انتهت الولاياتالمتحدة من كل الملفات الإقليمية المتدهورة بين يديها.. والتي كانت تجسد فشلاً متراكماً لإدارات مختلفة. حلت وضعاً سياسياً معقداً غارقاً في الدماء والتفكك والتخبط في العراق ونجحت أخيراً في فرض حكومة مستقرة قادرة علي إنقاذ البلد من ويلات نيرانية(!!) تمكنت من السيطرة علي انهيار متصاعد وينجرف إلي هوة سحيقة في لبنان.. وهيأت الأجواء من أجل محكمة دولية كانت متعثرة لمعاقبة قتلة الحريري(!!) أقنعت سوريا بأن تتجه إلي الاعتدال وتخرج من شباك تحالفها المعقد مع إيران.. وأن تستجيب للحوافز المعروضة عليها منذ زمن(!!) أكملت حلقة الحصار حول إيران نفسها وتأكدت من أن المشروع النووي الفارسي لن يصبح بين لحظة وأخري قنبلة عسكرية تدمر توازنات أمن الإقليم(!!) استطاعت أن تمهد الطريق لإكمال المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وفلسطين تلك التي اندفع الرئيس أوباما كي يقف وراءها بنفسه.. وحلت عقدة المستوطنات.. وأغلقت تماما تسويات ملف الأمن(!!) واطمأنت إلي أنه لن يكون هناك بحر دماء جديد في المنطقة بعد استفتاء جنوب السودان(!!) وفوق كل هذا فقد سيطرت علي الأوضاع المشتعلة في أفغانستان منذ ثلاثين عاماً.. وخمدت تهديدات طالبان.. ولم تعد قوات الناتو تتساقط مثل أوراق الشجر كل ساعة(!!) وتأكدت من أن التهديد الذي تمثله القاعدة في اليمن لم يعد له وجود.. وليس علي واشنطن أن تخشي من الطرود المفخخة أو اختطاف الأجانب وليس عليها أن تقلق بشأن تأمين الإبحار في جنوب البحر الأحمر(!!) إذن عليها الآن أن تتفرغ لمصر.. يجب أن تبذل جهداً أكبر من أجل تعديل أداء النظام السياسي فيها.. وأن تمارس أقصي الضغوط عليه.. وأن تجبره علي الرضوخ.. وأن يخضع للتوجيهات الآتية من واشنطن.. وإلا فإنه سوف يلقي الويلات.. ويعاني من نتائج غضب واشنطن.. والأمثلة تحيط به من حوله.. وهو يدري مدي الكفاءة التي تعاملت بها الولاياتالمتحدة مع مختلف ملفات الإقليم.. وكيف أنحني الجميع أمام قدراتها وخططها ونفذوا ما تريد.. والذي لا يري من غربال الشرق الأوسط يتحمل العواقب. علي قدر سخرية التوصيف السابق، إلا أنه للأسف يعبّر عن الحالة المذرية التي بلغتها واشنطن في تقييم الأمور، وتمييز الأبيض من الأسود في التعامل مع الأصدقاء، وتقدير الشعوب صاحبة التاريخ والكرامة، ومعرفة أين تكمن مشكلات الإقليم الذي ترتبط به مصالحه وله علاقة وثيقة بالأمن العالمي وتورطت فيه واشنطن بطريقة تثير الشفقة وتدفع إلي العطف علي المستوي الذي بلغته بعض أدوات الإدارة الأمريكية في التعامل مع المواقف.. إذ ما تلبث أن تنغمس في ورطة حتي تجد نفسها وقد اندفعت دون مبرر مصلحي حقيقي في ورطة إضافية. في الأسبوع الماضي، وبعد تصرف غريب من الإدارة الأمريكية، التي تعاني من خسارة أزعجتها في انتخابات الكونجرس، كان أن أعربت مصر عن حنقها من قيام الإدارة بلقاء ما يسمي (مجموعة عمل مصر)، تلك التي تضم عدداً كبيراً من المحافظين الجدد، والذين يعتقدون أن عليهم أن يفرضوا الوصاية علي أكبر بلد في المنطقة. لقد كان مضمون الرسالة المصرية علي لسان المصدر الدبلوماسي كما