خلاص يا صاحبي.. الحمد لله بلدنا رجعت لنا.. أشوفك في التحرير بكره ننظف المكان.. وبعد خمس سنين نتقابل في مجلس الوزراء. لم أصدق أذناي.. معقولة؟! هل هذا الصوت الذي يغلفه التفاؤل هو صوت ابني. ابني الشاب صاحب الغرفة الموصدة الأبواب دائمًا.. المنغلق علي ذاته وعلي عالمه الخاص ذي النظرات الشاردة الذي كان يعيش معنا بجسده فقط بينما كان عقله يجوب عوالم افتراضية ويتابع بوعي كل ما يدور في العالم من أحداث. كان يعزل نفسه بإصرار عن المشاعر التي تغلف أحاديث بيتنا والتي كان اليأس والإحباط يسيطران عليها. كان يُعلم نفسه.. ويكتسب مهارات جديدة.. ويراسل جامعات ومراكز بحثية.. كنت أشعر بمشاعر أمومة لا تخطئ، إنه يعد نفسه للفرار.. للخروج من أسر اليأس.. للهروب من شرنقة الإحباط والبحث عن طوق نجاه يلقي له من وراء البحار، وكان يزعجني بشدة تشجيع والده المستتر أحيانًا والعلني أحيانًا أخري لفكرة الابتعاد. وعندما كنت ألومه كان ينظر لي معاتبًا.. وقائلاً في مرارة «عايزاه يتخرج ويقعد جنبك.. يفترسه العجز وقلة الحيلة». كنت أقول في انفعال.. صحيح أننا لم نبن له.. لكننا بنينا فيه.. استثمرنا فيه سنوات عمرنا وشقي عمرنا.. فلماذا لا يكون غده مشرقاً.. ومستقبله مبشرا.. هنا كان صوتًا آخر من داخلي يأتيني متهكمًا قائلاً: ولماذا تظنين أنه سيكون أفضل حالاً من آلاف الشباب الذي سبقه.. وآلاف سيلحق به كنت أبتلع مرارتي وأدعو الله أن يجعل أيام أولادنا أفضل حالاً من أيامنا.. وألا يكون همهم الأكبر هو توفير الحد الأدني من حياة كريمة.. مستورة.. نستطيع فيها توفير اللقمة.. والهدمة.. وفلوس الدروس الخصوصية.. ومصاريف الدراسة بالمدرسة والجامعة، وتصبح دعواتنا الأولي والحارة.. أن يكفينا شر المرض ليس فقط لآلامه ولكن لأن تكلفة العلاج مهما كان أصبحت فوق الاحتمال. نعتبر أنفسنا أبطالاً لأننا نتحري الحلال بقدر المستطاع نقبض علي أخلاقنا، فنشعر بأننا نقبض علي جمرة نار نقاوم بشدة كل ما يحيط بنا من فساد، يحرضنا ليل نهار علي الفسق والانزلاق في الشبهات. كنت خائفة علي أولادي.. وأبناء جيل لا يجرؤ علي الحلم.. يتعاطي اللامبالاة كدواء لما يعيشه.. ويراه. يقول بيقين: «البلد بلدهم.. يعملوا فيها ما بدا لهم». كنت أدعو الله مع كل أذان وفي كل صلاة أن تعود البلد.. بلدنا أن نتبادل وإياها الحب والاحترام تعطينا.. ونعطيها.. ولا يلقي أولادنا أنفسهم في البحار هربًا منها.. وألا يمزقوا جواز سفرهم ويخفوا جنسياتهم ويطلبون حق اللجوء إلي دول أخري. مع بداية الثورة يوم 25 يناير كنت أنظر في العيون.. أتفرس الوجوه الشابة أدعو أن يكون الخلاص قريبا. والحمد لله يوم الجمعة 11 فبراير كانت مصر في عيد كل مظاهر الفرح التي غمرت نفوسنا وطافت بشوارعنا أذهلتني.. وأبكتني فرحًا وامتنانًا لله وللشباب لقد عادت لنا الروح.. وعادت لنا بلدنا.. عادت الفرحة إلي القلوب. وارتسمت البسمة علي الوجوه. شعرت بفرحة طاغية وأنا أسمع ابني وهو يواعد صديقه قائلاً: «سألقاك بعد 5 سنوات في مجلس الوزراء».. يا إلهي!! ابني عادت له القدرة علي الحلم.. شعر أخيرًا بأنه يستطيع أن يفعل شيئًا.. وأنه لم يعد كمالة عدد.. أو مجرد رقم.. بل هو كيان قادر علي الفعل والتحقق وإثبات الوجود سيظل في وطنه يبني ويعمر يتعلم ويعلم.. كلمته مسموعة ومقدرة.. سيعيش في حرية وينعم بعدالة.. وكرامة إنسانية.. صحيح أن التركة ثقيلة.. وأن الأحوال لن تنصلح في يوم وليلة.. وأن الفساد والأمراض الاجتماعية ضربت بجذورها في ميادين كثيرة. وأن المناخ العام اختلطت فيه الأوراق لكننا أخيرًا تحررنا من الخوف.. والإحباط واليأس أصبحنا قادرين علي الحلم ببكره.. ولبكره. والأهم أننا أصبح لدينا يقين أن البلد أصبحت بلدنا.. سنحلم لها.. وسنعمل من أجلها كل ما في وسعنا لتصبح أجمل لنا ولأولادنا بإذن الله.