلونهم بحجة مقاومة الاعتقال، تذكرت منهم «صالح البرغوثى» وانتبهت أنه أيضًا اعتقل سليمًا قبل أن يطلقوا عليه النار، وهو بين أيديهم أعزل من كل سلاح، أيقنت أنها لا تريد أن تنجب حتى لا تأتى بأبناء يشقون فى هذا العالم، الذى يقتل فيه المرء فى بلادها، لأنه عربى، عربى فحسب، تقول: ثأرى ليس شخصيًا، إنه لأخى ولكل أؤلئك الذين يعيشون مثله على هامش أوطانهم، وماتوا عليه، إنه ليس ثأرى وحدى، ولا هى قوتى وحدى، ولكنه القدر الذى اختارنى ليضعنى فى هذا الموقف الذى لا يصلح غيرى له بجرحى المثقوب النازف من الناحيتين.
حملت مسدس أخيها، وذهبت فى اتجاه الثأر، وعندما استوقفها الشرطى قالت له أنها ستغطى زيارة المسئول الكبير لجريدة الجامعة على «الفيس بوك» خاتلته وانفلتت بالمسدس إلى حيث مكان الزيارة. خطر لها فى إظلام عالمها الخاطف أنها ستفعل ما ستفعله وليس من ورائها أو أمامها شىء سوى الموت، موت هذا الرجل أو موتها.
ويضعنا السارد أمام المشهد الأخير، والذى يحمل نهاية مفتوحة:
فتحت عينيها عن نظرة باردة، ولسانها يتحرك دون صوت، «إنه قدرى الوحيد!» وحدقت فى ظهره الآخذ فى الابتعاد، والحشد يوشك أن ينفرط عقده، ويدها المنتهية بالسلاح المنحسر غطاؤه عن نصف ماسورته القصيرة، ترتفع ببطء، كأنها كائن غير خاضع لإرادتها.
ويعود بها تيار الوعى فى هذه اللحظة إلى شهيد آخر، شاهدتهم يهدمون بيته فى ذلك الصباح، ويعتقلون أباه، ورأت أمه قاعدة على الرصيف وسط أولادها الصغار، ترددت، لكن تذكرت كلمات أبيها أن البيت سيشاد ثانية، والأب سيخرج من السجن، ولكن ما فعله الابن سيظل يتذكره الجميع؛ لأنه قام بما كان يجب عليه أن نقوم كلنا به.
تهمس: لكنه مات!
فيقول الأب: «نعم يا صغيرتى مات، ولكنه كان مثل تلك الحبة الصغيرة الشجاعة التى طلعت منها بعد موتها ودفنها، هذه الشجرة الضخمة، انظرى.. انظرى إلى روعتها».
وتظل كلمات «حيفا» تتردد فى حنايا النص السردى وهى تقول لصديقتها «حب»: أى مساواة تلك؟! وأى تعايش؟! الذى يتحدثون عنه، فى حين أن جيشهم يصوب كل يوم فوهات بنادقه على رءوس أهلنا فى الضفة، لا، يا حُب، لا أريد سلامًا لى وحدى، ففلسطين التى لا نعرفها لا تتجزأ، ويافا وحيفا واللد والناصرة يجب ألّا تنفصل بحال من الأحوال فى خاطرنا عن غزة ونابلس والخليل وقلقيلية.
... لقد استطاع أحمد فضيض فى روايته «صباح الخير يا يافا» الرواية الفائزة بجائزة الرافدين للكتاب الأول والصادرة عن دار الرافدين ببغداد العراق، أن يقدم لنا رؤية عميقة وشخصيات تشبك مع أحداث الحياة، ومع القضايا العامة؛ حيث يمتزج الخاص بالعام، وتتغير مصائر الشخصيات فى صراعها مع ما تلاقيه من تحديات، فتواجه مصائرها الإنسانية بشجاعة.
الرواية يهديها كاتبها إلى «آدم جبر» ابن الثلاثة أعوام، والذى بعد أن تولت عنه نظرة الدهشة الأولى إلى بحر «يافا» نظر إليه فى تحدّ، ووضع يديه على جانبى خصره قائلا: «هذا البحر لى»، وإلى التى ضحكت إليه عن قرب مؤيدة كلماته، إلى رئام عساف.
وتظل «يافا» أنشودة أبنائها، يرددون أناشيد حبها؛ حيث يحفظ البحر أناشيدهم ويرددها، وعلى ساحله تظل تتبدّى بيارات البرتقال برائحتها الزكية التى تغمر بعطرها الأمكنة، حقيقة متجسدة، فعلى هذه الأرض من نعمة الجمال ما يستحق الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.