أوائل الأربعينيات في القرن الماضي،الشقة المجاورة ثلاث غرف كبيرة اتسعت لأسر ثلاثة، الأسطي فؤاد وزوجته أولجا، هو جزمجي مثقف ينشغل نهارا بصنع الأحذية ومناقشة السياسة مع زبائنه في الدكان وفي المساء يجلس في استرخاء علي الكنبة المجاورة للنافذة المطلة علي الشارع ويستغرق في قراءة جريدة الأهرام. في الغرفة الثانية وهي الوسطي يعيش أخوه الأستاذ ميشيل وزوجته روز، هو عازف كمان يقوم بتدريس الموسيقي لنا في مدرسة فاروق الابتدائية،وفي الغرفة الثالثة يسكن الأخ الأكبر حنا وزوجته صفصف، ربما كان هذا هو اسم التدليل لصفية، عم حنا كان يعمل موظف حسابات في مقهي فخم يرتاده علية القوم. في المساء يتجمع عدد من المطربين الدمايطة الهواة في صالة الشقة وكلهم مسلمون، ليتعلموا المزيد من فنون الموسيقي والغناء، عدد قليل منهم كان يجيد العزف علي العود ومنهم السيد أبو الخير الذي كان يعمل جزمجيا نهارا وفي المساء مطربا في فرق الأفراح الجوالة في دمياط وقري ومراكز الدقهلية، زوج عمتي روحية فيما بعد، ثم جاء الوقت الذي ترك فيه صناعة الأحذية وتفرغ للفن وأنا أعتقد أنه ندم كثيرا علي ذلك مع بداية الخمسينيات عند ظهور الأغاني الثورية واختفاء الغناء العاطفي. كنت مبهورا بهم في ذلك الزمن البعيد، وتمنيت أن أكون مطربا مثلهم، لا ليس مثلهم، بل أعظم منهم بكثير، لابد أن يكون صوتي قويا وجميلا، ولكن كيف أضمن ذلك، بالتأكيد هناك آلاف من البشر لهم أصوات قوية وجميلة، هناك حالة واحدة يمكن فيها تحقيق حلمي بسهولة وبلا مجهود، وهي أن تصاب الناس جميعا بنوبة برد حادة لا شفاء منها تعجزهم حتي عن الكلام، هكذا أكون أنا المطرب الوحيد بلا منازع. هي خاطر طفولي سريع أقرب إلي النكتة غير أن دلالته الوحيدة هي قوة غريزة العدوان عند الطفل قبل نضج الأنا العليا وقبل اكتمال عاطفة اعتبار الذات. وتطلب الأمر سنوات طويلة لكي أدرك أنه ليس من الضروري أن تفقد الناس أصواتها لكي يكون لك صوت متميز، ليس مهما أن تكون أغنيتك جميلة، المهم فقط هو أن تغنيها بكل ما في داخلك من جمال ورغبة في الاستمتاع بالحياة. استمتع بوجودك بين أصحاب الأصوات الجميلة وابتعد عن أصحاب الأصوات المزعجة. الأصوات الرديئة، والكلمات الرديئة، والأفعال الرديئة، تنبع مباشرة من أقوي غرائز البشر،غريزة العدوان، التي تكون في أنشط حالاتها في غياب أنا عليا ناضجة وقوية تتحكم فيها وتراقب مسارها وتوجهها لما فيه الخير للذات والجماعة. هنا نجد أنفسنا في مواجهة أخبث عواطف البشر وأكثرها ذكاء وشراسة " إنها عاطفة الغيرة المرضية" تلك النار المحرقة التي تندلع داخل نفوس الأشخاص غير الناضجين نفسيا واجتماعيا والتي يغذيها الإحساس المؤلم بالضآلة، لكي تتحول إلي سلسلة أفعال الهدف منها هو القضاء علي الآخرين. وشعارها أو المانيفستو غير المعلن لها هو .. يجب أن تكون كل الناس ضعفاء لكي أكون أنا الأقوي بينهم، أغبياء لكي أكون حكيم زمانهم،فقراء فأكون أغناهم، جهلاء فأظل أنا أكثرهم علما، يتراكم عليهم التراب والصدأ لكي أكون أنا اللامع الوحيد. ومع انحطاط هذه العاطفة وخبثها غير أنها حادة الذكاء وقادرة إلي أبعد الحدود علي القيام بكل عمليات الإخفاء والتمويه في إطار منضبط وقوي للغاية من التهذيب والكياسة، وفي ظروف التحولات التاريخية داخل المجتمعات، أقصد عندما تبدأ الناس في اعتناق قيم سياسية واجتماعية جديدة، ستجدهم قد استولوا بسرعة البرق علي كل الصفوف الأولي في مجالات الثقافة والفن والأدب والإعلام بل وفي السياسة.