قوية لحد القسوة، جريئة إلى حد التهور, مغامرة إلى حد أنها تتحدى وحدها مظاهرة ضخمة أطلقها حزب الوفد عليها لتخويفها وتحطيم دارها، عنيدة إلى درجة أنها رفضت تهديد مصطفى النحاس وواصلت فى الدفاع عن رسالتها, هى روزاليوسف السيدة العظيمة التى يستعرض الأستاذ رشاد كامل فى كتابه الجديد (جريدة قالت لا) الذى تصدره مؤسسة روزاليوسف ضمن سلسلة كتب عن تراث روزاليوسف بدعم كبير من المهندس عبدالصادق الشوربجى، رئيس مجلس إدارة المؤسسة لتذكير من عاصروا هذه الأجيال بعظمتهم وكى يستفيد الجيل الجديد من فكر واستقلالية من سبقوه حيث يسرد الكتاب كثيرا من تفاصيل شخصية السيدة روزاليوسف ويتعرض لشخصيات أخرى من كتاب الجريدة اليومية منهم الكاتب الكبير عباس العقاد. • صداع فى رأس الجميع فالجريدة اليومية لم تستمر سوى العام وبضعة أشهر ولكنها أثبتت عن حق كيف يكون للصحافة دور فى محاربة الاستبداد الملكى والحزبى والفكرى، وضربت مثالا حيا فى كيف تكون الجرائد الموالية للحزب فعلى الرغم من تأييدها لحزب الوفد فلم تكن بوقا له عارضته وأصبحت صداعا لا ينتهى فى رأسه وفى رأس زعيم الحزب مصطفى النحاس باشا وسكرتير الوفد ورجله القوى مكرم عبيد باشا، وكانت صداعا مزمنا فى رأس الملك فؤاد ورأس المندوب السامى البريطانى حاكم مصر الحقيقى فى تلك الأيام. فكانت جريدة يحاربها الأصدقاء والخصوم فى وقت واحد، الوفد يحاربها والحكومة تحاربها والإنجليز يحاربونها، ولم يقف بجوارها إلا الرأى العام الذى آمن بها. الكتاب الجديد للأستاذ رشاد كامل ليس كتابا أرشيفيا ولا هو جمع لما كتب فى جريدة منذ 80 عاما، لكنه كتاب للتاريخ يحكى بطولات لشيوخ وأساتذة الصحافة ويأخذنا لماض بعيد كانت الصحافة فيه عن حق صاحبة جلالة، وكان العاملون بها أصحاب رسالات. فمنذ 80 عاما فى 25 فبراير سنة 1935 صدر العدد الأول من جريدة روزاليوسف اليومية التى أصدرتها سيدة الصحافة المصرية روزاليوسف لتقول لا.. لا للاستبداد الملكى والحزبى والفكرى. جريدة ناشئة صدرت على مبادئ حزب الوفد وساندته وأيدته، ثم اختلفت معه وخاصمته فأصدر الوفد بيانا يعلن فصلها وتبرؤه منها. جريدة كان يكتب فيها ويحررها نجوم الصحافة من الدكتور محمود عزمى إلى كاتب الوفد الأول عباس محمود العقاد وعلى صفحاتها رحبت بكتابات شباب أصبحوا نجوما فيما بعد أمثال كامل الشناوى وأحمد كامل مرسى ونجيب محفوظ ومأمون الشناوى وسيد قطب. وجريدة كان من قرائها جمال عبد الناصر وأنور السادات، جريدة أشعلت ثورة الشباب سنة 1935 فأقالت حكومة توفيق نسيم باشا، وأعادت دستور سنة 1923 الذى ألغاه إسماعيل صدقى باشا، جريدة وقفت وحدها بمعاونة القراء والرأى العام لتقول لا... حاول الجميع إخماد صوتها وفشلوا وحاولوا قطع لسانها وفشلوا. سنة وبضعة أشهر ظلت تصدر روزاليوسف حتى أغلقتها حكومة الوفد وتوقفت عن الصدور وبقيت روزاليوسف المجلة. • عناد وكبرياء روزاليوسف السيدة ستظل دوما