تعرضنا في مقالين سابقين إلي قضيتين أساسيتين هما أهمية زيادة مخصصات التعليم في الموازنة العامة للدولة والثانية هي التركيز علي المحصلة النهائية للتعليم بعد رحلة سنوات طويلة يقضيها أبناؤنا داخل المؤسسات التعليم وذلك حتي يكونوا قادرين علي ممارسة الحياة العملية والمهنية ويتسلحون بالمهارات والمعارف والاتجاهات السلوكية التي تمكنهم من المساهمة في بناء مجتمع حديث متقدم. واليوم نتحدث عن الركن الثالث في تطوير التعليم هو الكيفية التي تجري بها هذه العملية التعليمية بمعني إذا كانت الموارد المادية والبشرية تمثل المدخلات والعائد النهائي يجسد المخرجات فإن الكيفية التي يجري بها تحويل المدخلات إلي مخرجات هي موضوع حديثنا الآن ما الأسلوب الذي تجري به العملية التعليمية؟ كيف يتلقي أبناؤنا المعارف والمهارات؟ هل عن طريق التكوين والتفكير أم التلقين والحفظ؟ هل من خلال صيغ إبداعية وابتكارية أم أساليب نمطية متكررة؟ وما دور المعلم في هذه العملية؟ هل دور السيد المهيب أم المحاور؟ وهل الطالب هو المشارك الفاعل أم المتلقي الخامل؟ هل كل ما يفعله المدرس التلقين وكل ما يقوم به الطالب هو الحفظ والترديد؟ هل العلاقة بين المعلم والمدرس علاقة احترام وتقدير من الطرفين أو أصبحت علاقة مصلحة يشتري فيها الطالب بأمواله النجاح في الدروس الخصوصية من المعلم. إجابة هذه التساؤلات تفتح السبيل أمام مناقشة الكيفية التي تجري بها العملية التعليمية هناك الأسلوب التلقيني أو الاتباع أو النقلي الذي يعتمد علي إيداع المعلومات في ذهن الطالب والذي يتحول ماكينة تأخذ دون فهم وإدراك في هذه الحالة يتخرج الطالب من العملية التعليمية غير قادر علي التفكير والإبداع والحوار والمبادأة والمبادرة والمواجهة في حالة لهاث دائم خلف من يعطيه الرأي ويوجه دفة الحياة بالنسبة له ويضع أمامه الحلول لا تعرف هذه النوعية من الأفراد إلا الانتظار ولا تمتلك آليات تصحيح واقعها وغالبا ما تنضم إلي صفوف البطالة المقنعة يعيشون فيما يسميه علماء الاجتماع ثقافة الحشد أو القطيع الذين يسيرون علي نص واحد رتيب للحياة لا يملكون سبل الفكاك منه أو التغريد خارج السرب كما يقال. وهناك حالة التعليم التجارية التي يشتري فيها الطالب النجاح دون أن يبذل جهداً في التعليم فيخرج للمجتمع مشوهاً خالياً من قيم النزاهة والأمانة والإرادة في المشاركة العادلة. خلافا لهذه الأساليب هناك الأسلوب الابتكاري في العملية التعليمية يستند في الأساس إلي تدريب الطالب علي مهارات المبادأة والتفكير النقدي وممارسة الإبداع وتحليل المواقف والبحث عن الحلول المناسبة لمشكلات الواقع ذهن الطالب في هذه الحالة في وضع التشغيل الدائم لا يعرف فترات للتعطل وعادة ما تكون أمام الخريج الذي تربي علي هذا الأسلوب فرص متجددة للعمل والكسب كما أنه يكون مكتسبا لقيم احترام العمل والأمانة فيه. هذا الأسلوب يقترن عادة باحترام التعددية والتنوع، الفكر الحر متعدد بطبعه والطالب المصري يجب أن يتربي علي فهم التعددية سواء كانت في العقيدة أو اللون أو الدين أو الجنس يعرف أن التعددية مصدر إثراء للمجتمعات والخبرة الإنسانية من هنا فإن المدارس أحادية التكوين التي تقصر الانضمام إليها علي أبناء دين أو نوع اجتماعي واحد أو جماعة بعينها تنشئ طلابها علي عدم معرفة الآخر وهو الأمر الذي يقود أولا إلي استغرابه ثم تكوين الصور النمطية الخاطئة عنه وأخيراً رفضه وربما الإساءة إليه معنويا أو بدنيا ومن لا يتعلم حرية الاختيار وتنوع الاختيارات في الإطار العام للمجتمع في المؤسسات التعليمية فإنه سوف يتربي علي رفض المخالفين له في الجنس والعقيدة والدين. ينطبق ذلك علي المدرس والطالب علي سواء فالمدرس الذي يتغافل عن قصد أو بدون قصد وجود طلاب مختلفين في الديانة أو المذهب أو يميز علي أساس النوع الاجتماعي ويتجه إلي الانقاص من المختلف فإنه بذلك يغرس في نفوس الدارسين كراهية ونفورا لكل ما هو مختلف عنهم في الدين أو الفكر أو المعتقد أو النوع الاجتماعي ينطبق ذلك علي اتجاهات مختلفة أخري. تقع المدرسة في مقدمة مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي ينبغي أن تكون بمثابة البوتقة التي يتعلم فيها المواطن منذ نعومة أظافره قيم المواطنة والتعددية والحرية وسبل بناء الصداقات العابرة للحواجز المذهبية أو الطائفية أو الاجتماعية يعرف كيف يتلاقي مع المختلفين معه ويعزز خبرة العمل المشترك المبني علي الفهم العميق للآخر والنظر إلي التنوع علي إنه غاية إلهية ومصدر للغني وليس للتبعثر إذا لم يكن هذا هو النهج المتبع في العملية التعليمية فأي جيل نريد أن نبني؟ وأي شباب نعد للمستقبل؟ إن مجموع العلاقات في أروقة المدرسة سواء بين الدارسين بعضهم بعضا أو بين الدارسين والمدرسين أو بين المدرسين أنفسهم تمثل ما نطلق عليه المنهج الخفي داخل المدرسة أي التنشئة الاجتماعية غير المرئية تترك آثارها في بناء الشخصية والاتجاهات والسلوك لأجيال المستقبل علي نحو يفوق ما تشمله المقررات الدراسية والحصص المدرسية الدعوة هنا إلي النظر إلي المدرسة ليس بوصفها مؤسسة تعليمية فقط ولكن أيضا اعتبارها مؤسسة اجتماعية وسياسية بالمعني الواسع لها تشكل حجر الزاوية في بناء جيل وأجيال سوف تضطلع بالمسئولية في هذا الوطن إن آجلا أم عاجلا وسوف يظل في وجدانهم سنوات التكوين الأولي في رحاب المدرسة.