أخيراً، حسمت تركيا خيارها؛ رفضت العرض الأمريكى ببيع منظومة الدفاع الجوى والصاروخى «باتريوت»، وتمسكت بشراء المنظومة الروسية تريومف «إس-400».. القرار لا يتعلق بصفقة أسلحة، بقدر ما يعكس تحولاً فى التوجهات الاستراتيجية لأنقرة.. ويغير من طبيعة المواجهة التقليدية، بين حلف «الناتو» وروسيا.. ويعكس أصداؤه على التوازنات السياسية والعسكرية فى الإقليم. العلاقات الروسية التركية تركيا انضمت ل«الناتو» 1952، باعتبارها رأس حربة التحالف الغربى، فى المواجهة مع الاتحاد السوفيتى، ثم روسيا بعد تفككه، لكنها حاولت تحقيق قدر من التوازن فى سياساتها، بدعم علاقاتها الاقتصادية مع موسكو، حتى وصل حجم التبادل التجارى إلى 35 مليار دولار.. روسيا شيدت محطة «أكويو» النووية، وخط تصدير الغاز «التيار التركى».. تركيا المقصد الأول للسياحة الروسية، ووكالاتها تتحكم فى حركة السائحين الروس للمقاصد الأخرى.. آخر استخدامات «الناتو» لتركيا كمخلب قط، كان إسقاط المقاتلة الروسية «Su-24» نوفمبر 2015، لكنها خشيت من رد الفعل العسكرى المحتمل، فاستغاثت بالحلف، لم يستجب سوى إيطاليا بمنظومة «سامب-تى»، وأسبانيا ببطارية «باتريوت»، لأن العلاقات مع أمريكا لم تكن على ما يرام، وبمجرد أن هدأت الأوضاع تم سحبهما.. اغتيال السفير الروسى بأنقرة تم على يد أحد رجال الشرطة الأتراك ديسمبر 2016، ليكتشف أردوغان تورط الغرب فى تأييد محاولة الانقلاب التى وقعت منتصف 2016، مما دعاه لمراجعة سياساته، والتوجه صوب موسكو. تركيا و«الباتريوت» علاقة تركيا بمنظومة «باتريوت» ترجع إلى عام 1999، عندما تم نشرها على أراضيها إبان حرب الخليج الثانية، ومنذ ذلك الحين وعملية نشرها وسحبها لا تخضع للتطورات السياسية والعسكرية بالمنطقة، بقدر تأثرها بطبيعة العلاقات الثنائية مع واشنطن، حتى تحولت إلى وسيلة ضغط وأداة عقاب، ما أقنعها بحاجتها الماسة لمنظومة دفاع جوى وصاروخى تناسب اتساع أراضيها، لوقوعها فى مركز المواجهة بين روسيا و«الناتو».. طلبت شراء منظومة «باتريوت» وتقنية تصنيعها، لكن أمريكا رفضت، خشية وصول أسرارها إلى موسكو.. تعاقدت على منظومة صينية للدفاع الجوى «HQ-9» شبيهة ب«إس 400»، فرفضت أوروبا، تجنبًا لاختراق التكنولوجيا الصينية لشبكات «الناتو».. لجأت إلى موسكو للحصول على منظومة «إس-400»، التى سعت بداية للدفاع فى مواجهتها، مما أتاح للتكنولوجيا الروسية التى أنشئ «الناتو» لحصارها، فرصة اختراق أنظمته ودفاعاته.. أردوغان طعن حلفاءه الغربيين فى القلب. تركيا وال«إس-400» تركيا وقعت الاتفاق الخاص بال«إس-400» فى ديسمبر 2017.. روسيا مولت جزءًا من الصفقة، وتركيا سددت معظم الباقى، بتسويات لا تتضمن الدفع النقدى بالدولار.. بدأ تصنيعها فى أبريل 2018، تصل أولى بطارياتها فى يوليو القادم، وأطقم العمل التركية شرعت فى التدريب على أعمال التشغيل والصيانة منذ بداية العام.. إمكانات المنظومة فائقة، على النحو الذى يحدث خللًا استراتيجيًا بالمنطقة.. مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية أكدت أن المنظومة أخطر مما يعتقده العالم، لأنها تستطيع إسقاط جميع الأهداف