يلي: (مصر تعتز باستقلالها وسيادتها لها إرادتها الوطنية لن تسمح لأحد أيا كان أن يتدخل في شئونها خصوصية المجتمع المصري يجب أن تُحترم الولاياتالمتحدة ليست وصية علي مصر مجموعة عمل مصر تتبني رؤية قاصرة ولديها أيديولوجية ضيقة استقبال هذه المجموعة رسمياً من قبل إدارة واشنطن استوجب وقفة مصرية لها ما بعدها). ومن الواضح أن التصريح قد تبني بصراحة لغة كانت مصر تستخدمها في الرد علي المواقف البوشوية في عهد الإدارة السابقة التي بذلت محاولات عديدة من أجل إدراج مصر في أجندة الأهداف الإقليمية لخطط نشر الديمقراطية علي طريقة بعثرة الفوضي التي شهدنا جميعا أدلتها حولنا.. إذ قال التصريح إن هذه المجموعة (إنما تهدف إلي نشر الفوضي في الشرق الأوسط وفقا لرؤيتها القاصرة). لقد كان أعضاء هذه المجموعة أركان واضحين في الإدارة السابقة بكل ما أحرزت من فشل، وكان لديهم صولجان السلطة وقدرتها، ولم يتمكنوا من إرضاخ مصر هم وغيرهم إلي أجندتهم.. طيلة ثماني سنوات.. فكيف بهم يعتقدون أنه يمكنهم من خلال الضغط علي إدارة أوباما دفعه إلي تحقيق ما لم يتمكنوا منه قبل ذلك.. الصحيح بالطبع أن الانتصار الذي حققه الجمهوريون والمحافظون الجدد في صدارتهم في انتخابات الكونجرس قد حفزهم إلي الاعتقاد بأن قوتهم الدافعة قد عادت.. ولكن من الذي قال إن مصر قد غيرت من ثوابتها في التعامل مع هذه الأمور. إن المجموعة غريبة الأطوار، تضم بين من تضم الآتية أسماؤهم: • اليوت إبرامز، العضو السابق في مجلس الأمن القومي المنتمي مباشرة إلي المحافظين الجدد، وهو من اليهود المعروفين، وكان مسئولاً عن ملفات مصر والسلام في موقعه السابق. • ميشيل دان، رئيسة تحرير نشرة الإصلاح العربي، والباحثة في معهد كارنيجي الذي تتعاون معه جريدة «المصري اليوم» الخاصة وتنشر له تقاريره بشكل ثابت ومتفق عليه في إطار تعاقد. • أندرو البيرستون مدير مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط والمستشار السابق في إدارة بوش. • توم ميلانوسكي من منظمة هيومان رايتس ووتش. • روبرت ساتلوف المدير السابق لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني. • روبرت كيجان - من المحافظين الجدد في معهد كارنيجي. • بريان كاتيلوس - مركز التقدم الأمريكي. • سكوت كاربنتر - معهد واشنطن. • توماس كاروزرس - معهد كارنيجي. • دانيال كالينجارت - فريدوم هاوس. ويتضح من قائمة الأسماء أن غالبيتهم من المحافظين الجدد وذوي العلاقة بالإدارة السابقة وأصحاب المصالح في بقاء برامج نشر الديمقراطية ولديهم أنشطة متنوعة يجب أن تحافظ علي تمويلاتها وهي تفقد زخمها بتراجع الإدارة عن تبني المواقف السابقة للإدارة الراحلة في مسائل نشر الديمقراطية قسرا.. وبالطريقة التي أحدثت الفوضي الحالية في دول عديدة حول مصر. ولدي المحافظين الجدد منهج معروف فيما يخص قضايا الشرق الأوسط.. يقوم علي ما يلي: • إما أن تكون الدول مع أو ضد الولاياتالمتحدة.. هذا التصنيف الذي تبناه جورج بوش في مطلع الحرب علي الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر والذي لا يقبل وجود الاصدقاء المستقلين