حالة استثنائية فى تاريخ الصحافة فكما وصفها أستاذنا كامل زهيرى هى سيدة مستقلة وحرة ذات سيادة وحكاية جريدتها اليومية خير دليل على ذلك. أما الأستاذ الكبير مصطفى أمين فقد وصفها بقوله: امرأة كانت لها شجاعة ألف رجل إذا أقدمت لا تخاف، وإذا حاربت استمرت فى المعركة حتى ولو سقطت على الأرض لا تعرف المهادنة، وتكره التراجع، وتمقت الفرار، لا تحتمل أن يمس أحد جريدتها أو يقف فى طريقها وكانت تنفجر فيه كالنمرة وكان الوزراء يحسبون حسابا لثورتها والصحفيون يحسبون حسابا لغضبها حيث جاءت كل المجلات التى أصدرتها السيدة روزاليوسف ومنها الجريدة اليومية لتكون نسخة من العناد والكبرياء والثورية .. كان يرأس تحرير الجريدة منذ عددها الأول الكاتب والسياسى اللامع الدكتور محمود عزمى ثم خلفه عبد الرحمن فهمى بك أحد أبطال ثورة 1919. الغريب أن رؤساء تحرير روزاليوسف وكاتبها الأول والأوحد عباس محمود العقاد جميعهم لم يكتبوا شيئا عن روزاليوسف الجريدة ولا عن ذكرياتهم فيها، فعباس العقاد وقف فى مجلس النواب وهدد بتحطيم رأس الملك وحكم عليه بالسجن تسعة أشهر وهاجم فى جريدة روزاليوسف الوفدية سياسة الوفد ودارت معارك طاحنة بين العقاد وزعماء الوفد. روزاليوسف الجريدة اليومية كانت مرجعا رئيسيا وأساسيا لمئات من الدراسات والأبحاث ورسائل الدكتوراه التى كتبت عن تاريخ الحركة الوطنية خصوصا أثناء حكومة توفيق نسيم باشا، حيث اعتبرت الجريدة من العوامل الرئيسية المؤثرة التى نبهت الشعور الوطنى ومهدت لثورة الشباب نوفمبر 1935، وقد أغلقها حزب الوفد فى عام 1936 بعد نجاحه فى الانتخابات. • التابعى وروزاليوسف فى العدد الأول من الجريدة تصدر عنوان «وابتدى المشوار.. جريدة يومية كبرى» مع عناوين أخرى خلافات تافهة بين روز اليوسف ومحمد التابعى، والتابعى كان يفكر فى الانفصال عن روزاليوسف منذ عام 1932. فكرى أباظة يعتذر عن رئاسة التحرير والدكتور محمود عزمى يوافق..النحاس باشا لروزاليوسف أنا مش راضى يا ست.. روزاليوسف ترفض طلب مكرم عبيد بتغيير اسم الجريدة. واجهت السيدة روزاليوسف بمطبوعتها الجديدة روزاليوسف اليومية عددا كبيرا من المعوقات والعقبات حتى إن الكثير توقع لها الفشل. بدأت العقبات منذ خروج الأستاذ محمد التابعى من روزاليوسف ومعه ألمع الشباب مصطفى وعلى أمين وسعيد عبده الشاعر والزجال والرسام صاروخان، حيث تعكرت الأجواء بين السيدة فاطمة اليوسف وبين التابعى، حيث أخذ المحيطون به يدفعونه للاستقلال والعمل بعيدا عن روزاليوسف، وطلب مكرم عبيد من روزاليوسف أن يكون التابعى شريكا فى المجلة، فرفضت روزاليوسف لأنها كانت ترى أن المجلة شيء خاص بها وتود أن تحتفظ بها لابنها لذلك قررت أن تمضى وحدها. وإذا كان هذا هو ما ذكرته السيدة روزاليوسف فإن الأستاذ صبرى أبوالمجد فى كتابه الوثائقى عن محمد التابعى يروى قائلا: إن الخلاف دب أكثر من مرة بين التابعى والسيدة روزاليوسف، فقد حاول