برغم إقامة الروائي والطبيب السوري خليل النعيمي بباريس، التي امتدت لأكثر من 30 عاما، لم يبعد عن موطن ثقافته، ربما لأنه -وكما أكد لنا- ذهب إلي الغرب ليس هروبا من الرقابة، بقدر ما كان بحثا عن آفاق بديلة، ولعل ذلك هو ما جعل كتاباته تنحو منحي تجريبيا، محاولا الإفلات من تقنيات الرواية التقليدية، النعيمي أصدر سبع روايات، بالإضافة لعدد من كتب الرحلات، «روزاليوسف» التقته مؤخرا في »الملتقي الدولي الخامس للرواية العربية«، وكان لنا معه هذا الحوار: كيف بدأت رحلتك مع الكتابة؟ - مارست الكتابة وأنا مازلت طالبا في المرحلة الثانوية، وبدأت بكتابة الشعر خلال سنوات الدراسة في الجامعة، حيث صدر لي في دمشق ديوان بعنوان (صور من ردود الفعل) وتمت مصادرته فور صدوره، ثم توقفت عن كتابة الشعر، وظلت فكرة المصادرة للديوان الأول في ذاكرتي، لدرجة أنني أصدرت كتيباً صغيراً في باريس بعنوان «موت الشعر»، قدمت فيه دراسة تحليلية للدور الاجتماعي للشعر، وعلاقة الشاعر بالسلطة، وحاجة الشاعر المستمرة إلي جمهور مباشر مما لا يسمح له بتعميق رؤيته للكون والعالم ولذاته، وظفت هذه الدراسة التحليلية علي قصائد الشاعر أدونيس. كيف تم التحول إلي الرواية؟ - جاءت الرواية بشكل يكاد يكون انفجارياً، ولكن في نفس الوقت كان مخططاً له، واتجاهي إلي الرواية كان نتاجاً لظروف شخصية وتحولات المجتمع الذي أعيش فيه، وبعد هذا صدرت روايتي الأولي «الرجل الذي يأكل نفسه»، ومنعت هي الأخري من النشر في دمشق، ونشرتها «دار العودة» في بيروت منتصف السبعينيات، ومن بعدها توالت أعمالي الروائية. هل إقامتك في الغرب كانت هروبا من سيف الرقابة أم بحثاً عن آفاق رحبة؟ - لم تكن إقامتي في الغرب هروباً من الرقابة بقدر ما كانت بحثاً عن آفاق بديلة وذهبت إلي باريس بعد أن تشبعت بعيون الأدب الغربي، خاصة الفرنسي الذي ترجمته دار الآداب البيروتية بشكل جاد، خاصة كتب الفلسفة والسياسة والأطروحات الماركسية والتقدمية، التي كانت تسود الفضاء الثقافي والإنساني في منتصف السبعينيات. وهل وجدت ما كنت تصبو إليه في الغربة؟ - أتصور أنني حققت أكبر قدر ممكن مما كنت أطمح إليه علي المستوي الشخصي والإنساني، وامتلكت وعياً حاداً بالأمكنة والناس، ولم أعان مفهوم الغربة التقليدية، فلم أغترب بحثاً عن الثروة أو البيزنس، وإنما لأني أحب الثقافة والأدب، وذهبت إلي هناك وأنا معتز بثقافتي الغربية، ودرست الطب والفلسفة، وعملت طبيبا في محاولة لتأكيد استقلالي المادي والروحي، حتي لا أقع تحت ضغط أي سلطة تعيقني عن الإبداع. دمشق حاضرة في كتاباتك بالرغم من إقامتك الطويلة في الغرب لماذا؟ - لا أخفيك أنني كلما ازددت بعدا عن الوطن، ازددت اقترابا منه، فأنا كائن ملتصق بالمكان الذي نشأت فيه، وأعرف قدر هذا المكان، ولن يستطيع شخص أن ينقد مكانا طالما لم يقم فيه، ونقد المكان هو أساس النقد الإنساني، وكثيرا ما نغمض أعيننا عن مساوئ المكان الذي نقطنه ولا نري إلا محاسنه، ونصاب في النهاية بالعمي، وهو ما جعل تجربة السفر والرحيل عندي تكتسب بعداً إنسانياً، وبالتالي من يسافر هو الذي يستطيع أن يعود إلي مكانه، ولكن كائناً جديداً وغنياً بما اكتسبه من معارف وخبرات وثقافات، والسفر في هذه الحالة أمر أساسي لا من أجل الشأن الشخصي فحسب، بل من أجل المعرفة الإنسانية. كيف كان أثر الانتقال لباريس عليك وهل مثل لك صدمة حضارية؟ - لا، لم أعان من صدمة حضارية لأنني سافرت مجهزاً ومزوداً بعلوم متقدمة، في وقت لم يكن هناك فارق كبير بين بيروت كمدينة عربية منفتحة وكوزموبوليتية عن باريس بلد النور والسحر والجمال إلا قليلا، ولكن ما يمكن أن نسميه صدمة، يتمثل في البون الشاسع بين الفكر النقدي السائد في الفضاء الباريسي، وبين الفكر الخامل الذي كان يسود فضاء دمشق، وهذه الصدمة أعمق من الصدمة المشهدية التي يمكن أن تسببها لنا الألوان والأزياء والأنوار. ألم تفكر في الكتابة بالفرنسية مثل بعض الكتاب العرب المهاجرين؟ - لا لم أفكر ولن أفكر بالكتابة بالفرنسية، لأن مشروعي عربي بامتياز ولو استطعت أن أقدم خدمة ضئيلة في المجال الثقافي والفكري، فهي بالتأكيد ستكون في مجال اللغة والكتابة، وأنا لا يهمني كإنسان عربي أن أكتب بلغة غير العربية، ليس لأن اللغة هي وطن الكاتب، ولكنها إحدي الوسائل الأساسية التي يمكننا أن نساهم عبرها بتغيير وضع ما. كيف تري العلاقة بين الطب والأدب؟ - هناك علاقة غير مباشرة بين الجسد الإنساني، وجسد المجتمع، فالجراح يقوم بتشريح الجسد لكي يخلصه من آفاته، وأتصور أن الكاتب يمكن أن يقوم بعمل مشابه للمجتمع، وأنا أعتبر الكاتب في طليعة الضمائر الاجتماعية في وطنه، ويمارس الانشقاق والاحتجاج في نقده للفضاء الثقافي والسياسي، كما منحني عملي بالطب الاستقلال المادي الذي أنشده والإبداع في جو من الحرية.