أصدرت مؤسسة راند البحثية والتابعة للبنتاجون فى العام 2014 تقريرًا بعنوان (الصين والشرق الأوسط.. التنين الحذر)، وضع التقرير كل من أندرو سكوبيل وعلير نادر الباحثان فى راند. كان الغرض من التقرير توفير المساعدة للجيش الأمريكى من أجل فهم تحول اهتمام الصين بمنطقة الشرق الأوسط على المستوى الاقتصادى والسياسى والعسكرى، والتقرير حتى وقت قريب كان خاصّا بوزارة الدفاع الأمريكية حتى سمح البنتاجون بالنشر العام أو ما سمح لنا بالاطلاع عليه من التقرير. أهداف الصين فى الشرق الأوسط حدد التقرير مصالح وأهداف الصين فى الشرق الأوسط فى ثلاث نقاط, وتبدو النقطتان الأولى والثانية طبيعيتين، تهدف الصين أولًا إلى تأمين مصادر الطاقة الواردة إليها من منطقتنا، والثانية هى رغبتها فى توسيع نطاق نفوذها الجغرافى الاستراتيجى إلى أبعد من جُوارها المباشر فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ وتطوير العلاقات مع قوى كبرى أو إقليمية أخرى لأسباب اقتصادية فى المقام الأول. يرى التقرير أن رغبة الصين فى توسيع نطاقها الجغرافى الاستراتيجى بدأت فى العام 2010عندما تأكد القادة الصينيون أن الولاياتالمتحدة تبذل جهودًا جبارة من أجل احتواء الصين وتقييد حركتها ومنعها من الانطلاق كقوة عظمى. شبكة الحلفاء والأمريكان أقامت الولاياتالمتحدة شبكة من الحلفاء الأقوياء حول الصين على رأسها اليابان وتوسعت فى علاقات وشراكات استرتيجية وأمنية مع أستراليا والفلبين والهند. بدأت الصين فى هذا التوقيت البحث عن مَخرج ورد على الحصار الأمريكى لها وتوصّل صناع الاستراتيجية الصينية أن أفضل رد ومَخرج هو القفز من فوق هذا الطوق والوصول عن طريق علاقات استراتيجية إلى المنطقة التى تجعل الصين خارج نطاق الحصار الأمريكى وتحقق فيها مصالحها الاقتصادية وتأمن أيضًا مصادر الطاقة... فكان الشرق الأوسط. طريق الحرير جاء الرد الصينى من التاريخ استدعت طريق الحرير الرابط القديم بين الصين والشرق الأوسط وفى العام 2013 أعلن الرئيس الصينى شى بينج مبادرة الصين لإنشاء طريق الحرير بشقيه البرى والبحرى.. لم يذكر التقرير بالتأكيد سببًا آخر للرد الصينى غير الحصار الأمريكى، وهوالنسخة الأولى مما أطلق عليه الربيع العربى فيما بعد، التى ظهرت فى ميدان «تيان مين» عام 1989 ببكين عندما رفعت مجموعات من الطلبة شعارات باسم الحرية. بدأت آلة الدعاية الأمريكية الجبارة فى الترويج لهذا الخروج على الدولة الصينية، قدمنا تفصيلات هذه المعركة الشرسة التى خاضتها الصين للحفاظ على الدولة فى مقالات سابقة، ولكن استطاعت الصين فى سرعة شديدة احتواء هذا الخروج والعودة إلى طريق الانطلاق المعتمد على فكرة الاستقرار، وهو ما نجحت فيه بامتياز وتجنى ثماره الآن كقوة عظمى تتقدم بثبات لتتربع على عرش العالم. نعود إلى تقرير مؤسسة راند وإلى المصلحة الثالثة التى يراها التقرير تدفع الصين إلى الذهاب إلى الشرق الأوسط بقوة، تتعلق هذه المصلحة بالحفاظ على الأمن الداخلى والاستقرار داخل الصين. يبدوالأمر غير متوقع نوعًا ما عندما يرتبط الاستقرار الداخلى فى الصين بالشرق الأوسط، لكن التقرير أصاب عين الحقيقة، وهو ما أدركه صُناع الاسترايجية الصينية وأيضًا الاستراتيجيون الأمريكان. يشرح التقرير هذه النقطة منذ انهيار الإمبراطورية السوفيتية، فبعد هذا الانهيار الروسى أصبحت منطقة آسيا الوسطى ذات الحضور الإسلامى ومن ورائها الشرق الأوسط محيطة بالصين ويمتد تأثيرها إلى الداخل الصينى المسلم فى إقليم شينجيانج الصينى (ما يُسمى بتركستان الشرقية) المتمع بالحُكم الذاتى وتوجد به تيارات تطالب بالانفصال. يخشى الاستراتيجيون الصينيون حسب ما أوضحه التقرير امتداد موجة التطرف والإرهاب إلى الداخل الصينى ويتحول إقليم شينجيانج إلى ساحة صراع وحرب جهادية عالمية كما حدث فى أفغانستان بسبب وجود أقلية الأيغور المسلمة فى الإقليم. الولاياتالمتحدة واعوانها بالتأكيد ليست الولاياتالمتحدة وأدواتها من الفاشيست الإخوان وداعش وأمثالهما بعيدة عن هذه المنطقة، فالولاياتالمتحدة تعلن الحرب على الإرهاب