كنتُ ممن يعتبرون الأحلام مادة غامضة، مادة قد تحتاج إلي تفسير، لكنها أيضاً تحتاج بصورة مُلحة إلي وصف يصرخ بأجوائها. ها أنا وقد بدأتُ بداية خاطئة، لأن الحلم الذي أريد التحدُّث عنه لم يعطني سوي معلومة جافة، فقيرة من الأجواء، معلومة للأسف قد تُدرج في باب التفسير، لكنني أعزي نفسي بصدق المعلومة المُهوَّل بفعل الحلم، وهو صدق مٌقتضب إخباري لا فصال بعده. كان الحلم العنيد يعود إلي باستمرار علي فترات زمنية غير منتظمة. يجبرني الحلم علي الالتفات إليه دون بقية الأحلام. كنتُ في الحلم بشكل ما غير قادر علي أداء امتحان أو اختبار من امتحانات واختبارات الدراسية النهائية، ربما لأن الوقت قد فاتني، التأخر لسبب من الأسباب علي موعد الامتحان أو الاختبار النهائي، ودائماً في الحلم الفرصة نهائية أخيرة غير قابلة للاستئناف، ربما لأنني أهملتُ الاستعداد جيداً، ليس هناك فرق في الحلم، والإحساس الطاغي هي الخسارة التي لا تُعوَّض، إنني ضائع هنا في الحلم لا محالة. ليس هناك معالم للمرحلة الدراسية، فهي أحياناً مرحلة جامعية أو قبل جامعية. علي مستوي الواقع كنتُ متوسطاً في اجتياز الامتحانات والاختبارات الدراسية، ومع أنها كانت تُشكِّل لي أهمية قصوي، إلا أنني لم أكن قادراً علي بذل المجهود المناسب لهذا الاجتياز الذي كنت أتصوره في أحلام اليقظة ساحقاً، وبدلاً من الاستعداد الحقيقي كنتُ أتجمَّد قانعاً بتواضع ولا مبالاة، راضياً بنجاح عملي متوسط ينقلني إلي المرحلة اللاحقة، مع أن الخوف من الرسوب كان عظيماً في نفسي، لكنه يأتي فقط بعد اجتياز الامتحانات والاختبارات النهائية، أي في الفترة السابقة علي معرفة النتائج النهائية. في الغالب كان الحلم المُكرر يقع قرب هذه الفترة الحرجة، أي أنني في الحلم كنتُ منتظراً نتيجة نهائية يتوقف عليها وجودي كله. أستيقظ بسعادة، وتكون العودة إلي الواقع عنيفة، وأتذكَّر في الحال، وبسرور فائق، أنني اجتزتُ علي مدي سنوات الدراسة الجامعية وما قبلها، كل الامتحانات والاختبارات بتقديرات متوسطة شبحية لا يشعر بها أحد. وعلي عكس المراحل الدراسية كنتُ في مهنتي بعيداً عن هذا الشعور، شعور الامتحانات والاختبارات والنجاحات، إنني هنا أخيراً في بيتي، أفعل ما شئت بثقة، بريئاً من لوثة حلم مهني يذكِّرني بعدم الإنجاز، لكنّ المفارقات القدرية المُضحكة تجعل الآخرين بحدس صائب، يتعاملون مع إنجازي المهني، وكأنهم يقولون لي: ألم تجتز مراحلك الدراسية بتقدير متوسط؟ وكرد فعل زائد في عدوانيته، كنتُ أخبرهم علي الفور، باجتياز دون المتوسط، وأقول في نفسي: وماذا يهم، إنني هنا في بيتي. ومع كل هذا يبقي ألم الحلم المُكرر أبدياً في مكان ما بين العقل والقلب. أستعرض في ذاكرتي بعد حدث اليقظة السعيد، وأثناء إفطار معاد للساعة البيولوجية في الواحدة بعد منتصف الليل، أصعب الامتحانات والاختبارات، مُستعذباً هول معجزة أنني هنا في بيتي، والامتحانات والاختبارات بعيدة عني في زمن ماض لا رجعة له إلا في حلم مُذنب. وبعد طعم شريحة البسطرمة الخضراء كما يطلقون عليها لكونها ما زالت دموية أكثر مما ينبغي، ورغيف الفينو الطازج، وحبات الزيتون الإسباني، وعصير البرتقال البلدي اللاذع، أفكِّر أن مهنتي لم تصل بعد إلي عمق لا شعوري يجعلها ولو مرة واحدة تراودني في حلم، وكأنني لم أفارق بعدُ أداء الطالب المتوسط في الامتحانات والاختبارات النهائية، وكأن مهنتي ليستْ بيتي الحقيقي كما كنتُ أعتقد.