الصدفة عمياء، لكنها تحدث بتأكيد وثبات، وهي ليستْ مُأكَدة ومُثبَتة من طرف مجهول، بل هي التي تؤكد وتُثبت نفسها في كل مرة. تبدو الصدفة في تأكيدها وثباتها، وكأنها تضطهد موضوعها، لكنها بالفعل تقصد موضوعها، لكنَّ القصد هنا أيضاً ليس له غاية، من طرفها علي الأقل. اعتاد الروائيون علي وضع موضوعاتهم، أو شخصياتهم، في طريق الصدفة، ثم يقولون القول العزيز علي قلوبهم: ماذا يحدث لو أن البطل اصطدم بالبطلة مرتين متتاليتين، بفاصل زمني، في نفس محطة القطار. يهتم الروائيون بموضوعاتهم أكثر من اهتمامهم بالصدفة، ولهذا تبدو الصدفة، وكأنها تضطهد بطالهم، أي أنها تحدث لمعني ما، وعلي الروائيين أن يجدوه. إمَّا الصدفة، أو موضوعها. ينتصر الروائيون في الغالب لموضوعها، فتتراجع الصدفة في الخلفية، ويبدو البطل مُضطهداً في اللقاء، ويرجع البصر بمعجزة إلهية إلي الصدفة التي جلستْ علي مقعد بعيد تراقب غِبْنها، أي أن الروائيين هم مَنْ يضطهدون الصدفة. في عمل فني كبير لا يعوَّل كثيراً علي الصدفة، لا نجدها عند بروست أو كافكا أو جويس. هناك في عائلة الصدفة قريبان أكثر بعداً وشمولاً، وهما القدر والمصير، وهما أيضاً يتمتعان بعدم الرؤية. كان نيتشه يعتقد بأن الصدفة تحدث من طرف مجهول يرمي زهرين علي طاولة الوجود، فتتخلَّق الصدفة في نتيجة قراءة الزهرين، وعلي هذا اعتقد أيضاً في لاعب جيد يستطيع برميته المُحْكَمَة تحقيق أرقام الصدفة، ولاعب سيئ لا تؤدي رميته إلي رقم الصدفة المنشود. هنا نيتشه مثل الروائيين، افترض أن طرفاً مجهولاً هو الذي يرمي الزهر، مع أنها رمية من غير رام. بالأمس في ساعة ظهيرة جلستُ بجوار النافذة بعد أن أعددتُ فنجان قهوة. كنتُ أترصد الأفكار المعتادة التي تأتي لي كثيراً في أماكن أخري، قبل النوم، في مقهي، أثناء الحديث مع صديق. لم تكن جلستي إذن بجوار النافذة تعني شيئاً جديداً يخرجني من الملل، مع أنني أثناء إعداد القهوة توقَّعتُ أفكاراً أخري لا بد وأن الاسترخاء بجوار النافذة قادر علي توليدها. كانت الحركة في جراج العمارة، وهو الفيو المتاح لي من حدوة الحصان المحتضنة في منتصفها نافذة غرفتي، بطيئة نسبياً علي غير العادة. سيارة رينو زرقاء تصعد منحدر فتحة الجراج، وأخري سوداء لم أتعرَّف علي ماركتها تهبط في نفس المنحدر، بعد زمن قصير من صعود الرينو الزرقاء. فكَّرتُ أن فتحة الجراج الرئيسية لا تحتمل صعود وهبوط سيارتين في وقت واحد، أو أنها تحتملهما تحت ضغط دقيق يتطلب من السائقين مهارة خاصة. المهارة نعم بالتأكيد. في فيلم راقص استصعبتْ بطلة الرقص الأكاديمي ضيق الحلبة، وازدحامها بالراقصين الفطريين. أكَّد لها البطل الراقص بالفطرة أيضاً أن الحلبة لهما، أي أن الأمر يتعلق في النهاية بمهارة خاصة. بالتأكيد عاينتُ مرة من النافذة سيارتين، واحدة في طريق الصعود من فتحة الجراج، وأخري في طريق الهبوط إلي فتحة الجراج. استخدم بيير باولو بازوليني في فيلم أكاتون مقطوعة موسيقية من عاطفة متي ليوهان سبيستيان باخ، واستخدم أندريه تاركوفسكي بعد أكثر من عشرين سنة في فيلمه الأخير القربان مقطوعة أخري من عاطفة متي ليوهان سبيستيان باخ. لم يوفق بيير باولو بازوليني مع موسيقي يوهان سبيستيان باخ. فقر أجواء أكاتون لا ينسجم مع جلال الموسيقي. نجدته لمسة الحزن، وخذلته الفخامة. مع أندريه تاركوفسكي كان يوهان سبيستيان باخ يتمتع بالحزن والفخمامة. بالأمس بعد الظهيرة نمتُ ساعة من النوم القلق. قمتُ بوقائع حلم غريب. تعاون رئيس اتحاد المُلاك القائم علي إدارة عمارتنا مع رئيس بلدية حلوان وجهات حكومية رفيعة. كان موضوع التعاون هو توفير سجن علي سطح العمارة، وهو خاص بسكان عمارتنا، وإذا نجحتْ التجربة ستعمم في عمارات أخري لا يقل عدد شققها عن خمسين شقة. صعدتُ إلي سطح العمارة مع جارة كان خطيبها مفقوداً منذ أسبوعين. أخذتُ أنا والجارة في جيوبنا كبشة من الظلط الرفيع، وكبشة أخري من الفول السوداني المحمص، ونبلتين قويتين من خراطيم الجلوكوز الطبي. علي السطح كانت غرفة المصعد قد دُمجت مع صندوق مستطيل قبيح من الطوب الأحمر العاري. كان الصندوق أقرب إلي المستودع أو الاصطبل. وكان بابه الحديدي صغيراً جداً، وفي منتصف الجدار، ولا يصل إلي الأرض. أشارتْ الجارة سريعاً إلي خطيبها. كانت إشارتها لا تعني أنها تفتقده، بل إنها وجدته، وعلي الفور قذفته بتتابع، وهي تقترب من السياج الحديدي، بحبات الفول السوداني المحمص، ومنجنيق الظلط الرفيع. أشرتُ أنا أيضاً إلي جار لا أعرف اسمه، يسكن في الطابق الثامن، ويملك سيارة رينو زرقاء. أخذني الحماس، فرشقتُ المسجون بحبات الفول السوداني المحمص، وشددتُ عليه منجنيق الظلط الرفيع.