مسودة الدستور سقطت، وهوت، ورسبت فى نظر معظم طوائف وفئات المجتمع، فهذه المسودة ترتد بمصر عدة قرون إلى الخلف، والأمثلة كثيرة منها تبنى الجمعية لأفكار شاذة لم تعرفها الدساتير المصرية السابقة، أو دساتير الدول الأخرى، علاوة على أنها غير منطقية كالمادة التى اقترحها البعض بشأن «السيادة لله تعالى»، وكأن الله يحتاج مادة فى الدستور لحمايته، كما أن مسودة الدستور استخدمت عبارات ومفاهيم ليس لها توصيف قانونى أو علمى، وهو ما يجعل الضمانات الدستورية مجرد لعبة تتقاذفها أهواء المفسرين، ومصالحهم الضيقة، كما أن بعض فقهاء القانون وصف باب الحقوق والحريات فى هذه المسودة بأنه أسوأ الأبواب، لأنه يترجم العداء المتفشى بين معظم أعضاء الجمعية التأسيسية، تجاه حقوق المرأة، والطفل، وحرية الإعلام، وتداول المعلومات، والحق فى المواطنة، وحرية المجتمع المدنى، والحريات الدينية، كما عملت الجمعية فى مسودتها على تقليم أظافر جميع الجهات والسلطات التى تعرقل مشروع الهيمنة على سلطات الدولة، فوضعت النصوص التى تمنع الرقابة الفعالة على السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما حدث فى نصوص الصحافة، والمحكمة الدستورية العليا، والجهاز المركزى للمحاسبات، والنيابة الإدارية، حتى تكون جميعها فى قبضة السلطة التنفيذية. سادت حالة من الجدل الحاد داخل الإدارة الأمريكية حول وثيقة الدستور المصرى، حيث قال مسئولون أمريكيون أنه كانت هناك مناقشات داخلية تم خلالها انتقاد مسودة الدستور المصرية بشكل علنى لأنها تحد من حرية التعبير؛ ولم تعط ضمانات حرية العبادة؛ وحقوق المرأة.
وأعربت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية «فيكتوريا نولاند» عن الأسف الشديد لعدم وجود توافق فى الآراء فى عملية كتابة الدستور فى مصر، بل ووصفته بأنه يفتقر إلى التوافق بشدة.
وقالت إن واشنطن تواصل حثها لحكومة الرئيس مرسى على احترام آراء جميع المصريين، والسماح بالاحتجاج والمعارضة السلمية والشفافة.
ومن ناحية أخرى دعا رئيس البرلمان الأوروبى مارتن شولتس إلى ممارسة ضغط سياسى على الرئيس محمد مرسى من أجل التدخل للحد من سيطرة الإخوان على السلطة فى البلاد، مبينا أنهم يستغلون المشاعر الدينية لأغراض سياسية، كما دعا الاتحاد الأوروبى أن يوضح للحكومة المصرية أنه بدون الديمقراطية التعددية فى مصر لن يكون هناك تعاون اقتصادى أو سياسى معها.
وفى ذات الوقت بعث رئيس المفوضية العليا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان «نافى بيلاى» رسالة إلى محمد مرسى يطالبه فيها بمراجعة موقفه من مسودة الدستور؛ وحثه خلالها على «إعادة النظر فى مسودة الدستور»، مؤكدا للرئيس مرسى أن «إقرار الدستور فى ظل هذه الظروف ربما يكون إجراء من شأنه إحداث المزيد من الانقسامات».