التابعى أن يكون صاحب جريدة وكانت أولى المحاولات فى 25 نوفمبر سنة 1928 حيث تقدم إلى مدير المطبوعات طلبا بالترخيص لإصدار مجلة أسبوعية أدبية مصورة لا علاقة لها بالدين أو السياسة تصدر فى القاهرة وباللغة العربية اسمها النهاردة، وكان يفكر كثيرا فى ترك روزاليوسف ويردعه عن ذلك مصطفى النحاس ومكرم العبيد خوفا من أن يظن الناس السوء بى إن حصلت على تصريح من وزارة إسماعيل صدقى. أما من كان يحرض التابعى على ترك روزاليوسف وإصدار مجلة باسمه فهم الدكتور أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى وسليمان نجيب، وكانت القشة التى قصمت ظهر البعير عندما كان يقترح مصطفى أمين على السيدة روزاليوسف أن يسافر إلى الإسكندرية ويجمع الأخبار فعارضت روزاليوسف ذلك بشدة وكانت مشادة بودلت فيها العبارات الشديدة ولمح التابعى الدموع فى عيون مصطفى أمين فانضم له ونصره وترك وقتها المجلة. ولم يمنع الخلاف بين التابعى وروزاليوسف أن يكتب لها فى عيد ميلاد المجلة سنة 1957 مقالا جميلا يصف فيه قوة إرادة السيدة وعزيمتها وتغلبها على كل المصاعب. • العقاد والوفد ويستمر رشاد كامل فى رصد الوقائع التاريخية المهمة، حيث يتعرض فى الفصل الرابع عن كواليس ثورة العقاد ضد الوفد، فكان زعيم الوفد سعد زغلول مدركا لأبعاد شخصية العقاد وحاول التعامل معها بذكاء فعندما خالف العقاد سعدا فى بعض مقالاته قال الزعيم لأنصاره دعوه يختلف معى أو حتى يسبنى وكان يسميه الكاتب الجبار. لقد افتقد العقاد فى زمن وفد مصطفى النحاس ما وجده ولاقاه فى زمن سعد زغلول، فكان سعد مرنا حسن التصرف وبدهائه كان يفهم العقاد فالاحتفاظ بالعقاد يحتاج أيضا إلى احتمال بعض نزوات عناده وتمرده وحبه للانفراد وهذا ما ذكره رجاء النقاش. وفى الفصل الخامس يستمر رشاد كامل فى سرد تفاصيل بداية معركة روزاليوسف مع الوفد، حيث هادن الوفد حكومة نسيم باشا بينما رفضت روزاليوسف، وكيف تحولت العلاقة بين النحاس باشا والعقاد من العناق إلى الخناق ومقالات العقاد التى كانت تثير غضب الحكومة ومنها المقال الذى كتبه العقاد عن وزير المعارف ووصفه له بأنه ليس من أصحاب العصمة ويستمر العقاد فى انتقاده اللاذع للخبراء الإنجليز الذين استعانت بهم الحكومة مما يدفع النحاس باشا أن يرجو العقاد عدم الكتابة عن الخبير الإنجليزى وتزداد روزاليوسف فى الإصرار على كشف الفساد، فتكتب أن مصر أصبحت مستعمرة بريطانية وتطالب الحكومة بحماية مصالح البلاد ويشكو رئيس الحكومة روزاليوسف اليومية للنحاس باشا.. وفى الفصل السادس يوضح الكتاب كيف أعلن العقاد التحدى ضد النحاس باشا وتفاصيل الخطاب الغاضب من روزاليوسف إلى مكرم عبيد سكرتير الوفد وتفاصيل تهديد الوفد لروزاليوسف وأن عليها أن تتحمل نتائج ما تنتهج واللقاء العاصف بين النحاس باشا والعقاد يصرح بعده العقاد قائلا: لسنا مع الوفد. ويكتب قائلا: إذا خسرت الأمة حرية رأيها وشجاعة إيمانها، فلا