لو سألنا أى صحفى أو رئيس تحرير جريدة أو خبير فى الصحافة، عن مستقبل الجريدة الورقية فى عصر «الديجيتال» أو الصحافة الإلكترونية، عصر الإنترنت، ماذا نتوقع أن تكون الإجابة؟ سأوفر على القارئ مهمة التخمين الصعبة وأقدم له عينات من إجابات هؤلاء المختصين، على السؤال.. وأتعمد ألا أشير منذ البداية إلى ملخص ما تضمنته ردودهم، ودافعى هو تشويق القارئ أولا وأيضا من أجل أن نتيح للأفكار المختلفة والمتناقضة أحيانا فرصة التعبير عن نفسها، قبل أن نصدر أحكامنا. لكن قبل هذا سيكون من الضرورى أن نراجع الموقف الحالى فى الصحافة «التقليدية» الورقية فى مصر وخارجها.. فهناك تراجع ملموس فى أرقام توزيع الجرائد اليومية عالميا، حتى أن بعضها وهو قليل حتى الآن، قد ألغى الطبعة الورقية واكتفى بالنسخة الإلكترونية على الإنترنت. وهناك كسبب، هبوط شديد فى دخل الجريدة - أى جريدة- من الإعلانات. ليس فقط نتيجة هبوط أرقام توزيعها، ولكن أيضا نتيجة لتأثير الأوضاع الاقتصادية فى مصر عامة.. وارتفاع أسعار الورق وتزايد تكاليف الطباعة، يضاف إلى ذلك اتجاه المعلنين نحو وسائل إعلامية أخرى أكثر جماهيرية كالتليفزيون والإذاعة والإنترنت والتليفون. والحقيقة التى تحتاج من أهل الصحافة قدرا كبيرا من الشجاعة ليعلنوها صراحة، هى أن المهنة الصحفية تدهورت بشدة فى الآونة الأخيرة لأسباب متعددة.. وإذا اتجهت أنظارنا إلى صحافة العالم فسنلاحظ أن التراجع فى أرقام التوزيع ظاهره كونية وأن ضعف إقبال المعلنين على الجرائد اليومية أيضا ظاهرة كونية، لكن المنافسة الشرسة بين الورق و«الديجيتال» هى أكثر ما تعانيه صحافة العالم المتقدم. هل صحيح أنها تموت؟! ويبقى السؤال: كيف ترى مستقبل الجريدة اليومية.. هل صحيح أنها تموت؟ أمضيت وقتا طويلا فى تحرى إجابات كبار الصحفيين فى بريطانيا وأمريكا ومصر، وحصلت على مجموعة تعتبر فى تقديرى المتواضع عينة دالة، إلى حد كبير، رغم ما تضمنته من مفاجآت. ماذا لو سئل رئيس تحرير أكثر صحف بريطانيا رواجا عن مستقبل الصحافة الورقية؟ • يقول «تونى جالاهار» رئيس تحرير «صن» توزع مليونا و780 ألف نسخة يوميا فى المتوسط، وكانت فى وقت سابق توزع ما يقرب من خمسة ملايين نسخة): لست متأكدا من أننى سأفاضل بين الجريدة الورقية ونسختها الإلكترونية، النموذج الذى أفكر أنه على معظم غرف التحرير الانشغال بالتفكير فيه هو: الاثنان معا.. الورق والديجيتال. ورغم كل المبتكرات الجديدة فإن الاعتماد على الصحافة التقليدية «الورقية» لايزال وسيبقى على درجة أهميته المعتادة إلى الأبد، وأعتقد أن الصحافة الورقية ستظل بلا شك هى الموجه للحوار الوطنى. أنواع القراء مختلفة • وعن السؤال نفسه أجابت «كاثرين فينر» رئيسة تحرير أكثر الصحف اليومية فى بريطانيا رصانة وأكثرها احتراما من جانب الجمهور وأهل الصحافة على السواء-«الجارديان» (بلغ الإقبال على موقعها الإلكترونى عالميا 266 مليونا فى شهر واحد): لا أعرف.. أقصد أننا عندما نضع اسم «جارديان» على أى شيء نقدمه يجب أن يكون جيدا بالفعل.. وأعتقد أننا نصدر جريدة جيدة فعلا. وأعتقد أن المستقبل للديجيتال طبعا، وعلينا بالتأكيد أن نستثمر فى الابتكار والديجيتال.. لكن يجب ألا ننسى أنه