ولكن ما هو الحال إذا كانت الجمعية التأسيسية قد تعمدت عدم احترام مبدأ الشفافية فى أعمالها، سواء مع الرأى العام، أو فى العلاقة الداخلية بين لجانها النوعية ولجنة الصياغة، والأمانة العامة، وما هو الحال أيضا إذا كانت الجمعية قد عملت على تشتيت ذهن الرأى العام بإصدار مسودات مختلفة، وإحداث تغييرات مفاجئة فى المواد من خلف ظهر الأعضاء - وفق ما اشتكى بعضهم - وما هو الحال أمام الإصرار الغريب على الانتهاء من الدستور فى أسرع وقت؛ وطرحه للاستفتاء دون انتظار صدور أحكام المحكمتين الدستورية العليا، والقضاء الإدارى؛ والذى سيؤدى بنا فى النهاية إلى طريق مسدود، لأنه حتى لو حدث الاستفتاء، فذلك لن يحصن الجمعية التأسيسية من البطلان، وسيدخلنا فى متاهة دستورية وسياسية لا يعلم مداها ولا نتائجها أحد، وذلك لأنئ أحكام المحكمة الدستورية العليا، والإدارية العليا قد جاءت قاطعة وحاسمة فى أن «الاستفتاء الشعبى لا يحول دون الطعن على القرار الإدارى المعيب أو تطهيره من العيوب التى شابته، إذ ليس من شأن الاستفتاء أن يرد قرارا معدوما إلى الحياة ولا إسباغ الصحة على قرار ولد باطلاً، ولا أن يغير من طبيعته فيلحقه بأعمال السيادة»، «حكم المحكمة الدستورية العليا فى القضية رقم 14 لسنة 8 جلسة 7/3/1992 وحكم المحكمة الإدارية العليا فى الطعن رقم 7943 لسنة 46 ق.ع جلسة72/3/4002»، وفى حكم آخر تقول المحكمة الإدارية العليا إن موافقة الشعب على القرار المطعون فيه الذى جرى عليه الاستفتاء لا يغير من طبيعته القانونية أو من مشروعيته، لأن الاستفتاء مؤداه موافقة الشعب أو عدم موافقته على القرار من حيث ملائمته سياسياً وليس من شأنه تطهير القرار من العيوب التى يكون مشوبا بها أو تغيير طبيعته القانونية «حكم المحكمة الإدارية العليا فى الطعن رقم 1774 لسنة 29 ق.ع جلسة 27/6/1993».
وهو ما يعنى أن الإصرار على سلق الدستور غير المتوافق عليه؛ وسرعة تسليم مسودته النهائية لرئيس الجمهورية، وطرحه للاستفتاء الشعبى بنفس السرعة أمر فى غاية الخطورة؟، بل قد يجعل الدستور نفسه باطلاً.
∎ دستور أعور ويرى الدكتور محمود العادلى أستاذ القانون الجنائى والمحامى أمام محكمة النقضئ والإدارية العليا والدستورية العليا: أن مسودة الدستور الجديد تؤكد على أن الدستور القادم سيكون «أعرج» -لأنه استبعد أحد عنصرى الأمة - وأعور - لأنه لا يرى إلا مصالح تيار سياسى واحد، وقال: هذه المسودة تنطوى على تراجع فى ضمانات العديد من الحقوق والحريات بدرجة أشد تقييدًا مما كان عليه الحال فى دستور1971.
فإذا كانت تأسيسية الدستور قد أبقت على المادة الثانية التى تنص على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، وهى مطابقة للمادة الثانية التى كانت موجودة فى دستور1971، إلا أنها من المواد التى حظيت بإجماع القوى السياسية، كما وافقت عليها الكنيسة القبطية، ولكن جاءت المادة «219» ناسفة للتوافق، ومثيرة للجدل، حيث تضمنت هذه المادة تفسيراً لمصطلح «مبادئ الشريعة»، حين نصت على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة» وقد اعترض على هذه المادة جميع الأحزاب، والقوى السياسية، والدينية، كما اعترض عليها البابا تواضروس الثانى بطريرك الكنيسة القبطية، واعتبر المعترضون أن هذه المادة ستفتح الباب أمام الجماعات الوهابية التى تفرض أفكارها على المجتمع، كما أنها ستفتح أيضاً الباب لتفسيرات واسعة بما فيها التفسيرات الأكثر تشدداً، ويقول الدكتور محمود العادلى أن المادة الخاصة بتفسير مبادئ الشريعة الإسلامية ستثير الكثير من الجدل فى الحياة القانونية والقضائية فى مصر، لأن الاختلاف من سمات القضاة، وهذا سيؤدى حتما لاختلاف فهمهم لهذه المادة، وهو الأمر الذى سيجعل أحكام القضاء متفاوتة بالنسبة لنفس الوقائع المتشابهة، مما يضر بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء.
