كتب : د . عبد الله المدنى تعتبر الهند اليوم إحدي الوجهات العالمية الجذابة لجهة تلقي العلاج، فصناعة الرعاية الصحية وصناعة السياحة العلاجية وما يرتبط بهما صارت يفوق حجمهما 23 بليون دولار، وصارتا تشهدان نموًا سنويًا بنسبة 18 بالمائة، وبطبيعة الحال هناك جملة من العوامل ساهمت ولاتزال تساهم في حدوث مثل هذه النقلة، منها زيادة نسبة الإصابة بالأمراض المختلفة، وزيادة الاهتمام بالإنفاق علي الصحة كنتيجة لتحسن مستويات الدخل، ولا سيما لدي الطبقة الوسطي الهندية التي يبلغ حجمها اليوم نحو 300 مليون مواطن، وتحسن مستويات التعليم وما يخلقه من وعي عام بضرورة الاهتمام بالصحة، ناهيك عن عامل مهم آخر هو ذلك المتمثل في زيادة الإنفاق علي الضمان الصحي من قبل المؤسسات العامة والخاصة. لكل هذه الأسباب مجتمعة شهدت الهند خلال الأعوام القليلة الماضية ثورة استثمارية في قطاع الصناعات العلاجية، والدوائية، والبيوتكنولوجية، ومجالات تشخيص الأمراض، والأبحاث الإكلينيكية، وتصميم وإنتاج الأجهزة الطبية والمختبرية، وإنشاء المصحات والمختبرات الراقية، علما بأن الاستثمارات المذكورة ساهمت فيها شركة وطنية هندية خاصة وعامة، وشركات أجنبية من بريطانيا والولاياتالمتحدة وكندا وإيطاليا وأستراليا واليابان من تلك التي دخلت مع الأولي في شراكة استراتيجية. ونظرًا لتشعب هذا الموضوع وكثرة منعطفاته التاريخية، فإن حديثنا اليوم سيقتصر علي الصناعة الدوائية في الهند التي كان أحد أهم أسباب انجذاب المستثمرين الأجانب لها هو إمكانية صناعة وتطوير ما ينتجونه من أدوية محمية ببراءات الاختراع بأسعار تقل بعشر مرات عن سعر صناعتها وتطويرها في الغرب، بسبب الأجور المنخفضة للأيدي العاملة المدربة وأطقم المديرين والمشرفين والكيميائيين والصيدلانيين الهنود، ناهيك عن توفر المعدات عالية التقنية ومعامل التجارب علي آلاف الحيوانات (علي نحو ما توفره شركات مثل شركتي «صن» و«بيرامال» للدواء). وتعتبر صناعة الدواء في الهند الثانية علي مستوي العالم لجهة الحجم والنمو والاستثمارات المتدفقة فيها (بلغ حجمها 2010 أكثر من 5 بلايين دولار، مع نمو سنوي بمقدار 13% واستثمارات فاقت 24 بليون دولار). وهي في الوقت نفسه تقود قطاع الصناعة الهندي، بإمكانياته الهائلة وتكنولوجياته وأبحاثه المعقدة، وأنواع منتجاته الكثيرة التي تبدأ بأدوية الصداع البسيطة ومستحضرات التجميل وتنتهي بأدوية السرطان والصرع والسكري المعقدة، وشركاته التي تشمل أكثر من 120 ألف شركة مسجلة ما بين كبيرة ومتوسطة وصغيرة (علمًا بأن 250 شركة دوائية كبري من هذه الشركات تسيطر علي 70% من سوق الدواء الهندي) . ومن المهم في سياق هذا الحديث أن نشير إلي أن أول مؤسسة لصناعة الأدوية في الهند ظهرت في كلكتا في عام 1930، وكانت تملكها الدولة، وهي لاتزال قائمة إلي اليوم. وخلال العقود الثلاثة التالية ظلت البلاد تستورد احتياجاتها من الأدوية من الخارج عن طريق الشركات الأجنبية متعددة الجنسية، فيما كانت صناعة الدواء محليا صناعة معروفة بالتقليد الرديء والسمعة السيئة. واستمر هذا الحال إلي أن جاءت حقبة الستينيات التي تميزت بتشجيع الدولة للمؤسسات الخاصة علي إقامة صناعة