الجوية، بما فيها الطائرات الشبحية وطائرات الإنذار المبكر الأمريكية، إضافة إلى قدرتها على ضرب الطائرات والصواريخ قبل إقلاعها من قواعدها، بصواريخ سرعتها 15 مرة ضعف سرعة الصوت «5000 متر/ثانية»، ويمكنها ضرب أهداف لا يتجاوز ارتفاعها خمسة أمتار عن سطح الأرض، وذلك ضمن مدى يتراوح بين 400 و600 كم.. مدى صاروخ «الباتريوت» لا يتجاوز 96 كم، مما يوضح خطورة المنظومة. سباق التصنيع الحربى تركيا تنافس إسرائيل وإيران على ريادة الصناعات العسكرية بالمنطقة، حققت تقدمًا عكسه النمو فى صادراتها الحربية، كانت آخر صفقاتها بيع 30 طائرة مروحية هجومية من طراز «أتاك 129 تى» لباكستان، وعقود لتوريد قطع الغيار والذخائر والتدريب، إسرائيل طورت نظامها للدفاع الجوى والصاروخى «مقلاع داوود، القبة الحديدية، آرو».. إيران بدأت تطوير نظام الدفاع الجوى «بافار 373»، كإضافة فعالة لمنظومة فافوريت «إس300»، بالتعاون مع الخبراء الكوريين.. أردوغان كلف الصناعات الحربية بتطوير نظام دفاع صاروخى طويل المدى Siper، ضمن برنامج تطوير البنية التحتية للتكنولوجيا بمعهد البحوث للصناعات العسكرية بأنقرة، الذى تجرى أولى تجاربه فى 2021.. يعتمد البرنامج على توطين إنتاج الأسلحة والمعدات العسكرية المشتراة، ثم يتولى المهندسون الأتراك عمليات الصيانة والتطوير.. هذا الموضوع لن يطبق على المنظومة الروسية، لأن العقود تم توقيعها قبل موافقة أمريكا على بيع «الباتريوت»، مما أضعف موقف تركيا التفاوضى، فى مواجهة تمسك روسيا بعدم تسليم تكنولوجيا تمس أمن المنظومة، لدولة عضو بالناتو، مما يفسر رغبتها فى شراء وتوطين المنظومة الأمريكية، دون تراجع عن الروسية، وهو ما اعترضت عليه أمريكا، فاضطرت لرفض عرضها. العقوبات الأمريكية تركيا هى الدولة الثالثة فى حلف الناتو التى تقتنى منظومة دفاع جوى صاروخى من روسيا، بعد اليونان، وبلغاريا، ما يعكس حجم الاختراق الروسى للمنظومة الدفاعية لحلف الناتو، بعض أعضاء مجلس الشيوخ طالب بتوقيع عقوبات على تركيا، لرفضها التراجع عن الصفقة الروسية، لكن رد الفعل الأمريكى يتنازعه دافعان متناقضان، الأول قانون مكافحة أعداء أمريكا، الذى يقضى بفرض عقوبات على أيّ دولة أو مؤسسة أو أشخاص يوقعون عقودًا مع شركات أسلحة روسية، الثانى التعديل الذى طرحته الإدارة الأمريكية فى أبريل 2018، على سياسات تصدير السلاح، بهدف التوسع فى المبيعات للحلفاء، تعزيزًا للصناعات الدفاعية الأمريكية وتوفيرًا لفرص العمل داخل البلاد.. الأول يحث على فرض عقوبات على تركيا، والثانى يدعو إلى غض البصر عن مخالفاتها، وتشجيعها كحليف على اقتناء المزيد من الأسلحة الأمريكية، وهناك بعد آخر ملتبس يحتاج إلى حسم.. وهو موضوع المقاتلة «إف 35». مشروع المقاتلة «إف 35» الجنرال كورتيس سكاباروتى رئيس القيادة الأوروبية للجيش الأمريكى، القائد الأعلى لقوات «الناتو»، طالب بمنع تسليم تركيا طائرات «إف-35» حال تمسكها بشراء المنظومة الروسية، لأن أمريكا تشعر بالقلق على أسرار تكنولوجيا «مكافحة الرادارات» بالطائرة نتيجة وجود منظومة «إس-400»، واحتمال تردد الخبراء الروس على تركيا، وإمكانية