ويرى أنه كان ينبغى الالتزام بحكم سارٍ للمحكمة الدستورية العليا يفسر مبادئ الشريعة على أنها تشمل «أحكام الشريعة قطعية الثبوت قطعية الدلالة» أى تلك التى تُجمع عليها كل المذاهب الإسلامية.
و جاءت المادة الرابعة كإحدى المواد الخلافية دون أن يمسها تغيير أو تعديل، بعد أن اعترض عليها ممثلو التيار المدنى، فقد نصت على أن «الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، ويتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم، وتكفل الدولة الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل ويحدد القانون كيفية اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء، ويؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فى الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية، وكل ذلك على الوجه الذى ينظمه القانون».
ومن ناحية أخرى جاءت المادة «176» والتى تنص على أن «تشكل المحكمة الدستورية العليا من رئيس وعشرة أعضاء، يبين القانون الجهات والهيئات القضائية أو غيرها التى ترشحهم، وطريقة تعيينهم، والشروط الواجب توافرها فيهم، ويصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية» حيث استحدثت الجمعية التأسيسية نصا انتقاليا لقضاة المحكمة الدستورية، دون أن توضح مصير قضاة المحكمة الحاليين، ووصف الدكتور محمود العادلى إن عدم ذكر نص دستورى انتقالى آخر ينظم التشكيل الحالى للمحكمة، وهو المكون من تسعة عشر عضواً، نص انتقامى من أشخاص يراهم التيار الإسلامى معارضين له داخل المحكمة، وقال هذا الأمر يفقد النص موضوعيته، لأن هذا النص دون ذكر فترة انتقاليةئيعنى إعادة تشكيل المحكمة فور الموافقة على تمرير الدستور، وكان الأولى أن ينص على بقاء الوضع الحالى على ما هو عليه لحين تقاعد ثمانية من أعضاء المحكمة.
وأضاف العادلى أن من بين المفاجآت التى فجرتها المسودة النهائية للدستور، المادة «232» الخاصة بقانون العزل السياسى،بعد أن حكمت المحكمة الدستورية ببطلانه فى 14 يونيو الماضى وقال: هذه سابقة تشريعية تعد الأولى من نوعها فى تاريخ مصر؛ وهو نص انتقامى بالدرجة الأولى.
أما المادة «231» والتى نصت على أن تكون «الانتخابات التشريعية التالية لإقرار الدستور بواقع ثلثى المقاعد لنظام القائمة، والثلث للنظام الفردى، ويحق للأحزاب والمستقلين الترشح فى كل منهما»، فهى من إبداعات جمعية الغريانى حيث استحدثت الجمعية لأول مرة فى التاريخ نظاماً يسمح للمستقلين بتكوين قوائم مغلقة للمنافسة فى الانتخابات، وقال العادلى: إن نص المادة «231» هو تقنين النص الذى قضى بعدم دستوريته وبطلان مجلس الشعب بناءً على ذلك، وهذا يؤكد أن المجلس العسكرى، والمحكمة الدستورية لا ذنب لهما فى بطلان مجلس الشعب المنحل، وإنما التيار الإسلامى هو الذى فرض هذا النص فى قانون انتخابات مجلسى الشعب والشورى لتحقيق مصالحه الخاصة وحينما قضى ببطلان النص، أرادوا أن يصبغوه بصبغة دستورية تحقيقا لذات المصالح السابقة.
∎ ألغام ولم تكن هذه المواد فقط هى الألغام التى نصت عليها مسودة الدستور، ولكنها تضمنت أيضاً فى باب السلطة التنفيذية «الفرع الأول رئيس الجمهورية» مادة انتقالية تفضى بانتقال «السلطة التشريعية» إلى مجلس الشورى القائم حالياً بمجرد إقرار الدستور فى استفتاء شعبى وإلى حين انتخاب مجلس شعب جديد فى غضون ستين يوماً من سريان الدستور، ويعنى ذلك انتقال سلطة التشريع من الرئيس محمد مرسى إلى مجلس الشورى الذى يهيمن عليه الإسلاميون.