لا تزال هناك أنواع مختلفة من القراء ممن يفضلون الجريدة الورقية. • وهناك من هو متشائم جدا مثل طلعت اسماعيل مدير تحرير «الشروق» الذى عبر عن اعتقاده بأنه لا مستقبل للصحافة الورقية.. مضيفا: «نحن الآن مطلوب منّا حسن تغسيل وتكفين الموتى لأن الصحف الورقيّة فى طريقها للزوال». وقال إن المستقبل للصحافة الإلكترونية «الديجيتال» شريطة عدد من الأمور لا بد من وضعها فى الحسبان، أهمها وأخطرها «الاحترافية فى المحتوي» وأن تسعى إلى اكتساب المصداقية عبر إعمال المعايير المهنية. • صلاح منتصر من شيوخ الصحافة المصرية الآن، محرر ورئيس تحرير ورئيس مؤسسة صحفية ووكيل المجلس الأعلى سابقا، وكاتب عمود يومى فى «الأهرام» ومن أقواله: كان اعتقادى أن الصحافة المطبوعة قصيرة العمر، وأنها ستترك مكانها للصحافة الإلكترونية الأسرع والأرخص، الصحافة المطبوعة تواجه مشاكل تضاعف أسعار كل احتياجاتها من ورق وأحبار وزنكات وأفلام، فى الوقت الذى أصبح التليفزيون والفضائيات وحتى الإنترنت منافسا خطيرا للصحافة المكتوبة فى «كعكعة» الإعلانات- أهم وسيلة تغطى بها الصحافة المطبوعة الفرق بين تكاليفها وإيرادات توزيعها- وفى مصر على سبيل المثال، نظرا لزيادة عدد الصحف التى صدرت فى الفترة الأخيرة، أصبحنا أمام ظاهرة صحف يومية توزع عدة مئات! وهكذا كما قلت فقد كان الاعتقاد أن الحقبة المقبلة من القرن الواحد والعشرين ستشهد خروج عدد من الصحف من السوق، ودخول عدد آخر من الصحف الإلكترونية.. والآن أرى أن الطباعة الرقمية هى التى ستنقذ الصحافة المكتوبة وتحافظ على استمرارها سنوات أخرى. الصحافة الورقية لن تندثر • يحيى قلاش نقيب الصحفيين السابق يقول: إن الصحافة الورقية لن تندثر، لكنها تعانى من بعض المشكلات فقط، إن انخفاض نسب توزيع الصحف الورقية وإغلاق بعض المؤسسات الصحفية ليس له علاقة بالتحول الإلكترونى للصحافة فى مصر أو الدول العربية، لكن الأزمات المالية العالمية كانت السبب الرئيس فى تراجع الصحافة المطبوعة، وبالتأكيد فإن الصحافة الإلكترونية ليست بديًلا عن الصحف الورقية، لكنها تستهدف جمهورا محددا أغلبه من الشباب والباحثين عن الأخبار السريعة، وأن الصحف الورقية لا تزال تحتفظ بجمهورها ومتابعيها. رجل مريض.. ينتظر الموت • الدكتور محمد شومان عميد كلية إعلام، الجامعة البريطانية: أنا شخصيا أرى أنه لا مستقبل للصحافة الورقية فهى تتراجع، وسيكتب التاريخ قريبا نهايتها، لكن العديد من المنظمات الدولية المهتمة بمتابعة توزيع الصحف الورقية والإلكترونية أعلنت العام قبل الماضى 2015 أن الصحف الورقية سجلت، ولأول مرة فى القرن الواحد والعشرين، زيادة فى معدلات التوزيع، والحقيقة أن هذه الإحصاءات كانت مفاجأة سعيدة لعشاق الصحافة الورقية، المتمسكين باستمرارها. الدول التى تحظى ببنية اتصالية وتكنولوجية متقدمة تتخلى عن الصحف الورقية لصالح الإلكترونية، ويبدو أن هذا المسار هو حكم التاريخ على الصحافة الورقية، بكلمات أخرى إن الزمن كفيل بتوفير بنية اتصالية متقدمة فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ما يضمن مزيدا من التقدم للصحافة الإلكترونية والتراجع التدريجى لوجود وانتشار الصحافة الورقية. البعض، سواء