ما أسهل الكلام وأيسره عن الحرية والعدالة والنقاء والشفافية واحترام القانون وأحكام القضاء!! ما أسهل أن تصرخ وتهتف وتنادى بدولة القانون وسيادة القانون وحكم القانون!.. كل هذا سهل ورائع طالما جاء فى مصلحتك ويتوافق مع مزاج سيادتك وحضرتك!! ما أعظم القضاء وأحكامه ونزاهته إذا أوصل سيادتك إلى البرلمان، وما أعظمه وما أروعه إذا أزاح منافسيك فى انتخابات برلمانية أو رئاسية!
أما إذا حدث عكس ذلك مما يتنافى مع مزاجك أو مصلحتك، فالأمور ليست كذلك!!.. ما معنى أن تطالب سيادتك بمحاكم عادلة ونزيهة وشفافة تحكم بما تريده أنت لا بمقتضى أحكام ومواد القانون!
لا أجد وصفا لهذا السلوك إلا بالعودة لعبارة السياسى الأشهر «ميكافيللى» وقوله: «الغاية تبرر الوسيلة»! هذه الانتهازية السياسية والوصولية الثورية هى أخطر وأعظم ما نعانيه الآن فى مصر من فصائل وتيارات تتمسح بالدين، وتتمحك بثورة 52 يناير، وتتاجر بدماء شهداء هذه الثورة العظيمة! [شفيق] هؤلاء الشهداء- رحمهم الله- أعطوا حياتهم فداء لمصر الجديدة وطنا يتسع للجميع، لا أحد فيه فوق النقد، والمساءلة والمحاسبة من أصغر مواطن لأكبر مواطن!
شباب ضحوا بحياتهم من أجل دولة يسودها القانون لا الأهواء والرغبات الحزبية، دولة كل المصريين لا فصيل سياسى بعينه أو تيار بعينه! وما هذا العبث والهطل الذى تمارسه نخبة هذا الزمان، تلك النخبة التى لا يعجبها رأى فتكفره، ولا يعجبها فيلم فتطالب بسجن أبطاله ومؤلفه ومخرجه بل مشاهديه أيضا. كل من هب ودب ارتدى ثيابه الثورية وهات يا تخوين وتكفير وسب وشتيمة وإهانة الملايين من المصريين! كل من هب ودب أصبح فقيهًا دستوريًا ومحللا قانونيًا وخبيرًا استراتيجيًا ومفكرًا تاريخيًا، وثوريًا فى الميدان!
إن بعض من يتحدث الآن بجهل نشيط مقتدر عن الدستور مواده، كان قبل سنوات يتنطط فى استديوهات التحليل الرياضى والمناحة التحليلية التى عقب كل مباراة ليحلل ظروف وملابسات احتساب الحكم ثلاث دقائق وقتا إضافيا بدلاً من دقيقتين و85 ثانية، وكيف أنه أهدر بذلك مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص فى عدم احتساب ثانيتين كانتا كفيلتين بتغيير مسار المباراة، لأن الجون بييجى فى ثانية على رأى أستاذنا المعلق الكروى الكبير «محمد لطيف» أبو وأستاذ التعليق الكروى فى مصر والعالم العربى!! الذين يتحدثون الآن بجرأة ووقاحة ويطالبون برفض أحكام القضاء لأنها لا تتوافق مع مزاج سيادتهم هم أنفسهم قبل سنوات الذين كانوا- فى استديوهات التحليل الرياضى- يطالبون باحترام قرارات الحكام لأنهم قضاة الملاعب!! لكن المصيبة الأكبر والأعظم بدأت عندما تكاثرت وكثرت وتوالدت البرامج الرياضية وعلى سبيل التشويق والإثارة وربما الجهل النشيط، بدأت تقدم فقرات ثابتة تناقش قرارات الحكام!! وتهاجمها وتنتقدها ويتطاول البعض على هؤلاء الحكام، وشارك فى هذه الكارثة «حكام» سابقون أو حاليون، وراح الحكام ينتقدون ويقللون ويسفهون من قرارات الحكام . وشارك فى المهزلة جمهور المشاهدين الذين راحوا ينتقدون الحكام ويتهمونهم بالانحياز لهذا الفريق أو ذلك!!
∎ ∎
من هنا يا سادة بدأت الكارثة الحقيقية، بدأت بانتقاد وشتم وسب «حكم مباراة» لتنتهى بانتقاد وسب قضاء مصر العظيم والجليل. كيف تردد النخبة عبر الفضائيات والصحف بضرورة احترام أحكام القضاء ثم تلحس هذا الكلام فى نفس اللحظة وتطالب بإنشاء محاكم استثنائية!!
كيف ترفض هذه النخبة- فى جميع مواقعها- المحاكمات الاستثنائية وتدينها وتستنكرها إذا مثلت أمامها وترحب وتطالب بها إذا حوكم فيها خصومها أو المخالفون لهم فى الرأى والرؤية؟! كيف تشيد الأكثرية البرلمانية بنزاهة وعدالة وشفافية القضاء عقب انتخابات مجلسى الشعب والشورى ثم تعود لتشكك فيه لمجرد أن حكم المحكمة لم يكن على هواها وجاء على غير مبتغاها؟! وكيف تعلن هذه الأكثرية البرلمانية أن الشرعية أصحبت للبرلمان لا الميدان- ميدان التحرير وغيره- ثم تلجأ إلى الميدان صارخة مستنجدة: الحقوا يا ثوار الثورة اتسرقت؟! وهل كانت هذه الأكثرية أو الغالبية أو باقى تيارات وفصائل وأطياف أن تصل إلى البرلمان إلا عبر الصندوق الانتخابى؟!