وانتقد الدكتور رأفت فودة أستاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة القاهرة، هذه المادة مؤكدا أن إعطاء مجلس الشورى دوراً تشريعياً بدلاً من مجلس الشعب؛ أمر غير قانونى، وأن رئيس الجمهورية لا يملك تفويض مجلس الشورى السلطات التشريعية عند حل مجلس الشعب، وأشار إلى أن هذا التفويض يتناقض قانوناً مع الإعلان الدستورى الذى منح مجلس الشعب سلطة التشريع، مؤكداً أن تفويض مجلس الشورى باطل، لأن التفويض فى هذه الحالة يكون معكوساً ومقلوباً لان المُشرع نفسه هو الذى يُفوض للرئيس أحياناً، وليس الرئيس هو المُفوض، وأكد أن ما يحدث بلطجة قانونية تحكمها الأمزجة والأهواء السياسية.
كما خلت المسودة النهائية للدستور من أى إشارة إلى منصب نائب رئيس الجمهورية، بل ونصت على أنه «إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لسلطاته حل محله رئيس مجلس الوزراء»، كما نصت على أنه «عند خلو منصب رئيس الجمهورية بالاستقالة أو الوفاة أو العجز الدائم عن العمل أو لأى سبب آخر، يعلن مجلس النواب خلو المنصب ويخطر المفوضية الوطنية للانتخابات ويباشر رئيس مجلس النواب مؤقتا سلطات رئيس الجمهورية» دون الحديث عن تعيين نائب لرئيس الجمهورية، وهى من الأمور التى نادت بها ثورة 25يناير، حين طالبت المخلوع بتعيين نائب لرئيس الجمهورية، ولكن أول رئيس منتخب بعد الثورة وقع فى نفس الخطأ، وكأنه يقول للثوار الديكتاتورية مازالت قائمة.
وفى ذات الوقت أبقت المسودة النهائية للدستور على مواد اعترض عليها الأعضاء المنسحبون من الجمعية التأسيسية مثل «المواد التى تتيح حل النقابات، ووقف ومصادرة وتعطيل الصحف بحكم قضائى»، وهو ما يمثل تهديدا واضحا للصحافة والنقابات، كما نصت المسودة النهائية على مادة تؤكد إنه «لا يجوز إسقاط عضوية أى عضو فى مجلس الشعب إلا بموافقة ثلثى أعضائه» وهو ما يفتح الباب أمام عودة ما كان يعرف ب «المجلس سيد قراره» أى أن مجلس الشعب يستطيع الإبقاء على أى من أعضائه حتى لو صدر حكم قضائى بعدم صحة انتخابه.
وقال المستشار أمير رمزى رئيس محكمة استئناف القاهرة إن مسودة الدستور الجديد تتضمن مادة ستكون سببا فى مساءلة الرئيس محمد مرسى بتهمة التدخل فى شئون القضاء عبر إعلانه الدستورى الجديد، وأضاف أن المادة رقم 168 فى المسودة، والتى تنص على أن «السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقا للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل فى شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم، موضحا أن هذه المادة تنطبق على الرئيس مرسى بعد أن تدخل فى شئون القضاء أخيرا وحصن قراراته والجمعية التأسيسية من إمكانية الطعن عليها أمام القضاء. ومن جهته أشار الدكتور عبدالله خليل الفقيه الدستورى إلى أن مسودة الدستور غير مفهومة، ويصعب على الشخص العادى تفسير موادها، ووصفها خليل بالركيكة والغامضة على عكس الدساتير العالمية التى تصاغ بأسس واضحة؛ وقال إن الصيغة العامة للمسودة جاءت ذات مرجعية دينية، كما أنه قد تم تقييد مواد ونصوص حقوق الإنسان بالمرجعية الدينية، وأشار أيضاً إلى وجود العديد من الصياغات المبنية للمجهول والتى لا يمكن تحديد المسئوليات بها. أما الدكتور جابر نصار الفقيه الدستورى، وأحد الأعضاء المنسحبين من التأسيسية، فقد انتقد انتهاء لجنة الصياغة من عملها قبل نظر مواد القوات المسلحة، وقال نصار «لأول مرة فى تاريخ الدساتير يعتبر دستور «الجمعية التأسيسية» القضاء العسكرى جهة مستقلة» مضيفا أن التأسيسية استحدثت أمرا عجيبا وسابقة تاريخية لم تحدث من قبل» كما أكد أن هذه المادة فتحت بابا فضفاضا لمحاكمات المدنيين أمام المحاكمات العسكرية.