ولكن فى الوقت نفسه هى تستخدم هذه الجماعات الإرهابية كمشرط فى تقسيم وتفتيت الدول.. لا تأتى الخشية الصينية من فراغ، فامتداد الفكر المتطرف بدأ يدق أبواب إقليم شينجيانج وسُمعت أصوات القنابل فى وسط بكين على يد جماعات إرهابية تطلق على نفسها ما يسمى بحزب تركستان الإسلامى، وروِّع المواطنون بطعنات السكاكين على يد نفس هذه الجماعات الإرهابية. أخطر ما تمت ملاحظته كان تغلغل هذا التطرف إلى داخل المجتمعات الإسلامية فى الداخل الصينى.. يشرح الباحث الصينى «شوى تشينغ قوه» فى ورقة بحثية قدّمها إلى «منتدَى الحوار العربى- الصينى والمائدة المستديرة لمواجهة التطرف» طبيعة التحولات الخطرة التى تحدث فى هذا الإقليم أو ما يمكن أن نطلق عليه تسميم التربة العقلية لهذه المجتمعات المسلمة والمسالمة بأفكار التطرف. «ففى بعض الأقاليم المأهولة بالمسلمين، خصوصًا فى جنوب إقليم شينجيانج الصينى، أُجبرت النساء، بل الصبايا أيضًا، على ارتداء الجلباب الأسود والبرقع أو النقاب، وظهرت موجة عارمة فى تشديد التفرقة بين الحرام والحلال إلى حد المبالغة، فبين مياه الشرب وأوراق الكتابة وفُرَش الأسنان ما هو حلال وحرام، ومتابعة الإذاعات والتليفزيونات الحكومية حرام، والموسيقى والغناء والبكاء فى المأتم والرقص فى حفلة الزفاف حرام، بل حتى الأدوات الكهربائية التى توفرها الحكومة لمساعدة الفقراء، هى كلها حرام». نزعة التطرف تلك هى ما تخشاه الصين، التى تُعتبر مقدمات للأعمال الإرهابية، وهو ما حدث بالفعل، لذلك عندما تنظر الصين إلى الشرق الأوسط كمنطقة مؤثرة فى استقرارها الداخلى ليس مستغربًا، فمن هذه المنطقة تهب على الداخل الصينى رياح التطرف، وجزء كبير من هذه الرياح لا تهب مصادفة بل موجهة لأجل هدف أساسى وهو تعطيل مسيرة الصين كقوة عظمى قادمة. لا نتعجب إذْا عرفنا أن الإقليم نفسه شينجيانج هو بوابة الصين البرية من أجل تنفيذ مبادرة الحزام والطريق، فعدم الاستقرار فى الإقليم يعطل مشروعات الصين فى تنفيذ مبادرتها رئيس الصين فى الإمارات لأول مرة منذ أيام قليلة قام الرئيس الصينى بزيارة إلى دولة الإمارات الشقيقة، وهى الزيارة الأولى له خارج الصين عقب ولايته الرئاسية الجديدة، وهوما يعكس اهتمام الصين الشديد بالمنطقة وأن التنين بدأ يتخلى عن حذره ويتحرك بقوة لأجل كسب الحلفاء فى منطقتنا. حسب تقرير مؤسسة راند فإن زيارة الرئيس الصينى إلى أشقائنا فى الإمارات تدخل تحت مظلة المصلحة الأولى والثانية والمتعلقة بتأمين مصادر الطاقة والمصالح الاقتصادية، فدولة الإمارات الشقيقة تتمتع بمركز مالى قوى يسمح للصين من خلال التعاون معها فى إدارة استثماراتها فى المنطقة بسهولة، ومن ناحية أخرى فالإمارات مصدر رئيسى للطاقة. تُعتبر هذه الزيارة المهمة هى الخروج الأول للتنين الصينى وفق المصالح الطبيعية، لكن عندما ننظر للمصلحة الثالثة التى يراها تقرير راند نجد أن الخروج الثانى للتنين سيكون الأهم لأنه يرتبط باستقرار الصين الداخلى، وأيضًا فهذا الاستقرار مرتبط بإقليم شينجيانج البوابة البرية لتحقيق مبادرة الحزام والطريق أو المشروع الصينى لتأكيد وجودها كقوة عظمى قادمة بإصرار. بات الخروج الثانى للتنين قريبًا وستكون مصر على رأس الحلفاء الذين ستسعى الصين للتعاون معهم. مفهوم الدولة فى مصر والصين تتشابه مصر والصين فى عدد من الثوابت لعل أولها مفهوم الدولة، ففكرة الحفاظ على الدولة بالنسبة لمصر والصين حجر زاوية فى أى توجُّه خارجى، أما النقطة الثانية والأهم فهى أن الأمة ثم الدولة المصرية تمتلك من الأدوات والخبرات بداية من أزهرها الشريف وتدينها الوسطى وثقلها فى العالم الإسلامى ما يمكنها من التعامل بشكل إيجابى ومؤثر مع هذا النوع من الفكر والفعل المتطرف الذى تواجهه الصين الآن، وقد ترتفع وتيرة تأثيره على استقرارها الداخلى فى المستقبل، وهو ما تسعى لتلافيه. لا يعنى تأكيد الخروج الثانى للتنين الصينى واحتياجه لحلفاء أن نبقى منتظرين دون حركة، بل يجب أن تمتد أيدينا لهذه القوة البازغة التى سيحقق التعاون معها مصالح كبرى للأمة المصرية. •