إن النخبة وقادة التنوير - ده لو فيه تنوير - الذين طالما وجعوا دماغنا بالكلام عن سيادة القانون وحكم القانون هم أول من يهتفون الآن بسقوط القانون وتطهير القضاء! وكأن الزمن والزمان عاد بنا إلى سنوات ما بعد هزيمة يونيو 7691 عندما وقعت مذبحة القضاء.. وهللت النخبة الناصرية وقتها لهذه الجريمة بحجة حماية الثورة من أعداء الثورة.. بل تمادى أحد رموز النظام وقتها وأعلن فى فخر: القانون فى أجازة!! وفى اجتماع مجلس الوزراء الموافق الثانى من أغسطس 8691 برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر- بعد أقل من شهرين على الهزيمة - تحدث وزير العدل المستشار «عصام الدين حسونة» ذلك الرجل المحترم والشجاع عن سيادة القانون، ووجه كلامه للحاضرين قائلا:
- ما الحكمة أولا من سيادة القانون؟! وماذا يقول هؤلاء الذين يحتكرون «لقب الثورية» عن سيادة القانون؟! [المستشار عصام حسونة ] - أما الحكمة من سيادة القانون فهي إشاعة الأمن النفسى وتأكيده فى نفس كل مواطن، وخصوصا الضعفاء منهم، ومن الأمن نفسى والاطمئنان، تنمو كل الفضائل.. شجاعة القول، الإحساس بالكرامة، زيادة الإنتاج ثم الولاء للوطن.
ومضى «عصام الدين حسونة» يوضح رؤيته ورأيه - حسب ما جاء فى مذكراته «32 يوليو وعبدالناصر : شهادتى» فيقول متسائلا: هل تحققت سيادة القانون؟! فلست أود أن أنبش الماضى، كل ما أود أن أشير إليه أن بعض الصحافة الثورية هللت عندما قيل إن القانون فى أجازة.. لماذا إذن لا يقول كل مسئول أنا ثورى إذن فأنا القانون.
وهكذا يا سيدى الرئيس - حمل فئات المسئولين وغير المسئولين فى هذا البلد سلطات رئيس الجمهورية فى جيبهم الأيمن، وسلطات مجلس الأمة فى جيبهم الأيسر، وسلطات المحكمة مكان المنديل وأعلنوا فى كل مكان نحن القانون! وحدثت المآسى والمهازل.. وشاعت الوصولية والانتهازية! ويكمل المستشار «عصام الدين حسونة» قائلا:
وحين تحدثت عن وجوب احترام القانون وقلت: إننى أفضل أن أدخل جهنم إذا كان يحكمها قانون عن أن أدخل الجنة إذا كانت الحياة فيها فوضى لا ينظمها قانون!! قاطعنى «عبدالناصر» بقوله: ليه؟!
أجبت: فى جهنم يحكمها قانون يبقى لى أمل الخروج منها، وفى جنة بغير قانون قد تخرجنى منها نزوة فرد إلى جهنم!!
أنهيت كلمتى وأنا أقرأ على قسمات وجه الرئيس إنه يكظم غيظه وإنه يوشك أن يفقد صبره!! ولا تعليق!
∎∎
وبدون لف أو دوران أو مواربة أقول: إن عبث الأمس يتكرر اليوم، وما قاله «عصام الدين حسونة» بالحرف الواحد وهو «ليس أقدر من السياسة ولا أخبث منها على إفساد «القضاء» فإذا تسللت التيارات السياسية إلى منصة المحكمة ذهبت بحيدتها ونزاهتها وعدالتها. هذا المعنى الجميل الواضح والناصع البيان عبر عنه بأصدق الكلمات كاتبنا وأستاذنا الكبير والجليل سلامة أحمد سلامة فى مقاله «كلهم طلاب سلطة» بالزميلة الشروق «9/6/2102» حين كتب يقول:
إن قيادات النخبة التى رشحت نفسها لمنصب الرئيس، فشلت فى فهم واحترام قواعد اللعبة الديمقراطية، كلهم طلاب سلطة، يبحثون عن موقع يظنون أنهم فيه قادرون على الأمر والنهى وسوق القطيع فى أى اتجاه، وحين ظهرت نتائج الجولة الأولى وفاز «مرسى» و«شفيق» بأعلى الأصوات لأسباب يستحقونها أو لا يستحقونها، رفض الخاسرون التسليم بالنتيجة، واتضح أن جماهير الغوغاء والمشجعين التى تقلب ملاعب الكرة رأسا على عقب إذا فشل فريقها، لا يختلفون عن مئات الألوف من الناخبين الذين خرجوا إلى ميدان التحرير يطالبون بتمكين الصباحى وأبوالفتوح من الانضمام مرة أخرى إلى السباق وحذف مرسى و أحمد شفيق فى صورة مجلس رياسى يقتسم فيه الفائز والخاسر مقاليد السلطة وهو قمة العبث بمفهوم الديمقراطية.
لا يقل عنه عبثا ذلك النزال الوضيع الناشب بين مرسى وشفيق والذى استخدمت فيه الأساليب النابية إلى حد تكسير العظام!! لماذا نطلب من الشعب أن يحترم القانون وأحكام القضاء وينصاع لمنطق العدالة إذا كانت قيادته التى هتف لها قد أعمتها شهوة السلطة ولم تعد تفرق بين الحق والواجب، وتجد من بين الكتاب والسياسين من يساند أهواءهم ورغباتهم.
انتهى ما كتبه الأستاذ «سلامة» فهل وصلت الرسالة؟!
ولا عزاء للديمقراطية وللصندوق وللشعب إذا كانت هذه هى «نخبته» التى هى سر «نكبته»! أخشى أن تطالب النخبة وتدعو إلى مليونية يكون شعارها: يسقط يسقط هذا الشعب!!