الذين لديهم إراداتهم الحرة.. فإما في معسكر الأعداء أو في معسكر التابعين لا شيء آخر. • يتبني هؤلاء نظرة متعالية علي المجتمعات المسلمة والشرق أوسطية بالتحديد، وأفكارهم تنطوي علي تجاهل للخصوصية الثقافية للدول والمجتمعات الأخري.. ومن ثم فإن هدفهم إما أن تطبق الدول الأخري معايير أمريكية صرفة تخص نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وحريات التعبير.. أو أن تؤدي الضغوط عليها إلي أن تتحول للتطرف.. وهذا هو المطلوب.. لأن مجموعة المحافظين الجدد يريدون تكثيف وترسيخ معسكر التطرف بحيث يكون قائداً في الدول الإسلامية، وبالتالي يتعزز العداء بين الغرب والإسلام.. أي ما يناقض تماماً الأهداف المعلنة للرئيس أوباما. • يؤمن هؤلاء بالدور المحوري لمصر.. وبأنها مفتاح المنطقة.. ومن ثم فإن مواصلة الضغط عليها من وجهة نظرهم يجب أن تقود إلي أحد الأهداف التالية: أولا: أن تحدث هوة بين القاهرةوواشنطن تستفيد منها إسرائيل ويحدث تحول نوعي في مسارات ملف السلام، ثانيا: أن تتطرف مصر وتقود الإقليم كله إلي التطرف.. من خلال بث فوضي تؤدي إلي انتشار مشروع الدولة الدينية، ثالثا: أن تركع مصر تماما وتضع نفسها علي أجندة ليس الولاياتالمتحدة وإنما أجندة المحافظين الجدد وهو أيضا ما يخدم مصالح إسرائيل. ويمارس هؤلاء الضغوط علي الإدارة الحالية التي تشعر بقدر من العجز في مواجهة الخسائر السياسية التي منيت بها مؤخراً، كما أنهم يدفعون إلي إصدار قرار أو أكثر من الكونجرس بقصد ممارسة الضغوط علي مصر بطريقة أو أخري حتي لو كانت القرارات غير ملزمة للإدارة ومنها مشروع قرار يتبناه عضو في مجلس الشيوخ من المفترض أنه سوف يتقرر شأنه يوم 29 نوفمبر الحالي أي بعد يوم من الانتخابات الحالية في مصر، وقبل ستة أيام من جولة الإعادة. الأمر المؤكد في هذا السياق أن الولاياتالمتحدة قد استمعت من صديقتها الاستراتيجية مصر كلاما صريحا وواضحاً بشأن تلك التحركات.. قبل أن يصدر التصريح المصري الرسمي الأخير.. والأمر المؤكد كذلك أن مصر لن تسكت.. وهي مستعدة لأن تواجه كل خطوة بما يلائمها من التصرفات الواجبة والحدة المطلوبة.. والأمر المؤكد كذلك أن ما بين الولاياتالمتحدة ومصر هو أعمق من هذه المواقف التي يتبناها المحافظون الجدد.. لكن اليقين هو أن تلك المواقف تؤثر لا شك علي الحماس المصري في ملفات مختلفة.. طالما أراد الآخرون أن نتفرغ لشئوننا الداخلية وأن نبذل جهداً أكبر في مواجهة التعدي علي الإرادة الوطنية. إن الرسالة الملتبسة الآتية من واشنطن نتيجة لضغوط المحافظين الجدد هي أن الولاياتالمتحدة تفضل نموذجاً آخر غير الاعتدال.. وتريد أن تفتح ملفات ليس لها علاقة بها تأثيراً علي تفاعلات المجتمع المصري.. ولابد أن يكون الموقف المصري علي ذات القدر من الحسم الفعال والسريع وفي توقيته.. حتي لو اندفعت وسائل الإعلام إلي تفسير الأمر علي أنه توجد أزمة في العلاقات بين البلدين والأمر ليس كذلك في حقيقته الكاملة. ولا شك أن الموضوع الذي يطرحه المحافظون الجدد، ومن يروجون لأفكارهم وبرامجهم في مصر والمنطقة العربية، وعلي رأس القائمة جريدتا (المصري اليوم الشروق) بخلاف قناة الجزيرة، الموضوع الذي يطرحونه كتكئة للتدخل في الشئون المصرية ينصب علي ضرورة أن يتابع المراقبون الدوليون الانتخابات المصرية.. وهو أمر مرفوض تماما.. ويدرك الضاغطون أنه لن يحقق أي نتيجة بينما بيننا وبين الانتخابات أسبوع أخير.. لكن الهدف الحقيقي المفهوم هو ممارسة الضغوط علي مجريات الانتخابات الرئاسية المقبلة.. بقصد تدويلها وتحويلها من مجرد مسألة محلية إلي شأن عالمي يخضع للقيل والقال. إن مصر ترفض المراقبة الدولية علي الانتخابات لأسباب كثيرة: • القانون المصري لا يسمح بذلك. • لدي مصر رقابة من المجتمع المدني المصري الذي لابد أن نعطيه الثقة الكاملة والذي ينبغي أن يثق في نفسه فهو ليس ناقصاً وليس ضعيفا. • لا تضمن الرقابة الدولية نزاهة الانتخابات في أي دولة.. وقد كانت انتخابات بوش آل جور خاضعة لكل أنواع المتابعة ولم ينف عنها هذا التباساً في الشرعية ظل عالقا في رقبة بوش حتي يومه الأخير كما أن الرقابة الدولية لم تضمن للانتخابات العراقية عدم التشكيك فيها. • كون أن مصر تشارك في الرقابة الدولية علي انتخابات أي من الدول لا يعطي الحق للآخرين بأن يطالبوا بالمعاملة بالمثل.. أولاً: لأن الدول التي تستدعي الرقابة الدولية قانونها يسمح بهذا.. وثانياً: لأن هذه المتابعات تتم عن طريق ممثلي المجتمع المدني المصري.. وثالثاً: لأن مصر تذهب إلي انتخابات الدول بناء علي دعوات وليس بناء علي رغبات تدخلية في شئون الغير. • لا تقاس أمور الدول والعلاقات بينها فيما يخص انتخاباتها علي أساس المقياس العائلي.. بمعني أنه إذا كنا قد زرنا دولة أخري في أثناء انتخاباتها فإن علينا بالتالي أن نقبل ردها للزيارة في انتخاباتنا.. هذا كلام ساذج. • لا توجد ضمانة من أي نوع علي أن هؤلاء الساعين إلي فرض الرقابة الدولية علي الانتخابات في مصر ليسوا أصحاب أهداف مسبقة وأجندة تقصد نشر الفوضي، خصوصاً أن لديهم مواقف معلنة بشأن انحيازات تخص أطرافاً مصرية مشاركة في العملية الانتخابية فكيف يمكن أن نقيم شهادة منحاز يريد أن يراقب الانتخابات. • لا توجد أي مطالبات شعبية بخصوص موضوع الرقابة علي الانتخابات من قبل عناصر خارجية.. أو حتي محلية.. ولدي المصريين حساسية معروفة بخصوص تدخل الأجانب في شئونهم.. كما أن الموضوعات المطروحة علي اهتمامات الناخبين ليس من بينها علي الإطلاق أساليب الرقابة. • تتخذ كل أحزاب المعارضة المصرية المشاركة في الانتخابات موقفا مضاداً من الرقابة الدولية علي الانتخابات. نحن نعرف أن الموقف دقيق، وندرك كذلك أن السياسة المصرية فيها عدد من بائعي الضمائر الوطنية، الحمد لله أنهم لا يمثلون الأغلبية في المتفاعلين علي الساحة، كما ندرك أن العلاقات مع الولاياتالمتحدة من العمق بحيث إنها سوف تعبر مثل تلك الأمور، ولكنها كذلك من الأهمية بحيث يحاول الكثيرون الوقيعة فيما بين طرفيها.. ومن ثم فإننا نعتقد أن إدارة الرئيس أوباما سوف تنتبه في طريقة إدارتها للضغوط التي تتعرض لها.. وإلا فإن منهجه السياسي برمته بشأن العلاقة مع الدول الإسلامية وبشأن ملفات الشرق الأوسط يتعرض للتهديد.