كانوا صحفيين أو قراء أو أساتذة إعلام أو رجال دولة، فهؤلاء لأسباب كثيرة يرون أن الصحافة الورقية ستبقى، وأن هناك إمكانية لتطويرها من خلال طرح صيغ وأشكال جديدة من الصحف الورقية، وتقديم مضامين غير تقليدية قادرة على جذب اهتمام الجمهور. ويرى أنصار بقاء الصحافة الورقية أن بعض الدول تشهد رواجًا للصحافة الورقية، ويقدمون عن حق أرقامًا ومؤشرات إحصائية لزيادة المطبوع فى دول كالهند والصين واليابان، لكن الحقيقة أن هذه الدول تبدو كحالات استثنائية، لأن المطبوع فى بقية دول العالم يتراجع، وتختفى صحف كثيرة، والأهم أن أغلب الصحف الورقية فى العالم تعانى من مشكلات مالية، نتيجة ضغوط المنصات الإلكترونية، وكسبها كل يوم لمزيد من القراء، مما يقلص دخل الصحف الورقية من الإعلانات، التى تهرب إلى السوشيال ميديا والإعلام الرقمى. لذلك، فإن حال الصحافة الورقية كالرجل المريض الذى ينتظر الموت، لكن أسرته وأصدقاءه لأسباب عاطفية يتمنون له الشفاء والعودة للحياة، ولا شك أن المشاعر والعواطف أمور بالغة الأهمية فى تقرير مصير الإنسان والأشياء التى ارتبط بها، من هنا فإن الروابط العاطفية بين كبار السن «الأجيال فوق الخمسين سنة» والصحافة الورقية، تجبرهم على الدفاع عن الصحافة الورقية بالحق أو بالباطل، وتجعلهم يتحدثون عن أمور غير منطقية، تمامًا كما يرى كل محب أن حبيبته هى أجمل وأرق بنات الأرض. • سماح عبد الرازق الشهاوي- دكتوراه فى الصحافة، كلية الإعلام، جامعة القاهرة، تنفى هذا الكلام المتشائم من خلال ما جاء فى رسالتها: يرى معظم الخبراء أن الصحف المصرية المطبوعة لن تختفى فى المستقبل، وفيما لم ينف بعض الخبراء الذين اتفقوا على عدم اختفاء الصحف المطبوعة فى المستقبل تأثرها بزيادة استخدام الصحف الإلكترونية وعلى الصحف المطبوعة بذل جهد من أجل البقاء، وقد تظل ولكن يختفى النموذج الاقتصادى الذى تقوم عليه فتصبح مجانية تقوم فى تمويلها على الإعلانات. ونقلت الباحثة إنه فى كل الأحوال لا بد أن نضع فى الجريدة المطبوعة ما يبرر وجودها، فإذا لم تطور الصحف المطبوعة من محتواها وتركز على المحتوى الحصرى والتحليلات والقصص الإخباربة والبحث فيما وراء الأخبار فستختفى هذه الصحف وستفقد مبرر وجودها، فحتى كبار السن الذين يمثلون الجمهور الأكبر للصحف المطبوعة أصبح بعضهم يتعامل مع التكنولوجيا الحديثة. -أندرو مار- رئيس التحرير السابق لجريدة «إندبندانت» البريطانية يرى أن الجريدة الورقية لا تموت وأن كل ما فى الأمر هو أن عليها مواصلة العملية المهنية وتطويرها، والصحف التى تهتم بالذات بمسألة العمل الصحفى الجاد، ستكون هى الصحف الناجية والمستمرة، لأن صحافة الإنترنت لا تملك القدرة على العمل الصحفى الحقيقى، بقدر ما تعتمد على الخفة وعدم الدقة والنقل من الصحف الورقية. ••• هذه جولة مع الأفكار والآراء المتناقضة بين التفاؤل والتشاؤم حول مستقبل الجريدة اليومية الورقية فى عصر الإنترنت ولا أريد أن أضيف إلا قناعتى بأن الصحافة التى تجاوزت مخاطر ظهور الراديو واستمرت وتصدت لسيطرة التليفزيون على الموقف لحظة ظهوره ونجحت فى البقاء والتجدد، قادرة على تجاوز مخاطر عصر الإعلام الرقمى.• فى الأسبوع المقبل نكمل.