قمتُ من جلستي الطويلة في السرير بألم مُفاجئ في منتصف ظهري، هناك بين لوحي الكتفين يبرق الألم مع حركة الرقبة، مع أقل التفاتة. فكَّرتُ علي الفور أن الراحة شاقة، وفكَّرتُ أيضاً في أصحاب المِهَن التي تضطرهم طبيعتها إلي البقاء في وضع معين ساعات طويلة، علي سبيل المثال سائق التاكسي. فقدتُ منذ عشر سنوات علي وجه التقريب، الجلسة الصحية أمام كتاب، أصبح الكتاب معي في السرير، أُقلِّبُ صفحاته بوضع سيئ، استلقيتُ علي الأرض جاعلاً وجهي إلي سماء الغرفة، وشددتُ جسمي لينعم عمودي الفقري بأقصي استقامة ممكنة، لا بد أن الجسم هنا علي الأرض، بانشداده الوقور يكون أكثر تواضعاً من وضعه المستهتر علي السرير. منها وإليها نعود. يدوم الألم يومين أو ثلاثة. ألتزم بجلسة صحية علي مدار أسبوع. أخطط لالتزامات أخري. تمشية يومية في الصباح، نوم مثل باقي مخاليق الله في الليل، الاعتدال في الطعام والشراب، جدول صارم لساعات العمل، وبعد أسبوع تعود ريما لعادتها القديمة، والعود أحمد. من علي الأرض كانت ذاكرتي مُثقلة بكلمات ومُعَامَلات وأحاديث ووجوه ومَشَاهِدَ من أفلام وإشارات وتعليقات. وكان هذا أشبه بسقط متاع الذاكرة، هي مادة لا طلب لي فيها، ومع هذا تضغط علي الذاكرة دون إرادة مني، وكأنها مادة ضد النسيان، في حين تبقي الكلمات والمُعَامَلات والأحاديث والوجوه والمَشَاهِد السينمائية والإشارات والتعليقات التي لي طلب فيها، عرضة للنسيان، وكأنّ الذاكرة تعمل علي مادتين، واحدة غير مرغوب فيها، وأخري عزيزة تتطلب الجهد الدائم للحفاظ عليها، واحدة تداوي جراح الأنا عندما تضع أمامي سقط المتاع الحادث منذ عشرين سنة، وأخري تتمنع وتذوي وتضيع. هل يكون جهادي في الكتابة مع المادتين؟ أو يكون مع واحدة دون الأخري؟ رنَّت كلمة الجهاد في رأسي بكل معانيها المعاصرة، الدينية والسياسية معاً، أخلاق الكلمة، منذ نعومة أظفارها، جادة عابسة، ليس هناك ابتسامة. الآن تحتك مع مادة الذاكرة. ربما هناك صلة للكتابة ما زالت مُهدِّدة أكثر من الصلة التي تُقام عادةً مع الموت، مع الصمت كما يقول دولوز. القيام من علي الأرض مثل قيامة حقيقية. عُدتُ إلي السرير، أرق أوديسا الفِراش. فكَّرتُ في بداية جديدة، بداية تتجاوز كل بداية ممكنة، تتجاوز ما هو مُتعارف عليه بين الناس علي أنه بداية، لكن قبل البداية هناك ترتيب أوراق، حسابات، تصفيات، بحيث يكون وجهي علي عتبة البداية خالياً من أثر المُعَامَلات، بوجه لا يحمل للواقع ذكري، ما عدِّتش من هِنا، آسف علي التعالي، كنتُ مرتبك الساق فيما تعتبرونه شحم وزيت البدايات، الفرضيات، البديهيات، الحس المشترك. وليس هناك ما يصلح لاختبار وجه مثل مرآة، لقاء لا يكذب، هذا الوجه ليس لي، بريء وبارد عن المُعَامَلات. وكان صوت التليفون الذي ارتفع فجأة سقوطاً مُدوياً للأفكار، وهذا دليل لا يدحض علي همجية الواقع، والهمجية لها سحر لا يقاوَم. نطيت من علي السرير قفزاً ناسياً ألم الظهر، إلي أن يعود الواقع نحن سَدَنَة الميتافيزيقا، مُكرَّشون بفروضها، رواقيون يستظلون في الرواق، يحرسون موناد ليبنتز، وعود نيتشه، وأصول أختام هيدجر. صباح الخير يا أستاذ مصطفي، أنا رجاوات، أنا مش ها قدر آجي النهاردة عشان تنظيف الشقة، جوزي اتخانق خناقة كبيرة، ومحبوس في القسم، ممكن بكرة آجي الساعة تسعة الصبح، معلشي يا أستاذ مصطفي، ربنا ما يوقعك في ضيقة.