دوائية وطنية، وهي السياسة التي تبعتها جملة من التشريعات الحمائية والتنظيمية في عقد السبعينيات بقصد تعزيز صناعة الدواء محليا وحمايتها من المنافسة، وتوفير الدواء واللقاحات والمضادات والمستحضرات الكيماوية المتنوعة بأسعار في متناول السواد الأعظم من المواطنين. علي أن تلك التشريعات تسببت من جهة أخري في تخلي المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في قطاع الدواء الهندي طويلا، وتحديدا حتي أوائل التسعينيات التي شهدت تحرير الهند لاقتصادها وتوجهها نحو سياسات السوق.. بعد ذلك صارت الصناعة الدوائية الهندية تتقدم بخطي حثيثة وتبز مثيلاتها في العالم النامي، وتحظي باحترام كبير في الدول المتقدمة لجهة الجودة، ولا سيما في الولاياتالمتحدة وبريطانيا اللتين هيمنت مؤسساتهما الدوائية الكبري في وقت من الأوقات علي قطاع صناعة الدواء الهندي، وكانت سببا من أسباب تطوره في المراحل الأولي، قبل أن تنسحب من البلاد. ولعل من أوضح الأمثلة علي مدي اهتمام العالم المتقدم بالاستثمار في الصناعة الدوائية الهندية، وتفضيله للهند علي الصين في هذا المجال، هو قيام شركة «أبوت لابورتوريز» (شركة أمريكية مقرها الرئيسي في شيكاغو، وتتواجد في 130 بلدا، وتوظف نحو 72 ألف موظف، وبلغت عائداتها في عام 2008 نحو 29 بليون دولار) بشراء شركة الأدوية العائدة لمجموعة «بيرامال» الهندية مؤخرا بمبلغ 3.7 بليون دولار، وقيام شركة «دايتشي سانكيو» اليابانية في عام 2008 بشراء حصة 35% من شركة «رانباكسي لابوراتوريز» الهندية مقابل 4.6 بليون دولار، ثم قيام «غلاكسو سميث كلاين» (شركة بريطانية، تعد ثالث أكبر شركة طبية في العالم، وتوظف نحو 90 ألف عنصر، وتجاوزت أرباحها الصافية عام 2007 مبلغ 7.8 بليون جنيه استرليني) في عام 2009 بإقامة شراكة مع مؤسسة «دكتور ريدي لابوراتوريز» الهندية، وقيام شركة «سانو في أفينتيس» الطبية الفرنسية التي تعتبر رابع أكبر شركة دوائية في العالم لجهة المبيعات بالاستحواذ في العام الماضي علي شركة «شانتا بيوتيكنيكس» الهندية. وفي السوق نفسه، يتوقع «سويتا شانتيكومار» من شركة «فروست أند سوليفان» قيام المزيد من شركات الدواء العالمية العملاقة بشراء المؤسسات الطبية الهندية في المستقبل، قائلاً: «لا شك أن للصينيين قدرة علي إغراق الأسواق بمختلف السلع الرخيصة، لكنهم في مجال صناعة الدواء -ولا سيما المعقد منه- لا يمكنهم منافسة الهند المعروفة بتقاليد عريقة في صناعة الأدوية غير المحمية ببراءات اختراع، والمعروفة أيضا بنظام تعليمي خلاق وقادر علي تخريج المواهب الطبية. علي أن كل ما سبق لا ينفي وجود مشاكل وتحديات كثيرة أمام الصناعة الدوائية الهندية، نجد تجلياتها في قيام العديد من الشركات المحلية الصغيرة بخروقات فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية أو بخروقات في متطلبات الصحة والسلامة واشتراطات الجودة، الأمر الذي أحرج المؤسسات الطبية الهندية ودفع بالسلطات إلي تشديد إجراءاتها التفتيشية.. غير أن هذه المشاكل، لم تصل بعد إلي الحد الذي وصلت إليه في الصين التي تعاني علي نطاق واسع من ظاهرة الغش والتزييف في ما تصدره إلي الخارج من أدوية ومستحضرات طبية.