الاستفادة من وجود الطائرة، لتحسين نظام الدفاع الجوى الروسى، مما أضحى يمثل مصلحة مشتركة بين موسكووأنقرة.. هذا الاقتراح أيده بعض أعضاء مجلس الشيوخ.. لكن هناك بعدًا آخر يعرقل تطبيق الحظر.. تركيا واحدة ضمن «9 شركاء» فى برنامج تصنيع الطائرة الشبحية المقاتلة من الجيل الخامس جوينت سترايك «إف-35»، مع شركة «لوكهيد مارتن»، تركيا استثمرت 125 مليون دولار فى بداية المشروع 2002، تلتها دفعات بلغ مجموعها حتى الآن نحو 1.25 مليار دولار.. البرنامج الرئيسى لتصنيع الطائرة يقع بقاعدة «لوك» الجوية بولاية أريزونا، وأجزاء من الطائرة يتم بناؤها فى تركيا، استعدادات البنية التحتية لاستقبال الطائرات بولاية ملاطية التركية استُكملت، وقامت بالفعل بتسلم طائرتين فى يونيو 2018، وتتسلم مثلهما فى مارس الحالى، لكنها ستبقى بقاعدتهم فى الولاياتالمتحدة، فيما سيبقى الطيارون الأتراك فى تلك القاعدة لتلقى التدريبات والعودة بها فى ديسمبر المقبل. تركيا والخيارات الصعبة القرار الأمريكى ببيع «الباتريوت» لتركيا ديسمبر 2018، بعد قرابة عامين من الرفض، ارتبط بقرار ترامب سحب قواته من سوريا، والخشية من اندفاع تركيا، وشن عملية عسكرية ضد حلفائه الأكراد؛ مما دعاه لمحاولة الاقتراب من أنقرة، حتى يضمن ترك حليف أقرب إليه، لا إلى موسكو.. محاولة ساذجة تعكس سطحية التناول، وعدم إدراك أبعاد المصلحة التى تربط الدولتين.. تقارير المعاهد الاستراتيجية الغربية خلال الثلاث سنوات الأخيرة، طرحت احتمال إقدام تركيا على الخروج من الناتو، وتجميد مطلبها بالالتحاق بالاتحاد الأوروبى، والتوجه إلى دول البريكس «الصين، روسيا، البرازيل، جنوب إفريقيا، والهند»، تركيا واحدة من القوى العسكرية العشر الأقوى فى العالم، وهى ثانى قوة فى الناتو، وخروجها يؤدى إلى خلل جسيم فى توازن القوى العسكرية بأوروبا.. أى تدهور جديد فى العلاقات التركية الأمريكية يطرح مزيدًا من القيود على الصادرات العسكرية الأمريكيةلتركيا، وبالتالى احتمال اتجاهها للحصول على طائرات حربية حديثة من روسيا، وتحول المحور الروسى التركى إلى تحالف، مما يعكس تغييرًا جوهريًا فى التوازن بين التحالفات الدولية.. وثقل إقليمى يتسم بالعدوانية. تسريبات أجهزة المخابرات يستهدف كل طرف منها إفساد صفقة الآخر؛ أمريكا تحاول تخويف روسيا من احتمال اطلاع خبراء الناتو على أسرار المنظومات الصاروخية الروسية فى تركيا، وروسيا تزرع القلق لدى أمريكا من سعيها لإيجاد حلول للتغلب على قدرة ال«إف-35» على الاختفاء من الرادار، وتسريبات لترهيب تركيا من احتواء منظومة «باتريوت» على برنامج يتولى تعطيلها حال حدوث نزاع مع تركيا.. الموقف بالنسبة لأمريكا والناتو بالغ الصعوبة، فخسارة دولة محورية بحجم تركيا فى المواجهة مع روسيا ليس بالأمر الهين، فما بال وقد انضمت إليها.. أمريكا ستحاول الاحتفاظ بحد أدنى من العلاقة مع تركيا، تمنع خروجها من «الناتو»، وتحالفها مع روسيا.. لكن الأهم أن يدرك الجميع، خطورة المنظومات الاستراتيجية التى ستمتلكها تركيا قريبًا، وتأثيرها على مصر ودول المنطقة، فى ظل قيادة أردوغان التى تتصف بالرعونة، وتفتقد للحكمة.