خير لها فى استقلال ولا دستور ولا انتخاب، فقد كانت روزاليوسف فى ذلك الوقت محل سخط وغضب من الجميع باستثناء الرأى العام فحكومة توفيق نسيم باشا غاضبة عليها والوفد وقادته غاضبون ونفد صبر الوفد على السيدة روزاليوسف وجريدتها المشاغبة التى انحازت إلى المبادئ لا الأشخاص، حيث تروى السيدة روزاليوسف تفاصيل ما جرى قائلة: كان الوقت خلال هذه الحملة صيفا سنة 1935 وكان النحاس ومكرم فى الإسكندرية وفوجئنا ليلا برسالة تليفونية من مراسل الجريدة فى الإسكندرية يقول فيها إن مكرم عبيد استدعاه وقال له أمام صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس إن الوفد غير راض عن خطة الجريدة، وإذا استمرت على نهجها سوف يصدر الوفد بيانا ضد روزاليوسف طالبا مقابلة السيدة صاحبة الجريدة، وقد أرسلت السيدة روزالوسف خطابا إلى مكرم عبيد تقول له إن المجلة لم تحد عن خطتها المألوفة وهى خطة النقد الفكاهى أما الجريدة فعباس العقاد وفدى صميم له من ماضيه المجيد فى الدفاع عن الوفد وعن القضية المصرية ما يجعله فوق الشبهات وأكملت أنها ضحت بكل ما تملك من مال ونشاط فى سبيل الوفد وقد لاقت فى سبيل ذلك جميع أنواع العسف والجور من مختلف الوزارات التى تقلبت فى الحكم.. لم يكن يخطر ببال العقاد أن يصبح خصم الوفد الأول بعد مشادة بينه وبين النحاس باشا. وفى الفصل الثامن يستعرض الكتاب وساطة أم المصريين صفية زغلول بين العقاد والوفد وهجوم صحيفة الجهاد على جريدة روزاليوسف ووصفها بأنها فرقة روزاليوسف، وحكاية رفض روزاليوسف لرشوة مالية ضخمة من السفارة البريطانية، حيث عرض المندوب السامى البريطانى أن يدفع للسيدة روزاليوسف خمس آلاف جنيه دفعة أولى ثم ألفى جنيه شهريا لمدة طويلة بشرط أن توقف الحملة نهائيا على حكومة توفيق نسيم باشا وهو ما رفضته السيدة. ويختتم الفصل ببيان الوفد الذى أكد أن الجريدة لا تمت له بصلة ووقتها خرجت روزاليوسف بملحق سريع ساخر بعنوان الوفد المصرى يحل القضية المصرية. وفى الفصل التاسع نرى تطور الصراع حيث يصف النحاس ومكرم عبيد روزاليوسف بأنها حذاء من الأحذية ويكتب العقاد مقالا بعنوان خرافة اسمها مصطفى النحاس وتؤجر الحكومة البلطجية للاعتداء على روزاليوسف. • نهاية وبداية للتاريخ وتنتهى حياة روزاليوسف اليومية فتحاصرها المشاكل من كل جهة، فيرفع رئيس تحريرها محمود عزمى قضية على روزاليوسف بباقى عقده ويتهم الوفد الجريدة بالتفريق بين المسلمين والأقباط وتدفع الحكومة لمتعهدى الصحف ليتلاعبوا فى توزيع الجريدة وتصل خسائر روزاليوسف ل36 ألف جنيه، ويعتدى أعضاء الوفد بالضرب على من يشترى الجريدة، وتدخل السيدة فاطمة اليوسف الحبس فقد جاء أحد وكلاء النيابة مع قوة من البوليس يفتش المجلة ووجدت فى تفتشيهم استفزازا عجيبا ومبالغا فصاحت بهم فقبض عليها لسبها وكيل نيابة حيث اعتبره تعديا عليه أثناء تأديه عمله.. لتموت الجريدة.. ويظل تاريخها باقيا للأبد. •